الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد. وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة مؤكدة قبل وزارته، فلما وزر استحال عليه فكتب إليه:
إذا لم يسالمك الزمان فحارب
…
وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب
ولا تحتقر كبداً ضعيفاً فربما
…
تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هد قدماً عرش بليقس هدهد
…
وخرب فأر قبل ذا سد مأرب
إذا كان رأس ألفال عمرك فاحترز
…
عليه من الإنفاق في غير واجب
مع أبيات اخرى بالغة في الحسن، وقوله: من أمم هو بفتح الهمزة والميم الأولى، يقال: أخذت ذلك من أمم أي من قرب. قال زهير: وحيره ما هم لو أنهم أمم أي: لو أنهم بالقرب مني. والأمم أيضاً الشيء اليسير، يقال: ما سألت إلا أمماً. وأما الأمم بضم الهمزة في قوله: ظل على مفرق الإسلام والأمم فهو جمع أمة.
سنة سبعين وخمس مائة
فيها قدم صلاح الدين وأخذ دمشق بلا ضربة ولا طعنة، وسار الصالح اسماعيل في حاشيته إلى حلب، ثم سار صلاح الدين فحاصر حمص بالمجانيق، ثم سار فأخذ حماة، ثم حاصر حلب، ثم رد وتسلم حمص، ثم عطف إلى بعلبك فتسلمها، ثم كر والتقى صاحب الموصل مسعود بن مودود فإنهزم عسكر الموصل أسوأ هزيمة، ثم وقع الصلح. واستناب بدمشق أخاه سيف الإسلام، وكان بمصر أخوه العادل. وفيها توفي أحمد بن المبارك خادم الشيخ عبد القادر الذي كان يبسط المرقعة له على الكرسي. وفيها توفي القاضي علي بن عمر بن عبد العزيز بن قرة اليمني. كان حافظاً في التفسير واعظاً على المنابر، مقبول الكلمة في أهل بلده عارفاً بتأويل الرؤيا. قيل: إن رجلاً رأى في المنام الفقيه نعيماً العشاري الذي كان يحفظ عشرة علوم، فسأله عن رؤيا فقال: إن تأويل الرؤيا يا صرف عني إلى القاضي علي بن عمر. توفي في الطرية - بتشديد الياء المثناة من تحت وفتح الطاء المهملة وكسر الراء - قرية في ناحية مسجد الرباط من بلاد اليمن بساحل عدن.
سنة احدى وسبعين وخمس مائة
فيها شنق السلطان المبتدع ابن مهدي - الملقب نفسه عبد
النبي - هو وأخوه أحمد في زبيد برسم السلطان شمس الدولة أول من ملك اليمن من بني أيوب. وابن مهدي المذكور من الآفات الكائنات والبليات والفتن العظيمات في بلاد اليمن. وفيها نقض صاحب الموصل الصلح، وسار إلى السلطان سيف الدين غازي، فالتقاه صلاح الدين بنواحي حلب، فانهزم غازي وجمعه - وكانوا ستة آلاف وخمس مائة - لم يقتل سوى رجل واحد، ثم سار صلاح الدين فأخذ منبج ثم نازل قلعة عزاز، ووثب عليه الإسماعيلية فجرحوه في خد، فأخذوا وقتلوا، وافتتح القلعة، ثم نازل حلب شهراً، ثم وقع الصلح: وترحل عنهم، وأطلق قلعة عزاز لولد السلطان نور الدين علي. وفيها توفي الفقيه الإمام المحدث البارع الحافظ المتقن الضابط ذو العلم الواسع شيخ الإسلام. ومحدث الشام ناصر السنة قامع البدعة، زين الحافظ بحر العلوم الزاخر، رئيس المحدثين المقر له بالتقدم، العارف ألفاهر ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر، الذي اشتهر في زمانه بعلو شأنه، ولم ير مثله في أقرانه، الجامع بين المعقول والمنقول، والمميز بين الصحيح والمعلوم، كان محدث زمانه ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث واشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، رحل وطوف، وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة، وكان أبو القاسم المذكور حافظاً ديناً جمع بين معرفة المتون والاسانيد، سمع ببغداد في سنة عشر وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري، ثم رجع إلى دمشق، ثم رحل إلى خراسان، ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث محظوظاً على الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلداً، أتى فيه بالعجائب، وهوعلى نسق تاريخ بغداد.
قال الإمام ابن خلكان: قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله تعالى - وقد جرى ذكر تاريخ ابن عساكر المذكور، وأخرج لي منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصرعن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبيه. قال: ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع الإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها، وله تآليف حسنة غيره، وأخرى ممتعة، قال: وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله على ما قيل:
ألا إن الحديث أجل علم
…
وأشرفه الأحاديث العوالي
وأنفع كل علم منه عندي
…
وأحسنه الفوائد في الأمالي
وإنك لن ترى للعلم شيئاً
…
محققه كأفواه الرجال
فكن يا صاح ذا حرص عليه
…
وخذه من الرجال بلا ملال
ولا تأخذه من صحف فترمى
…
من التصحيف بالداء العضال
ومن المنسوب إليه أيضاً:
أيا نفس ويحك جاء المشيب
…
فماذا التصابي وماذا العزل
تولى شبابي كأن لم يكن
…
وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة
…
وخطب المنون بها قد نزل
فياليت شعري ممن أكوان
…
وما قدر الله لي في الأزل
وقد التزم في هذه الأبيات ما لا يلزم، وهو اطراد الزاي قبل اللام، والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة حيث يقول:
شباب كأن لم يكن
…
وشيب كأن لم يزل
وليس بينهما إلا تغييريسير كما تراه. وقال بعض أهل العلم بالحديث والتواريخ: ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ فيه الذروة العليا، ومن تصفح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ. قلت: بل من تأمل تصانيفه من حيث الجملة علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم، وفضائل تحتها من المناقب والمحاسن كل طائل. ومن تآليفه الشهيرة المشتملة على الفضائل الكثيرة كتاب: تبيين كذب المفتري فيما ذسب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الأشعري. جمع فيه بين حسن العبارة والبلاغة والإيضاح والتحقيق
واستعياب الأدلة النقلية وطرقها، مع إسناد كل طريق. وذكر فيه طبقات أعيان أصحابه من زمان الشيخ أبي الحسن إلى زمانه، وأوضح ماله من المناقب والمكارم والفضائل والعزائم ورد إلى من رماه وافترى عليه بالعظائم. قلت: وكتابه المذكور الذي وفق لإنشائه ووضعه، قد اختصرته أنا في نحو من ربعه وسميته: الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم. المعلم بشرف المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية، ذكر هو فيه قريباً من ثمانين إماماً من أعيان الأئمة الأشعرية، ووفيته فيما اختصرته مائة من الأئمة الجلة النقية، واختصاري له بحذف الأسانيد اختصاراً على ما هو المقصود والمراد من ذكر أعيان الأئمة المشهورين بالموافقة في الاعتقاد، والرد على المبتدعين أولي الزيغ والإلحاد. وكان ابن عساكر المذكور رضي الله عنه حسن السيرة والسريرة. قال الحافظ الرئيس أبو المواهب: لو أر مثله، ولا من اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة منذ أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع وتحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة إياها بعد ما عرضت عليه، وقلة الالتفات - أو قال -: عدم الالتفات إلى الأمراء، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المكنر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذكره الإمام الحافظ ابن النجار في تاريخه فقال: إمام المحدثين في وقته، ومن انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة والثقة، وبه ختم هذا الشأن. وقال ابنه الحافظ أبو محمد القاسم: كان أبي - رحمه الله تعالى - مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم في كل جمعة، وفي شهر رمضان في كل يوم، ويحيي ليلة النصف للعيدين، وكان كثير النوافل والإذكار، ويحاسب نفسه على كل لحظة يذهب في غير طاعة. سمع من جماعة من المحدثين كثيرين نحواً من ألف وثلاث مائة شيخ وثمانين امرأة، وحدث بأصبهان وخراسان وبغداد وغيرها من البلاد، وسمع منه جماعة من كبار الحفاظ وخلق كثير وجم غفير. وقال الحافظ عبد القاهر الرهاوي: رأيت الحافظ السلفي والحافظ أبا العلاء الهمداني والحافظ أبا موسى المدني، فما رأيت فيهم مثل ابن عساكر رحمه الله تعالى. وفيها توفي السيد الفقيه الورع الزاهد أبو بكر بن سالم بن عبد الله من جبال اليمن،