الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى: " اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " - الحجرات 12 - وقال النبي صل الله عليه وآله وسلم: " إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن ". ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين رضي الله تعالى ورضي به - فينبغي أن يعلم به غاية حماقة، فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره، لو أراد أحد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله، ومن الذي رضي به، ومن الذي - وإن كرهه لم يقدر على ذلك كان قد قتل بجواره وزمانه، وهو يشاهده، فكيف يعلم ذلك فيما أنقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟ فهذا لا يعرف حقيقته أصلا، وإذا لم تعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وربما مات القاتل بعد التوبة، ولو جاز لعن أحد، فسكت عن ذلك، لم يكن الساكت عاصياً، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة؛ لم لم تلعن إبليس؟ وأما الترحم عليه فإنه جائز، بل مستحب، إذ هو داخل في قوله: اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله أعلم. - كتبه الغزالي -. قلت: ينبغي أن يوضح الأمر في ذلك ويفصل، وهو أنه لا يخلو: إما أن يعلم أنه أمر بقتله، فلا يخلو، إما أن يكون معتقداً جله، أولا، فإن استحله فقد كفر، وإن أمر به ولى يستحله فقد فسق، فليس القتل مقتضياً للكفر، إلا إذا كان قتلاً لنبي، وإن لم يعلم أنه أمر بقتله فلا يجوز أن يفسق بمجرد ظن ذلك والله أعلم.
سنة خمس وخمس مائة
فيها جاءت عساكر العراق والجزيرة لغزو الفرنج، فنازلوا الرها، فلم يقدروا، ثم ساروا وقطعوا الفرات، ونازلوا بعض بلاد الفرنج خمسة وأربعين يوماً، فلم يصنعوا شيئاً، واتفق موت مقدمهم واختلافهم، فردوا، وطمعت الفرنج في المسلمين، وتجمعوا، فحاصروا صور مدة طويلة. وفيها كانت ملحمة كبيرة بالأندلس بين ابن تاشفين وبعض ملوك الفرنج، وانتصر المسلمون، وأسروا وقتلوا، وغنموا مالاً يعبر عنه، وذلت الفرنج. وفيها توفي أبو محمد الآبنوسي عبد الله بن علي البغدادي المحدث، سمع من أبي القاسم التنوخي والجوهري.
وفيها توفي أبو الحسن بن العلاف علي بن محمد البغدادي الحاجب، مسند العراق. وفيها توفي الإمام حجة الإسلام زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي، أحد الأئمة الأعلام، اشتغل في مبدأ أمره بطوس، على أحمد الزادكاني، ثم قدم نيسابور، واختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وجد في الاشتغال حتى تخزج في مدة قريبة، وصار من الأعيان المشاهير المشار إليهم في زمن أساتذتهم، وصنف في ذلك الوقت، وكان أستاذه يتبجح به، ولم يزل ملازماً إلى أن توفي في التاريخ المذكور في ترجمته، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك، فأكرمه، وعظمه، وبالغ في الإقبال عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس، وظهر عليهم، واشتهر اسمه، وسارت بذكره الركبان، ثم فوض إليه الوزير تدريس مدرسته - النظامية - بمدينة بغداد، فجاءها، وباشر إلقاء الدروس بها، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وأربعمائة. فعجب به أهل العراق، وارتفعت عندهم منزلته، ثم ترك جميع ما كان عليه، وسلك طريق الزهد والانقطاع، وقصد الحج. وذكر في الشذور أنه خرج من بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة متوجهاً إلى بيت المقدس، متزهداً لابساً خشن الثياب، وناب عنه أخوه في التدريس، ثم ذكره في سنة خمس وخمس مائة. فلما رجع توجه إلى الشام، فأقام بمدينة دمشق مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع - في الجانب الغربي منه - وانتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهدة والمواضع المنظمة، ثم قصد مصر، وأقام بالاسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فبينا هو كذلك بلغه نعي يوسف المذكور، فصرف عنانه من تلك الناحية، ثم عاد إلى وطنه بطوس. قلت هذه الزيادة في ذكر دخوله مصر والإسكندرية، وقصده الركوب إلى ملك بلاد المغرب غير صحيحة، فلم يذكر أبو حامد في كتابه: المنقذ من الضلال - سوى إقامته ببيت المقدس ودمشق، ثم حج ورجع إلى بلاده والعجب كل العجب، كيف يذكر أنه قصد الملك المذكور لأرب - وهو من الملوك والمملكة هرب - فقد كان له في بغداد الجاه الوسيع، والمقام الرفيع، فاحتال في الخروج عن ذلك، وتعلل بأنه إلى الحج سالك لأداء ما عليه من فروض المناسك، ثم عدل إلى الشام، وأقام بها ما أقام وكذا علماء التاريخ الحفاظ الأكابر ومنهم الإمام الجليل أبو القاسم ابن عساكر - لم يذكر هذه الزيادة التي تنافي رفع همته عن المقاصد الدنية، لإعراضه عن الدنيا والخلق بالكلية، ولما عاد إلى الوطن اشتغل
بنفسه، وآثر الخلوة، وصنف الكتب المفيدة في الفنون العديدة. ومن مشهورات مصنفاته: الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة في الفقه، ومنها إحياء العلوم: وهو من أنفس الكتب وأجملها. وله في أصول الفقه: المستصفى والمنخول والمنتحل في علم الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر ومعيار العلم، والمقاصد، والمظنون به على غير أهله، ومشكاة الأنوار والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وكتاب ياقوت التأويل في تفسير التنزيل أربعين مجلداً، وكتاب أسرار علم الدين، وكتاب منهاج العابدين، والدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة، وكتاب الأنيس في الوحدة، وكتاب القربة إلى الله عز وجل، وكتاب اختلاف الأبرار والنجاة من الأشرار، وكتاب بداية الهداية، وكتاب جواهر القرآن، والأربعين في أصول الدين، وكتاب المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وكتاب ميزان العمل، وكتاب القسطاس المستقيم، وكتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة، وكتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وكتاب المنادى والغايات، وكتاب كيمياء
السعادة، وكتاب تدليس إبليس لعنه الله. وكتاب نصيحة الملوك، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد، وكتاب شفاء العليل في مسائل التعليل، وكتاب أساس القياس، وكتاب المقاصد، وكتاب إلجام العوام عن علم الكلام، وكتاب الانتصار، وكتاب الرسالة الدينية، وكتاب الرسالة القدسية، وكتاب أبيات النظر، وكتاب المآخذ، وكتاب القول الجميل في الرد على غير الإنجيل، وكتاب المستظهري، وكتاب الأمالي وكتاب في علم اعداد الوقف وحدوده، وكتاب مفصل الخلاف، وجزء في الرد على المنكرين في بعض الفاظ إحياء علوم الدين. وقال يمدحه تلميذه: الشيخ الإمام أبو العباس الأقلشي المحدث الصوفي، صاحب كتاب النجم والكواكب وغيره: لسعادة، وكتاب تدليس إبليس لعنه الله. وكتاب نصيحة الملوك، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد، وكتاب شفاء العليل في مسائل التعليل، وكتاب أساس القياس، وكتاب المقاصد، وكتاب إلجام العوام عن علم الكلام، وكتاب الانتصار، وكتاب الرسالة الدينية، وكتاب الرسالة القدسية، وكتاب أبيات النظر، وكتاب المآخذ، وكتاب القول الجميل في الرد على غير الإنجيل، وكتاب المستظهري، وكتاب الأمالي وكتاب في علم اعداد الوقف وحدوده، وكتاب مفصل الخلاف، وجزء في الرد على المنكرين في بعض الفاظ إحياء علوم الدين. وقال يمدحه تلميذه: الشيخ الإمام أبو العباس الأقلشي المحدث الصوفي، صاحب كتاب النجم والكواكب وغيره:
أبا حامد أنت المخصص بالحمد
…
وأنت الذي علمتنا سنن الرشد
وضعت لنا الإحياء يحيي نفوسنا
…
وينقذنا من طاعة المارد المردي
فربع عبادات وعاداتها التي
…
تعاقبها كالدر نظم في العقد
وثالثها في المهلكات وإنه
…
لمنج من الهلك المبرح بل بعدي
ورابعها في المنجيات وإنه
…
ليسرح بالأرواح في جنة الخلد
ومنها ابتهاج للجوارح ظاهر
…
ومنها صلاح للقلوب من البعد
وكتبه كثيرة، وكلها نافعة، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودات، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاها للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسه أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه هذا
ما ذكره بعض علماء التاريخ. قلت: وكان رضي الله تعالى عنه رفيع المقام، شهد له بالصديقية إلأولياء الكرام، وهو الحبر الذي باهى به المصطفى سيد الأنام موسى وعيسى - عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام - في المنام الذي رويناها بإسنادنا العالي عن الشيخ الإمام القطب أبي الحسن الشاذلي والذي أنتشر فضله في الآفاق. وتميز بكثرة التصانيف وحسنها على العلمماء، وبرع في الذكاء وحسن العبارة وسهولتها، وأبدع، خى صار إفحام الفرق عنده أسهل من شرب الماء. قال الشيخ الإمام الحافظ ذو المناقب والمفاخر السيد الجليل أبو الحسن عبد الغافر الفارسي: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين، إمام أئمة الدين، لم تر العيون مثله لساناً وبياتاً ونطقاً وخاطراً وذكاء وطبعاً، ابتدأ في صباه بطرف في الفقه في طوس، على الفقيه الإمام أحمد الزادكاني، ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان من طوس، وجد واجتهد حتى تخرج عن مدة قريبة، وصار أنظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، فكانت الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم، ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام - مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في المنطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً، لإنافته عليه في سرعة العبارة، وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف - وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر - ولكنه يظهر التبحح به والاعتداد بمكانه ظاهر أخلاق ما يضمره.
ويقال على ما ذكره بعض المؤرخين أنه لما صنف كتابه المنخول، عرضه على إمام الحرمين فقال: دفنتني وأنا حي، فهلا صبرت إلى أن أموت؟ لأن كتابك غطى على كتابي.
هكذا نقل عن إمام الحرمين - والله أعلم مع كونه بالمحل للذي شهد له بفضله الجملة من أفراد الأئمة، من ذلك ما تقدم عن الإمام السمعاني أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعاني الجويني - رحمة الله عليهم أجمعين -، وما تقدم من وصفه بإمام الأئمة على الإطلاق، وغير ذلك مما اشتهر من وصفه بالفضائل، وبراعته في العلوم في الآفاق، ثم بقي كذلك إلى أن انقضى أيام الإمام، فخرج من نيسابور، وسار إلى العسكر، واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول، وأقبل عليه الصاحب لعلو درجته وظهور اسمه وحسن مناظرته وجري عبارته، وكانت تلك الحضرة محط رحال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الاحتكاك
بالأئمة وملاقاة الخصوم ومناظرة الفحول ومناقدة الكبار، وظهر اسمه في الآفاق، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد للتدريس بالمدرسه الميمونة النظامية بها، فصار إليها، وأعجب الكل تدريسه ومناظرته، وما لقي مثل نفسه، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق، ثم نظر في علم الأصول - وكان قد أحكمه - فصنف فيه، وجدد المذهب في الفقه، فصنف فيه تصانيف، وسبك الخلاف، فحرر فيه أيضاً تصانيف، وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كادت تغلب حشمة الأكابر وأمراء دار الخلافة، فانقلب الأمر من وجه آخر، وظهر عليه بعد ممارسة العلوم الدقيقة، وممارسة الكتب المصنفة فيها، وسلك طريق التزهد والتألة، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة، ولازم الاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة، فخرج عما كان فيه، وقصد بيت الله تعالى، وحج ودخل الشام، وأقام في تلك الديار قريباً من عشر سنين، يطوف ويزور المشهد المعظمة. قلت: هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقد قدمت في فساد ذلك من البيان ما يدل فيه على البطلان، والمعروف الذي نص عليه أبو حامد في بعض كتبه أنه أقام في الشام سنتين، نعم، ذكروا أنه أقام بعد رجوعه في العزلة والخلوات، وترك الاشتغال والمخالطات قريباً من عثسرسنين. قال الشيخ عبد الغفار: وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يسبق إليها، مثل إحياء علوم الدين، والكتب المختصرة مثل الأربعين وغيرها من الرسائل التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم، وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشمائل، فانقلب شيطان الرعونة وكلب الرئاسة والجاه، والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم والتزينات والتزيي بزي الصالحين، وقصر الأمل ووقف الأوقات، أو قال: الأوقاف على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم في أمر الآخرة وتبغيض الدنيا، والاشتغال بها على السالكين، والاستعداد للرحيل للدار الآخرة الباقية، والانقياد لكل من يتوسم فيه، أو يشم منه رائحة المعرفة، أو يلحظ بشيء من أنوار المشاهدة، حتى مرن على ذلك ولان، ثم عاد الى وطنه ملازماً بيته، مشتغلاً بالتفكر، ملازماً للوقت مقصوداً تقياً، وذخراً للقلوب ولكل من يقصده، ويدخل عليه إلى أن أتى على ذلك مدة، وظهرت التصانيف، وفشت الكتب، ولم تبد في أيامه مناقضة لما كان عليه، ولا اعتراض لأحد على ما آثره، حتى انتهت نوبة الوزارة إلى الأجل فخر الملك جمال الشهداء تغمده الله
بغفرانه -، وتزينت خراسان بحشمته ودولته، وقد سمع وتحقق بمكانة الغزالي ودرجته، وكمال فضله وجلالته، وصفاء عقيدته ومعاشرته وقفاء سيرته، فتبرك به وحضره، وسمع كلامه، فاستدعى منه أن لا يبقي أنفاسه وفوائده عقيمة لا استفادة منها، ولا اقتباس من أنوارها، وألح عليه كل الإلحاح، وشدد في الاقتراح إلى أن أجاب إلى الخروج، وخرج إلى نيسابور، وكان الليث غائباً عن عرينه، والأمر خافياً في مستور قضاء الله ومكنونه، فأشير إليه بالتدريس في المدرسة الميمونة النظامية وغيرها، فلم يجد بداً من الإذعان للولاة، ونوى بإظهار ما اشتغل به هداية السراة وإفادة القاصدين، لا الرجوع إلى ما انخلع عنه، وتحرز عن رقه من طلب الجاه ومماراة الأقران، ومكاثرة المعاندين وكم فرع عصا الخلاف فيه، والوقوع فيه والطعن فيما يذره ويأتيه، والسماية به والتشنيع عليه، فما تأثر به، ولا اشتغل بجواب الطاعنين، ولا أظهر استيحاشاً لغمرة المخالفين، قال: ولقد زرته مراراً، وما كنت أحدث في نفسي مما عهدته في سالف الزمان عليه
من الدعارة، أو قال: من الزعارة وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستحقار لهم كبراً وخيلاء، واغتراراً بما رزق من البسطة في النطق والخاطر والعبارة، وطلب الجاه والعلو في المنزلة، وكنت أظن أنه متلفح بجلباب التكلف والتيمن بما صار إليه، فتحققت بعد التروي والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون. من الدعارة، أو قال: من الزعارة وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستحقار لهم كبراً وخيلاء، واغتراراً بما رزق من البسطة في النطق والخاطر والعبارة، وطلب الجاه والعلو في المنزلة، وكنت أظن أنه متلفح بجلباب التكلف والتيمن بما صار إليه، فتحققت بعد التروي والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون.
وحكي لنا في ليل كيفية أحواله من ابتداء ما ظهر له سلوك طريق التأله وغلبت الحال عليه بعد تبحره في العلوم واستطالته على الكل بكلامه، والإستعداد بالذي خصه الله تعالى به في تحصيل العلوم، وتمكنه من البحث والنظر حتى تنزه عن الاشتغال بالعلوم العربية عن المقالة، وتفكر في العاقبة وما يجدي وينفع في الآخرة، فابتدأ بصحبة الفارمذ، وأخذ مفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل، واستدامة الإذكار والجد والاجتهاد، طلباً للنجاة، إلى أن جاز تلك العقابات، وتكلف تلك المشاق وما يحصل على، ما كان يطلبه من مقصوده، ثم حكى أنه راجع العلوم وخاض في الفنون، وعاود الجد والاجتهاد في كتب العلم الدقيقة، واقتفى بأربابها حتى انفتح له أبوابها، وبقي مدة في الوقائع، وتكافؤ الأدلة وأطراف المسائل، ثم حكى أنه فتح عليه من باب الخوف باب بحيث شغله عن كل شيء وحمله على الإعراض عما سواه تعالى، حتى سهل ذلك، وهكذا إلى أن ارتاض كل الرياضة، وظهرت له الحقائق، وصار ما كنا نظن به ناموساً وكلف طبعاً وتحققاً، وأن ذلك أثر السعادة المقدرة له، من الله تعالى، ثم
سألناه عن كيفتة الرغبة في الخروج عن بيته، والرجوع إلى ما دعي إليه من أمر نيسابور، فقال معتذراً عنه: ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة، وقد حق علي أن أبوح بالحق، وأنطق به، وأدعو إليه، وكان صادقاً في ذلك، ثم ترك ذلك قبل أن يترك، وعاد إلى بيته، واتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاهاً للصوفية، وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس، بحيث لا تخلو لحظة من لحظاته ولحظات من معه عن فائدة، إلى أن أصابه عين الزمان ومن الأيام به على أهل عصره، فنقله الله تعالى إلى كريم جواره من بعد مقاسات أنواع من التقصد والمناوأة من الخصوم، والسعي به إلى الملوك، وكفاية الله تعالى وحفظه وصيانته عن أن تنوشه أيدي النكبات، أو ينتهك ستر دينه بشيء من الزلات. وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين: البخاري والمسلم اللذين هما حجة الإسلام، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن في يسير من الأيام يستفزعه في تحصيله، ولا شك أنه سمع الأحاديث في الأيام الماضية، واشتغل في آخر عمره بسماعها، ولم تتفق له الرواية، وما خلف من الكتب المصنفة في الأصول والفروع وسائر الأنواع يخلد ذكره، ويقرر عند المطالعين المنصفين المستفيدين منها أنه لم يخلق مثله بعده، ومضي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة، خصه الله تعالى بأنواع الكرامة في آخرته، كما خصه بفنون العلم بدنياه بمنة ورحمته. وقلت إلى شيء من ذكر ارتفاع مناقبه وبحر علوم كتبه - أشرت - والانتفاع في بعض القصيدات بقولي في هذه الأبيات:
وأحيا علوم الدين طالعه ينتفع
…
ببحر علوم المستنير المحصل
أبي حامد الغزال غزل مدقق
…
من الغزل لم يغزل كذاك بمغزل
دعي حجة الإسلام لا شك أنه
…
لذلك كفؤ كامل للتأهل
له في منامي قلت: إنك حجة
…
لإسلامنا لي قال: ما شئت لي قل
وقلت في أخرى:
بناكم وجير من بناء قواعد
…
وجمع معان واختصار مطول
وكم من بسيط في جلاء نفائس
…
وإيضاح إيجاز وحل لمشكل
وكم ذي اقتصار مودع رب قاطع
…
لإفحام خصم مثل ماض به اعتل
بكف همام ذب عن منهج الهدى
…
بحرب نصال لا يرى غير أول
كمثل الفتى الحبر المباهي بفضله
…
فعنى بغزال العلى وتغزل
به المصطفى باهي لعيسى ابن مريم
…
جيليل العطايا والكليم المفضل
أعندكما حبر كهذا فقيل: لا
…
وناهيك في هذا الفخار المؤثل
رآه الولي الشاذلي في منامه
…
وترويه عنه من طريق مسلسل
تصانيفه فاقت بنفع وكثرة
…
وحلة حسن كم بها لعزيز قل
وكم حجة الإسلام حاز فضيلة
…
وكم حلة حسناتها فضله جلي
بها جاهل مع حاسد طاعن فذا
…
تعامى وعنها ذاك أعمى قد ابتلي
وما ضر سلمى ذم عالي جمالها
…
ومنظرها الباهي ومنطقها الحلي
لئن ذمها جاراتها ونضائر
…
وعين جمالاً في حلاها وفي الحلي
فما سلمت حسناء عن ذم حاسد
…
وصاحب حق من عداوة مبطل
ولم يعقب إلا البنات، وكان يعرض عليه الأموال فما يقبلها، ويعرض عنها، ويكتفي بالقدر الذي يصون له دينه، ولا يحتاج معه إلى التعرض لسؤال. قال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر - رحمة الله عليه -: سمعت الإمام الفقيه أبا القاسم سعد بن علي بن أبي هريرة الاسفرائيني الصوفي الشافعي بدمشق قال: سمعت الشيخ الإمام الأوحد زين القراء جمال الحرم أبا الفتح عامر بن بحام بن أبي عامر الساوي بمكة - رحمه الله تعالى - يقول: دخلت المسجد الحرام يوم الأحد فيما بين صلاة الظهر والعصر الرابع عشر عن شوال سنة خمس وأربعين وخمسمائة - وذكر شيئاً ظهر عليه من الوجد وأحوال الفقراء - قال: فكنت لا أقدر أن أقف، ولا أجلس لشدة ما بي، فكنت أطلب موضعاً أستريح فيه ساعة على جنبي، فرأيت باب بيت الجماعة للرباط الراسي عند باب المروة مفتوحاً، قلت: يعني في جهة الباب المسمى في الحديث الحزور، قال: فقصدته، ودخلت فيه، وقعت على جنبي الأيمن بحذاء الكعبة المشرفة مفترشاً يدي تحت خدي، لكيلا يأخذني النوم، فينقض طهارتي، فإذا برجل من أهل البدعة معروف بها، جاء ونشر مصلاه على باب ذلك البيت، وأخرج لوحاً من جيبه أظنه كان من الحجر، وعليه كتابة، فقبله ووضعهه بين يديه، وصلى صلاة طويلة مرسلاً يديه فيها على عادتهم، وكان يسجد على ذلك اللوح في كل مرة، فإذا فرغ من صلاته سجد عليه وأطال فيه، وكان يمعك خده من الجانبين عليه، ويتضرع في الدعاء ثم رفع رأسه وقبله ووضعه على عينيه، ثم قبله ثانياًوأدخله في جيبه كما كان.
فلما رأيت ذلك كرهته، واستوحشت منه، وقلت في نفسي؛ ليت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حياً فيما بيننا، ليخبرهم بسوء صنيعهم، وما هم عليه من البدعة ومع هذا التفكر كنت أطرد النوم عن نفسي كيلا يأخذني فيفسد طهارتي، فبينا أنا كذلك إذ طرأ علي النعاس وغلبني، فكنت بين اليقظة والمنام، فرأيت عرصة واسعة فيها ناس كثيرون واقفون، وفي يد كل واحد منهم كتاب مجلد، قد تحلقوا كلهم على شخص، فسألت الناس عن حالهم، وعمن في الحلقة فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلا أصحاب المذهب، يريدون أن يقرؤوا مذاهبهم واعتقادهم من كتبهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصححوها عليه، قال: فبينا أنا كذلك أنظر إلى القوم، إذ جاء واحد من أهل الحلقة - وبيده كتاب - قيل إن هذا هو الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فدخل وسط الحلقة، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأيت رسول الله - صلى الله على وآله وسلم - في جماله وكماله لابساً الثياب البيض النظيفة، من العمامة والقميص وسائر الثياب على زي أهل الصوف، فرد عليه الجواب، ورحب به، وقعد الشافعي بين يديه، وقرأ من الكتاب مذهبه واعتقاده، وجاء بعد ذلك شخص آخر قيل هو الإمام الأعظم أبو حنيفة الكوفي - رضي الله تعالى عنه - وبيده كتاب، فسلم وقعد يمين الشافعي، وقرأ من الكتاب مذهبه واعتقاده، ثم أتى بعده كل صاحب مذهب إلى أن لم يبق إلا القليل، وكل من يقرأ يقعد بجنب الآخر. فلما فرغوا، إذا واحد من المبتدعة الملقبة بالرافضة - لعنهم الله - قد جاء وبيده كراريس غير مجلدة، وفيها ذكر عقائدهم الباطلة، وهم أن يدخل الحلقة، ويقرأها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج واحد ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزجره، وأخذ الكراريس من يده، ورمى بها إلى خارج الحلقة وطرده، وأهانه. قال: فلما رأيت أن القوم قد فرغوا، وما بقي أحد يقرأ عليه شيئاً تقدمت قليلاً - وكان
في يدي كتاب مجلد - فناديت وقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكتاب معتقدي ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي حتى أقرأه عليك؟ فقال عليه السلام: وإيش ذلك؟ قلت: يا رسول الله، هو قواعد العقائد الذي صنفه الغزالي، فأذن لي في القراءة، فقعدت وابتدأت: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب قواعد العقائد، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة التي هي أحد مباني الإسلام. وذكر أنه قرأ العقيدة المذكورة إلى أن انتهى إلى قول الإمام أبي حامد: معنى الكلمة الثانية: وهي شهادة الرسول، وأنه - تعالى - بعث النبي الأمي القرشي محمد - صلى الله عليه
وآله وسلم - إلى كافة العرب والعجم والجن والأنس، قالى: فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والتبسم في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا انتهيت إلى نعته وصفته التفت إلي وقال: أين - الغزالي؟ فإذا بالغزالي كأنه كان واقفاً على الحلقة بين يديه، فقال: ها أنا ذا، يا رسول الله، وتقدم، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرد عليه الجواب، وناوله يده العزيزة والغزالي يقبل يده المباركة، ويضع خديه عليها تبركاً وبيده العزيزة المباركة، ثم قعد وقال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر استبشاراً بقراءة أحد، مثلما كان بقراءتي عليه قواعد العقائد. ثم انتبهت من النوم وعلى عيني أثر الدمع مما رأيت من تلك الأحوال والكرامات -، فإنها كانت نعمة جسيمة من الله تعالى - سيما في آخر الزمان مع كثرة الأهواء - فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على عقيدة أهل الحق، ويحيينا عليها، ويميتنا عليها، ويحشرنا معهم، ومع الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، فإنه بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير والغزالي - بفتح الغين المعجمة وتشديد الزاي وبعد الألف لام. قال ابن خلكان: هذه النسبة إلى الغزال على عادة أهل خوارزم وجرجان، فإنهم ينسبون إلى القصار القصاري، إلى العطار والعطاري، وقيل إن الزاي مخففة نسبة إلى غزالة، وهي قرية من قرى طوس، قال: وهو خلاف المشهور، ولكن هكذا قال السمعاني في كتاب الأنساب والله أعلم بالصواب. قلت وفضائل الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي - رضي الله تعالى عنه - أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر. وقد روينا عن الشيخ الفقيه الإمام العارف بالله، رفيع المقام الذي اشتهرت كرامته العظيمة، وترادفت، وقال للشمس يوماً؛ قفي، فوقفت حتى بلغ المنزل الذي يريد من مكان بعيد. عن أبي الذبيح اسماعيل ابن الشيخ الفقيه الإمام ذي المناقب والكرامات والمعارف: محمد بن اسماعيل الحضرمي - قدس الله أرواح الجميع - أنه سأله بعض الطاعنين في الإمام أبي حامد المذكور - رضي الله تعالى عنه - في فتيا أرسل بها إليه: هل يجوز قراءة كتب الغزالي؟ فقال رضي الله عنه في الجواب: إنا لله، وإنا إليه راجعون، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء، ومحمد بن إدريس سيد الأئمة، ومحمد بن محمد بن محمد الغزالي سيد المصنفين، هذا جوابه رحمة الله عليه. وقد ذكرت في كتاب الإرشاد أنه سماه سيد المصنفين، لأنه تميز عن المصنفين بكثرة
المصنفات البديعات، وغاص في بحر العلوم، واستخرج عنها الجواهر النفيسات، وسحر العقول يحسن العبارة وملاحة الأمثلة وبداعة الترتيب والتقسيمات والبراعة في الصناعة العجيبة، مع جزالة الألفاظ وبلاغة المعاني الغريبات، والجمع بين علوم الشريعة والحقيقة، والفروع والأصول، والمعقول والمنقول، والتدقيق والتحقيق، والعلم والعمل، وبيان معالم العبادات والعادات، والمهلكات والمنجيات، وأبراز محاسن أسرار المعارف المحجبات العاليات، والانتفاع بكلامه علماً وعملاً لا سيما أرباب الديانات - والدعاء إلى الله سبحانه برفض الدنيا والخلق ومحاربة الشيطان والنفس، بالمجاهدة والرياضيات، وإفحام الفرق أيسر عنلى من شرب الماء: بالبراهين القاطعة، وتوبيخ علماء السوء الراكنين إلى الظلمة والمائلين إلى الدنيا الدنية، أولي الهمم الدنيات، وغير ذلك مما لا يحصى مما جمع في تصانيفه من المحاسن الجميلات والفضائل الجليلات، مما لم يجمعه مصنف - فيما علمنا - ولا يجمعه فيما نظن، ما دامت الأرض والسماوات، فهو سيد المصنفين عند المنصفين، وحجة الإسلام عند أهل الاستسلام لقبول الحق من
المحققين في جميع الأقطار والجهات، وليس يعني أن تصانيفه أصح، فصحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب المصنفات. وقد صنف الشيخ الفقيه الإمام المحدث شيخ الإسلام، عمدة المسندين ومفتي المسلمين، جامع الفضائل قطب الدين: محمد ابن الشيخ الإمام العارف أبي العباس القسطلاني - رضي الله تعالى عنهما - كتاباً أنكر فيه على بعض الناس، وأثنى على الإمام أبي حامد الغزالي ثناء حسناً، وذم إنساناً ذمة، قال في أثناء كلامه: ومن نظر في كتب الغزالي وكثرة مصنفاته وتحقيق مقالاته، عرف مقداره، واستحسن آثاره، واستصغر ما عظم من سواه، وعظم قدره فيما أمده الله به من قوله، ولا مبالاة بحاسد قد تعاطى ذمة أو معانداً، بعده الله عن إدراك معاني بهمة، فهو كما قيل: في جميع الأقطار والجهات، وليس يعني أن تصانيفه أصح، فصحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب المصنفات. وقد صنف الشيخ الفقيه الإمام المحدث شيخ الإسلام، عمدة المسندين ومفتي المسلمين، جامع الفضائل قطب الدين: محمد ابن الشيخ الإمام العارف أبي العباس القسطلاني - رضي الله تعالى عنهما - كتاباً أنكر فيه على بعض الناس، وأثنى على الإمام أبي حامد الغزالي ثناء حسناً، وذم إنساناً ذمة، قال في أثناء كلامه: ومن نظر في كتب الغزالي وكثرة مصنفاته وتحقيق مقالاته، عرف مقداره، واستحسن آثاره، واستصغر ما عظم من سواه، وعظم قدره فيما أمده الله به من قوله، ولا مبالاة بحاسد قد تعاطى ذمة أو معانداً، بعده الله عن إدراك معاني بهمة، فهو كما قيل:
قل لمن عن فضائله تعامنى
…
تعام، لن تعدم الحسناء ذاما
هذا بعض كلامه بحروفه، وقال بعض العلماء المالكية والمشايخ العارفين الصوفية، الناس من فضلة علوم الغزالي، معناه: أنهم يستمدون من علومه ومدده، ويستعينون بها على ما هم بصدده، زاده الله تعالى فضلاً ومجداً على رغم الحساد والعدى. قلت وقد اقتصرت على هذا القدر اليسير من محاسنه وفضله الشهير، محتوياً بذكر شيء مما له من الفضل الباهر والجاه والنصيب الوافرة، وشرف المجد والمفاخر، مما روينا بالأسانيد العالية عن السادة الأكابر، أعني: أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعزير
من أنكر عليه ونعم الأمر - حتى إن المنكر ما مات إلا وأثر السوط على جسمه ظاهر بنصر الله عز وجل ونعم الناصر. وفي السنة المذكورة توفي أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي الملقب بشبل الدولة، كان من أولاد أمراء العرب، فوقعت بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحلته عنهم، ففارقهم، ووصل إلى بغداد، ثم خرج إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك، وصاهره، ولما قتل نظام الملك رثاه ببيتين تقدم ذكرهما في ترجمته، ثم عاد إلى بغداد، وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان، مسترفداً وزيرها مكرم بن العلاء وكان من الأجواد فكتب إلى المستظهر بالله قصته، يلتمس منه الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، يتضمن الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: يا أبا الهيجاء، أبعدت النجع، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، فطريقته في الخير مهي، وما يسر به إليك، فيحلي ثمره سكره، ويستعذب مياه بره، والسلام. فأكتفى أو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب، وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير، واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه، وعرض عليه رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته إجلالاً وتعظيماً لكاتبها، وأوصل لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته، ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده:
دعي العيس تذرع عرض الفلا
…
إلى ابن العلاء وإلا فلا
فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار آخر، ولما كمل إنشاد القصيدة أطلق له ألف دينار آخر، وخلع عليه وقاد إليه جواداً يركبه، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع ومرفوع، وقد دعا لك بسرعة الرجوع، وجهز بجميع ما يحتاج إليه، ورجع إلى بغداد، وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم الفائق الرائق، وبينه بين العلامة أبي القاسم الزمخشري مكاتبات وأشعار، يمدح كل منهما الآخر.