الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَقَرَأَ مَا فِيهِ)، أَيْ: الْكِتَابِ (بِقَلْبِهِ) دُونَ لِسَانِهِ، رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ فَعَلَهُ. (وَلَا) تَبْطُلُ أَيْضًا (بِعَمَلِ قَلْبٍ وَلَوْ طَالَ) ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ؛ (فَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ غَلَبَ وَسْوَاسٌ عَلَى أَكْثَرِهَا) فَيَجْتَهِدُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ عَلَى رَفْضِهِ حَسْبَ الْإِمْكَانِ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى إفْسَادِ عِبَادَتِهِ.
[بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]
وَالتَّطَوُّعُ فِي الْأَصْلِ: فِعْلُ الطَّاعَةِ، وَشَرْعًا، وَعُرْفًا: طَاعَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَالنَّفَلُ، وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ، وَالتَّنَفُّلُ: التَّطَوُّعُ.
(صَلَاةُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ تَطَوُّعِ بَدَنٍ لَا قَلْبٍ) .
لِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ إلَى سَالِمٍ. قَالَ أَحْمَدُ: سَالِمٌ لَمْ يَلْقَ ثَوْبَانَ، بَيْنَهُمَا شَعْبَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَلَهُ طُرُقٌ فِيهَا ضَعْفٌ.
وَلِأَنَّ فَرْضَهَا آكَدُ الْفُرُوضِ، فَتَطَوُّعُهَا آكَدُ التَّطَوُّعَاتِ، وَلِأَنَّهَا تَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْعِبَادَةِ: الْإِخْلَاصُ وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَمُنَاجَاةُ الرَّبِّ، وَالتَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: التَّطَوُّعُ تَكْمُلُ بِهِ صَلَاةُ الْفَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا.
وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَبَقِيَّةُ الْأَعْمَالِ. انْتَهَى.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ (بَعْدَ جِهَادٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] وَحَدِيثُ: «وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» .
وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ (فَتَوَابِعُهُ مِنْ نَحْوِ نَفَقَةٍ فِيهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261] الْآيَةَ.
وَحَدِيثُ: «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ. (فَعُلِمَ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ مِنْ نَحْوِ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ) كَتَفْسِيرٍ وَأُصُولٍ لِحَدِيثِ:«فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» الْحَدِيثَ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ. (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:(تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ)، أَيْ: مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَى الْمُعَانِدِ، وَإِقَامَةُ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ كَالْجِهَادِ بِالرَّأْيِ. (وَقَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ. وَ) نَقَلَ مُهَنَّا: (طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ) قِيلَ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ؟ قَالَ: يُطْلَبُ (بِنِيَّةِ تَوَاضُعٍ بِهِ وَنَفْيِ جَهْلٍ: عَنْهُ) .
وَقَالَ لِأَبِي دَاوُد: شَرْطُ النِّيَّةِ شَدِيدٌ، حُبِّبَ إلَيَّ فَجَمَعْتُهُ.
وَسَأَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ: يُطْلَبُ الْحَدِيثُ بِقَدْرِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ قَدْ اُنْتُفِعَ بِهِ؛ قَالَ: الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ.
(وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ: أَنَّ تَذَاكُرَ بَعْضِ لَيْلَةٍ) فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ (أَحَبُّ إلَى) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ مِنْ إحْيَائِهَا)، وَأَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ قُلْتُ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالطَّلَاقُ، وَنَحْوُ
هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ فَعَلَ هَذَا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ، لَا لِلَّهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ لَيْسَ مَذْمُومًا، بَلْ قَدْ يُثَابُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الثَّوَابِ، إمَّا بِزِيَادَةٍ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا فَيَتَنَعَّمُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ وَثَوَابِهِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهَا إلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ.
وَقَوْلِ الْآخَرِ: طَلَبُهُمْ لَهُ نِيَّةٌ، يَعْنِي: نَفْسُ طَلَبِهِ حَسَنٌ يَنْفَعُهُمْ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَيَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقُومُ بِهِ دِينُهُ، قِيلَ لَهُ: فَكُلُّ الْعِلْمِ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ، قَالَ: الْفَرْضُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَلَبِهِ.
قِيلَ: مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ: صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمُرَادُ أَحْمَدَ: مَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ.
فَمَتَى قَامَتْ طَائِفَةٌ بِعِلْمٍ لَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ قَامَتْ بِفَرْضِ كِفَايَةٍ، ثُمَّ مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ فَنَفْلٌ فِي حَقِّهِ وَوُجُوبُهُ، مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ، دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، وَلْيَحْذَرْ الْعَالَمُ وَيَجْتَهِدْ، فَإِنَّ ذَنْبَهُ أَشَدُّ.
نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ: الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ، لَيْسَ الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: يُغْفَرُ لِسَبْعِينَ جَاهِلًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَذَنْبُهُ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِ الْيَهُودِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي آدَابِ عُيُونِ الْمَسَائِلِ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى اللَّهِ وَأَوْلَاهُمْ بِهِ، أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً. (وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَفْضَلُ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ) فَظَاهِرُهُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَالَ فِي
الْفُرُوعِ: (لِأَنَّ الْعِلْمَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ مَعْلُومِهِ) وَثَمَرَاتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا تَشْرُفُ الْعُلُومِ بِحَسْبِ مُؤَدِّيَاتِهَا، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ الْبَارِئِ، فَيَكُونُ الْعِلْمُ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ، وَمَا يَجُوزُ، أَجَلَّ الْعُلُومِ.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (اسْتِيعَابُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْعِبَادَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا أَفْضَلُ مِنْ جِهَادٍ لَمْ تَذْهَبْ فِيهِ نَفْسُهُ وَمَالُهُ، وَهِيَ)، أَيْ: الْعِبَادَةُ (فِي غَيْرِ الْعَشْرِ تَعْدِلُ الْجِهَادَ انْتَهَى) .
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسَبُهُ قَالَ -: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: «وَكَاَلَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ» .
(وَنَصَّ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ أَنَّ الطَّوَافَ لِغَرِيبٍ أَفْضَلُ مِنْهَا)، أَيْ: الصَّلَاةِ (بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
نَقَلَ حَنْبَلٌ: نَرَى لِمَنْ قَدِمَ مَكَّةَ أَنْ يَطُوفَ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
وَكَذَا عَطَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، فَيُمْكِنُ التَّنَفُّلُ بِهَا فِي أَيِّ مَكَان أَرَادَ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ.
(قَالَ الْمُنَقِّحُ: وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ)، أَيْ: مِنْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى سِوَى مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ.
وَلَا كَذَلِكَ الطَّوَافُ (خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ) هُوَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، حَيْثُ جَعَلَ الطَّوَافَ أَفْضَلَ مِنْ الْوُقُوفِ. (ثُمَّ سَائِرُ مَا تَعَدَّى نَفْعُهُ مِنْ نَحْوِ عِيَادَةِ مَرِيضٍ) ، وَذَبٍّ عَنْ مَعْصُومٍ، وَتَخْلِيصٍ مِنْ مَظْلِمَةٍ (وَقَضَاءِ حَاجَةِ مُسْلِمٍ، وَإِصْلَاحٍ) بَيْنَ النَّاسِ، وَإِبْلَاغِ حَاجَةِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا إلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ، أَشْبَهَ الصَّدَقَةَ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ: اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا حَمَلَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَغَيْرُهُ أَفْضَلِيَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّافِعِ الْقَاصِرِ كَالْحَجِّ، وَإِلَّا فَالْمُتَعَدِّي أَفْضَلُ. (وَيَتَفَاوَتُ) مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ (فَصَدَقَةٌ عَلَى قَرِيبٍ مُحْتَاجٍ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ) أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةُ (وَهُوَ)، أَيْ: الْعِتْقُ (أَفْضَلُ مِنْهَا)، أَيْ: الصَّدَقَةِ (عَلَى أَجْنَبِيٍّ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِهِ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ (إلَّا زَمَنُ غَلَاءٍ وَحَاجَةٍ) فَالصَّدَقَةُ حَتَّى عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ؛ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. (ثُمَّ حَجٌّ) ؛ لِحَدِيثِ: «الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ نَفْلَ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَمِنْ الْعِتْقِ، وَمِنْ الْأُضْحِيَّةِ.
قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ؛ إنْ مَاتَ فِي الْحَجِّ مَاتَ شَهِيدًا.
قَالَ: وَعَلَى هَذَا؛ فَالْمَوْتُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْلَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:«مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ، وَبَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ لِمَا سَبَقَ.
وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: لَيْسَ يُشْبِهُ الْحَجَّ شَيْءٌ؛ لِلتَّعَبِ الَّذِي فِيهِ، وَلِتِلْكَ الْمَشَاعِرِ، وَفِيهِ مَشْهَدٌ لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَفِيهِ إنْهَاكُ الْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ عَرَفَةَ؛ فَقَدْ طَهُرَ مِنْ ذُنُوبِهِ. (فَصَوْمٌ) ؛ لِحَدِيثِ:«كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَإِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُهُ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَإِضَافَةُ عِبَادَةٍ إلَى غَيْرِ اللَّهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ أَفْضَلِيَّتِهَا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ قُرَى الشَّامِ إجْمَاعًا، وَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ مَا عُبِدَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ قَطُّ، وَقَدْ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] ، فَكَذَا الصَّلَاةُ مَعَ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: أَضَافَ الصَّوْمَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَفْضَلِيَّتَهُ. «وَسَأَلَهُ: عليه الصلاة والسلام؛ رَجُلٌ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ» . إسْنَادُهُ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ
فَإِنْ صَحَّ؛ فَمَا سَبَقَ أَصَحُّ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ بِحَسَبِ السَّائِلِ.
قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَكَذَا اخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضِيِّ.
وَقَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ أَفْضَلَ فِي حَالٍ، كَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ رضي الله عنهم بِحَسْبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ أَحْمَدَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ: اُنْظُرْ مَا هُوَ أَصْلُحُ لِقَلْبِكَ فَافْعَلْهُ.
(وَأَفْضَلُ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ مَا سُنَّ) أَنْ يُصَلَّى (جَمَاعَةً) ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ، ثُمَّ الرَّوَاتِبُ (وَآكَدُهَا)، أَيْ: آكَدُ مَا يُسَنُّ جَمَاعَةً: كُسُوفٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهَا، وَأَمَرَ بِهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (فَاسْتِسْقَاءٌ) ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَسْقِي تَارَةً، وَيَتْرُكُ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْكُسُوفِ؛ فَلَمْ يَتْرُكْ صَلَاتَهُ عِنْدَهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ، لَكِنْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالِاسْتِسْقَاءِ، كَحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ:«أَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ» . (فَتَرَاوِيحُ) لِأَنَّهَا تُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ (فَوِتْرٌ لِأَنَّهُ يُسَنُّ) فِعْلُهُ (جَمَاعَةً بَعْدَ تَرَاوِيحَ) وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سُوءٍ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ. (وَلَيْسَ) الْوِتْرُ (بِوَاجِبٍ) .
قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْوِتْرُ لَيْسَ
بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ، فَإِنْ شَاءَ قَضَى الْوِتْرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ؛ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:«أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ «قَالَ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ؛ وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَشْبَهَ السُّنَنَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» فَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ؛ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ: الْمَوْقُوفُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ. (إلَّا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فَكَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ:«ثَلَاثٌ كُتِبْنَ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ: الضُّحَى، وَالْأَضْحَى، وَالْوِتْرُ» وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ عُذْرٍ، أَوْ خَصَائِصِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ، جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى أُمَّتِهِ لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. (وَأَفْضَلُ رَوَاتِبَ سُنَّةُ فَجْرٍ) ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد. (وَسُنَّ
تَخْفِيفُهَا) ، أَيْ: رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَاضْطِجَاعٌ بَعْدَهَا عَلَى جَنْبٍ أَيْمَنَ) قَبْلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ نَصًّا لِقَوْلِ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (فَيَلِي سُنَّةَ فَجْرٍ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ سُنَّةُ مَغْرِبٍ) .
لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: «أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصَلَاةٍ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ سِوَى الْمَكْتُوبَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» . (ثُمَّ) بَاقِي الرَّوَاتِبِ (سَوَاءٌ) فِي الْفَضِيلَةِ. (وَالرَّوَاتِبُ الْمُؤَكَّدَةُ عَشْرُ) رَكَعَاتٍ: (رَكْعَتَانِ قَبْلَ فَجْرٍ، وَ) رَكْعَتَانِ قَبْلَ (ظُهْرٍ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ ظُهْرٍ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ مَغْرِبٍ، وَ) رَكْعَتَانِ بَعْدَ (عِشَاءٍ)، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:«حَفِظْتُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ. وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فِيهَا أَحَدٌ» .
حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ «أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ. وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: صَحِيحٌ.
(وَسُنَّ قِرَاءَةُ) : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِي) رَكْعَةٍ (أُولَى) مِنْ (رَاتِبَةِ فَجْرٍ، وَ) فِي رَكْعَةٍ أُولَى مِنْ رَاتِبَةِ (مَغْرِبٍ وَ) قِرَاءَةُ (الْإِخْلَاصِ فِي ثَانِيَتِهِمَا)، أَيْ: الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَكُرِهَ تَرْكُ رَوَاتِبَ بِلَا عُذْرٍ وَتَسْقُطُ عَدَالَةُ) مُوَاظِبٍ عَلَى تَرْكِهَا (إلَّا فِي سَفَرٍ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلٍ وَتَرْكٍ) لِلْمَشَقَّةِ (إلَّا سُنَّةَ فَجْرٍ وَوِتْرٍ فَيُفْعَلَانِ)، أَيْ: فَيُحَافَظُ عَلَى فِعْلِهِمَا حَضَرًا وَسَفَرًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبْلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَسُنَّ قَضَاؤُهَا)، أَيْ: الرَّوَاتِبِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَضَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ مَعَ الْفَجْرِ حِينَ نَامَ عَنْهُمَا، وَقَضَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ» ، وَقِيسَ الْبَاقِي. (وَ) سُنَّ أَيْضًا قَضَاءُ (وِتْرٍ) لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا:«مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ؛ فَلْيُصَلِّهِ إذَا أَصْبَحَ، أَوْ ذَكَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
(إلَّا مَا فَاتَ) مِنْ رَوَاتِبَ (مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ، فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ) لِحُصُولِ الْمَشَقَّةِ بِهِ (إلَّا سُنَّةَ فَجْرٍ) ، فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا، لِتَأَكُّدِهَا (وَهِيَ)، أَيْ: سُنَّةُ الْفَجْرِ (وَسُنَّةُ ظُهْرٍ أُولَى بَعْدَهُمَا)، أَيْ: بَعْدَ الْفَجْرِ، وَالظُّهْرِ (قَضَاءً) ، فَيَبْدَأُ بِسُنَّةِ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا إذَا قَضَاهَا قَبْلَ السُّنَّةِ الَّتِي بَعْدَ الظُّهْرِ نَدْبًا؛ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَقْتُهَا مِنْ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَى فِعْلِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا فُعِلَتْ، بَعْدَهَا كَانَتْ قَضَاءً، وَأَمَّا السُّنَّةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَوَقْتُهَا مِنْ فِعْلِ تِلْكَ الصَّلَاةِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا.
(وَلِزَوْجَةٍ، وَأَجِيرٍ) خَاصٍّ (وَوَلَدٍ) صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ (وَقِنٍّ) بِسَائِرِ أَحْوَالِهِ (فِعْلُ رَوَاتِبَ مَعَ فَرْضٍ) لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ. (وَحَرُمَ مَنْعُهُمْ) مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّ زَمَنَهَا مُسْتَثْنًى شَرْعًا كَالْفَرَائِضِ.
(وَالسُّنَنُ غَيْرُ الرَّوَاتِبِ) أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً، وَهِيَ: (أَرْبَعٌ
قَبْلَ ظُهْرٍ، وَ) أَرْبَعٌ قَبْلَ (عَصْرٍ، وَ) أَرْبَعٌ قَبْلَ (جُمُعَةٍ، وَأَرْبَعٌ بَعْدَ ظُهْرٍ، وَ) أَرْبَعٌ بَعْدَ (مَغْرِبٍ وَ) أَرْبَعٌ بَعْدَ عِشَاءٍ لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا؛ حَرَّمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى النَّارِ» . صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ فِي صِفَةِ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ فِيهِ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِنَّ بِسُوءٍ عَدَلْنَ لَهُ عِبَادَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي إسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ أَبِي خَثْعَمَ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(وَيُبَاحُ اثْنَتَانِ بَعْدَ أَذَانِ مَغْرِبٍ) قَبْلَ صَلَاتِهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. قَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَكَذَا) يُبَاحُ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ (بَعْدَ وِتْرٍ جَالِسًا) .
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَقَالَ: أَرْجُو إنْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ أَنْ لَا يَضِيقَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تَكُونُ وَهُوَ جَالِسٌ كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ.
قُلْتُ: تَفْعَلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، مَا أَفْعَلُهُ، أَيْ: لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْوَاصِفِينَ لِتَهَجُّدِهِ صلى الله عليه وسلم. (وَفِعْلُ) السُّنَنِ (الْكُلِّ) الرَّوَاتِبِ، وَالْوِتْرِ وَغَيْرِهَا (بِبَيْتٍ أَفْضَلُ) مِنْ فِعْلِهَا بِالْمَسْجِدِ، وَلَوْ الْحَرَامَ (كَصَلَاةِ تَطَوُّعٍ) ؛ لِحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا
الْمَكْتُوبَةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
لَكِنْ مَا تُشْرَعُ لَهُ الْجَمَاعَةُ مُسْتَثْنًى أَيْضًا، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى نَفْلُ الْمُعْتَكِفِ. (وَإِنْ فَعَلَهَا)، أَيْ: الرَّوَاتِبَ (بِمَسْجِدٍ، فَ) فِعْلُهَا بِ (مَكَانِهِ) مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ (أَفْضَلُ) نَصًّا، وَفِيهِ نَظَرٌ مَعَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْإِقْنَاعِ، وَلَا فِي الْمُنْتَهَى، وَرُبَّمَا سَرَى إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَةِ الْإِقْنَاعِ حَيْثُ قَالَ: وَفِعْلُهَا، أَيْ: سُنَّةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَكَانَهُ أَفْضَلُ نَصًّا.
وَجَعَلَ فِي الْمُبْدِعِ رَكْعَتَيْ الْجُمُعَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ صَلَاةِ الْبُيُوتِ.
(وَسُنَّ فَصْلٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ بِقِيَامٍ)، أَيْ: انْتِقَالٍ (أَوْ كَلَامٍ) ؛ لِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ: «إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً حَتَّى نَخْرُجَ، أَوْ نَتَكَلَّمَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (وَتُجَزِّئُ سُنَّةُ) صَلَاةٍ (عَنْ تَحِيَّةِ مَسْجِدٍ) ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُمَا أَنْ يَبْدَأَ لدَّاخِلُ بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ وُجِدَ. (وَلَا عَكْسُ) ؛ فَلَا تُجْزِئُ تَحِيَّةٌ عَنْ سُنَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. (وَإِنْ نَوَى بِرَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ وَالسُّنَّةَ) حَصَلَا؛ لِأَنَّهُ نَوَاهُمَا. (أَوْ نَوَى) بِصَلَاةٍ (التَّحِيَّةَ وَالْفَرْضَ حَصَلَا)، أَيْ: التَّحِيَّةُ، وَمَا نَوَاهُ مَعَهَا، أَمَّا التَّحِيَّةُ؛ فَلِبَدْئِهِ بِالصَّلَاةِ مَعَ نِيَّتِهَا، وَأَمَّا مَا نَوَاهُ مَعَهَا: فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ، كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ يَنْوِي الْجَنَابَةَ وَالْجُمُعَةَ. (لَا إنْ نَوَى نَفْلًا غَيْرَهَا)، أَيْ: التَّحِيَّةِ (مَعَ فَرْضٍ) ؛ فَلَا تَحْصُلُ بِهِ التَّحِيَّةُ، وَلَا يَصِحُّ فَرْضُهُ، وَلَا تَحْصُلُ تَحِيَّةٌ بِرَكْعَةٍ، وَلَا بِصَلَاةِ جِنَازَةٍ، وَسُجُودِ تِلَاوَةٍ، وَشُكْرٍ.