الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التيان وغيره، وروى عن أبي محمد الجوهري، قال السلفي: ما رأيت مثله، وما يقدر أحد أن يتكلم معه لغزارة علمه وبلاغة كلامه وقوة حجته. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسين الدامغاني علي ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الحنفي، ولي القضاء أربعاً وعشرين سنة، وكان ذا حزم ورأي وسؤدد وهيبة وافرة، وديانة ظاهرة. وفيها توفي أبو بكر محمد بن طرخان التركي ثم البغدادي المحدث النحوي، أحد الفضلاء، روى عن أبي جعفر بن المسلمة وطبقته، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق، وكان ينسخ بالأجرة، وفيه زهد وورع تام. وفيها توفي أبو سعد المبارك بن علي، من كبار أئمة المذهب. روى عن القاضي أبي يعلى وجماعة، وتفقه على الشريف أبي جعفر بن أبي موسى.
سنة أربع عشرة وخمس مائة
فيها كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه مسعود صاحب أذربيجان والموصل، وله يومئذ إحدى عشرة سنة، فلما التقوا انهزم مسعود وأسر وزيره، وفي هذا الوقت كان ظهور ابن تومرت بالمغرب. وفيها قتل في حصن تعز من بلاد اليمن أسعد بن أبي الفتوح بن العلاء بن الوليد الحميري، قتله رجلان من أصحابه، ودفن في الحصن، قيل: فلما قدم من بني أيوب سيف الإسلام إلى اليمن نبش وأخرج إلى مقابر المسلمين. وفيها، وقيل في التي بعدها توفي في الجند الفقيه الإمام عالم العلماء مفيد الطالبين وقدوة الأنام زيد بن عبد الله اليمني - اليفاعي بالفاء قبل الألف وبعد المثناة من تحت - نسبة إلى يفاعة: مكان في اليمن. تفقه على الشيخ الإمام أبي بكر بن جعفر بن عبد الرحيم المخائي - نسبة إلى المخا: بالخاء المعجمة المخففة وفتح الميم قبلها؛ مكان قريب من زبيد على ساحل البحر - توفي أبو بكر المذكور سنة خمس مائة، أخذ عنه جماعة، وكان يحفظ المجموع للمحاملي، والجامع في الخلاف لأبى جعفر - على ما نقل الإمام طاهر ابن الإمام
العلامة يحيى صاحب البيان عن والده المذكور - وتفقه زيد أيضاً بصهره الإمام إسحاق بن يوسف الصروفي، ثم ارتحل إلى مكة في المرة الأولى، فأدرك فيها تلميذي الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي مصنف المهذب، وهما الحسين بن علي الشاشي الطبري مصنف العدة وأبو نصر البندنيجي مصنف المعتمد في الخلاف، فقرأ عليهما، وطريقه في المهذب وكتاب التبصرة في علم الكلام في أصول الدين إلى أبي نصر البندنيجي. وذكر ابن سمرة أنه لما رجع زيد المذكور من مكة إلى الجند سنة اثنتي عشرة وخمس مائة اجتمع عنده في الجند ما يزيد على مائتي رجل من أجلة الفقهاء من تهامة وأبين وحضرموت والشحر والشام وغير ذلك، وقرأ الإمام يحيى بن أبي الخير عليه النكت في الخلاف: تصنيف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع عليه أيضاً بقراءة الفقيهين، الإمام عبد الله الهمداني وعبد الله بن يحيى الصعبي، وبقراءة غيرهما من الفقهاء الأجلة عدة كتب في الفقه والخلاف والأصول، وذلك في دولة السلطان أبي الفتوح الحميري، فعظم حال الفقيه وجمل أمره، واجتمع المؤالف - والمخالف على مودته، وكان لا يصلي في الجامع إلا الجمعة في آخر المسجد. قلت لعل تأخره عند حضور الجماعة في الصلوات لما يخشى من الضرر في اجتماع الناس عليه وازدحامهم بحسن اعتقادهم فيه، أو غير ذلك من الآفات، كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي أنه رأى بمكة بعض العارفين يصلي في بيته، لا يحضر المسجد الحرام، فسأله عن ذلك فذكر كلاماً معناه أنه يدخل عليه من الضرر في الخروج أكثر مما يدخل عليه النفع. رجعنا إلى ذكر زيد اليفاعي: روى ابن سمرة عن بعض من أدرك أنه قال: دخلت الجند أستفتيه عن مسألة في الفرائض - وكان صغير الخلق دقيق الجسم - فوجدته يدرس أصحابه في دهليز بيته، فهبته هيبة عظيمة، فغلطت سؤالي، ورددت كلامي، فآنسني بكلامه، وأجابني عن سؤال بأحسن الجواب. قلت وقوله: كان صغير الخلق دقيق الجسم: أراد بذلك الإعلام بحليته والتعريف دون الانتقاص والتعنيف، وقد وجد مثل هذا الخلق في كثير من العلماء والأولياء على ما اقتضت حكمة العليم القدير من التفاوت بين الكبير من الخلق والصغير. وحكى ابن سمرة أنه سئل بعض الفقهاء بحضرة الإمام زيد المذكور عن الفقيه ابراهيم ابن علي ابن الإمام الحسين بن علي الطبري مصنف كتاب العدة؛ كيف كان حاله في العلم؟
فقال: هو مجود، ولولا أنه اشتغل بالعبادة مع الصوفية لكان في الفقه إماماً وفي الخلاف كاملاً. قال الراوي: وكان حاضراً فقلت له: طريقته هذه غير ملومة ولا مكروهة، فقال لي:
كان الشيخ - يعني جده القاضي حسين الطبري المذكور - يكره ذلك ويقول: اشتغال العالم بالعبادة فرار من العلم فأعجب، أو قال: أعجب زيد بهذه الحكمة. وقلت: هذا صحيح، لأن الحرص في العلم يقوم مقام العبادة، ولو كان فيه بعض قساوة انتهى، وهو بعض كلامه، وذكر بعده ما يوافقه من أقوال بعض الفقهاء. قلت ولا شك أن فضل العلم وشرفه معروفان، ولكن الشأن في إخلاصه والعمل به، فإذا حصل ذلك فهو النهاية، ومع هذا فأحوال الناس مختلفة، وقد قسمتهم في كتاب الإرشاد على خمسة أقسام، وليس إطلاق الكلام في الندب إلى إحدى الطريقين صحيحاً، بل لا بد من تفصيل، فمن كان له نية صحيحة في العلم ونجابة في الفهم، ولم يغلب عليه أحوال الرجال المشاهدين لنور الجمال، فلا شك أن هذا يندب له المبادرة وبذل المجهود في الاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك بشيء من العبادة ولزوم سيرة السلف من التعفف والتورع والتقلل من الدنيا، وإن كان في ذلك ما ذكر من بعض القساوة، فقد أنصف في ذلك، وأما من لم يكن كما ذكرنا إما لعدم صلاح النية وإما لعدم القابلية، وإما لخوف كثرة الآفات في المخالطات، وإما لإمتلاء القلب بمحبة العبادات واستئناسه بالمناجاة في الخلوات، وإما لورود الأحوال ووجود المشاهدات، أعني مشاهدة نور الجمال واستيلاء هيبة العظمة والحلال، فكل هؤلاء واقفون مع ما ورد على قلوبهم، لكلى قوم مشرب وفي الهوى مذهب، ولقد أحسن قائلهم.
كانت لقلبي أهواء مفرقة
…
فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم
…
شغلاً بحبك يا ديني ودنياي
ولقد وقع بي في ابتداء اشتغالي بالعلم خاطر أن ألقياني في مجاذبتهما: أحدهما يجذبني إلى العلم طلباً لفضله، والآخر إلى العبادة لوجود حلاوة فيها وسلامة من آفات المخالطات والتشتت في البحث والمجادلات، واشتعل في باطني مثل النار في القريحة المحرورة للمجاذبة المذكورة، ثم حصلت والحمد لله إشارة أذهبت عني ذلك الاحتراق، مردتني إلى التسليم إلى ما سبق به القضاء بتقدير الخلاق، وذلك أني في حال تلك الشدة لما قلقت، ولم أستطع نوماً ولا قراراً، ومعي كتاب أطالعه ليلاً ونهاراً، فتحته في ذلك الوقت فرأيت فيه ورقة قابلتني أول ما فتحته ولم أرها قبل ذلك مع طول ما طلبته، وفيها أبيات ما كنت سمعتها، وهي:
كن عن همومك معرضاً
…
وكل الأمور إلى القضا
فلربما اتسع المضيق
…
وربما ضاق الفضا
ولرب أمرمتعب
…
لك في عواقبه رضا
الله يفعل ما يشاء
…
فلا تكن متعرضا
فلما قرأتها كأنما صب ماء على تلك النار، فرد ذلك الاحتراق، وذهبت تلك الأكدار، وأنشد لسان مقالي في تلك الوقت ما يوافق حالي، وناديت قلبي:
اسمع وخذ بالإشارة
…
فيا حسن ما في ضمها من بشارة
ودربي مع ريح القضا حيث دارت
…
وسلم لسلمى ثم سر حيث سارت
عسى من خدور الحي تبدو بدورها
…
توسلت حتى أقبلتك ثغورها
ألا يا لقومي أعلموني بحيلة
…
إلى وصل خودات كعاب جميلة
أراك الحمى قل لي بأي وسيلة
…
إذا ما بدت ناديت في كل حيلة
بقطع لأهلي مع فراقي لبلدتي
…
وذلي وسيحي في البلاد وغربتي
وإيناس نفسي بعد زفري وحضرتي
…
رحمت على صبري على كل كربة
ثم استمريت في مدة يسيرة بشيء من الأشغال والاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك يتخلل البطالات، ثم خطر لي عند وقوفي على كلام الفقهاء الذين نحن بصدده هذه الأبيات:
تقضى زماني والقضاء مصرفي
…
وكان إلى العلم الشريف تشوفي
وما كانت الأيام إلا قلائلاً
…
به ثم مال القلب نحو التصوف
ومن لم يسل في دهره نحوه يمت
…
ولم يهو من صاحي جمالاً ويعرف
فإن كنت ذا جهل بمنهج حبه
…
ومشربه سل عنه أهل التعرف
قلت وفضل التصوف وأهله أولي الصفاء والأنوار والمعارف والأسرار، والقرب والمنادمات والحضرة والمشاهدات، لا يسعه مجلدات، وقد ذكرت نبذة من ذلك في كتاب الأسرار والنظير، في فضل ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه العزيز، وفضل الأولياء والناسكين، والفقراء والمساكين، وفي كتاب روض الرياحين في حكايات الصالحين، وفي كتاب نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ أولي المقامات العالية، قدس الله تعالى أرواحهم، ونور ضرائحهم ونفعنا ببركاتهم، وجعلنا معهم في محياهم ومماتهم، آمين، ولله در قائلهم في وصف راح الهوى المعمورة من نور الجمال التي سكر بها المحبون أولو الأحوال، حيث أنشد وقال:
هبنا لأهل الدير كم سكروا بها
…
وما شربوا منها، ولكنهم هموا
على نفسه فليبك من ضاع عمره
…
وليس له منها نصيب ولاسهم
وفيها توفي أبو علي الحسن بن خلف القيراوني المقرىء، صاحب تلخيص العبارات في القراءات. والوزير مؤيد الدين الحسين بن علي الأصبهاني، صاحب ديوان الإنشاء للسلطان محمد بن ملك شاه، كان من أفراد الدهر وحامل لواء النظم والنثر وهو صاحب لامية العجم. والحافظ الكبير أبو علي بن سكرة حسين بن محمد الأندلسي حج سنة إحدى وثمانين وسمع ببغداد من البانياسي وطبقته، وأخذ التعليقة الكبرى عن أبي بكر الإمام الشاشي المستظهري واخذ بدمشق عن الفقيه الإمام نصر المقدسي، ورد إلى بلاده بعلم جم وبرع في الحديث وفنونه، وصنف التصانيف. فأكره على القضاء، فوليه، ثم اختفى حتى عفي، واستشهد في المصاف وهو أبناء الستين. وفيها توفي الإمام أبو نصر عبد الرحمن ابن الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري كان إماماً كبيراً، أشبه أباه في علومه ومجالسه، وواظب على حضور درس إمام الحرمين حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف. ثم خرج، فوصل الى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه. وأطبق علماء بغداد على أنهم لم يروا مثله. وكان يعظ في المدرسة النظامية ورباط شيخ الشيوخ، وله مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد إذ هو وأبو وشيخه إمام الحرمين وغيرهم من أكابر العلماء ورؤوس الأشاعرة، وانتهى الأمر إلى فتنة بين الفريقين، قتل فيها جماعة من الطائفتين، وركب أحد أولاد نظام الملك حتى سكنها، وبلغ الخبر نظام الملك وهو بأصبهان وسير إليه استدعاءه، فلما حضر عنده زاد في إكرامه، ثم جهزه إلى نيسابور فلما وصل إليها لازم الوعظ والدرس إلى أن قارب انتهاء أمره، فأصابه ضعف في أعضائه وقال بعضهم: فالج فأقام لذلك مقدار شهر، ثم توفي ضحوة نهار الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بنيسابور، ودفن بالمشهد المعروف بهم، وكان يحفظ من الشعر والحكايات شيئاً كثيراً. وأبو منصور محمود بن اسماعيل الصيرفي الأشقر، راوي المعجم الكبير للطبراني. قال السلفي: كان صالحاً.