الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستثناء بغير وإلا:
عرفنا أن الأصل في (غيير) أن تفيد المغايرة، وليس الأصل فيها أن تكون للاستثناء بخلاف (إلا)، ولذلك تستعمل غير في مواطن لا تصلح فيها (إلا) إذ لا تفيد الاستثناء كأن تقول (خالد غير لئيم) ونحو قوله:
غير مأسوف على زمن
…
ينقضي بالهم والحزن
وقوله تعالى: {ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 122]، وقوله:{بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} [الروم: 29]، وقوله:{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} [ق: 31]، فـ (غير) هنا تفيد المغايرة ولا تفيد الاستثناء، ولا يصح استعمال (إلا) في موطنها.
وقد تحمل (غير) على (إلا) الاستثناء كقولك (أقبل الرجال غير عباس)، وهي تأخذ حكم الاسم الواقع بعد إلا. قال سيبويه:" وكل موضع جاز فيه الاستثناء بالإجاز بغير وجرى مجري الاسم الذي بعد (إلا) لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا "(1).
وجاء في (شرح الرضي على الكافية) أن غيرا الاستثنائية تقع " في جميع مواقع (إلا) في المفرغ وغيره، والموجب وغيره، والمنقطع وغيره مؤخرا عن المستثنى منه ومقدما عليه، وبالجملة في جميع محاله إلا أنه لا يدخل على الجملة كالاعتذار لتعذر الإضافة إليها"(2).
ومثل الجملة الجار والمجرور فإن غيرا لا تدخل عليه قوله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} [الغاشية: 6]، فلا يصح أن يقال (غير من ضريع)، لأن غيرا تلزم الإضافة، معنى دون لفظ، ولا (من غير ضريع)، لأن المعنى يتغير، ولذلك لا تدخل (غير) على الجار والمجرور.
(1) سيبويه 1/ 374، وانظر الأصول 1/ 347
(2)
الرضي 1/ 267
وتقول (ما جائت إلا طلبا للعلم) فلا يصح وضع (غير) ههنا لأن المفعول له، لا يكون إلا مصدرا و (غير) ليست مصدرا.
وعلى أي حال ففي الأكثر أن تقع في مواقع (إلا).
إن غيرا وإن دخلت معنى الاستثناء، قد تحمل معها معناها الخاص بها أحيانا، فلا تطابق (إلا) تماما فقولك (ما قام إلا محمد) و (ما قام غير محمد) ليسا متطابقين في المعنى تماما، فإنك في الجملة الأولى أثبت القيام لمحمد وحده، ونفيته عمن عداه، وأما الثانية فتحتمل هذا المعنى وتحتمل معنى آخر، وهو أن (غير محمد لم يقم) فيكون نفي القيام عن غير محمد وسكت عن محمد.
ومعنى ذلك أن ما بعد (إلا) هو المقصود بالاستثناء، وهو الذي يدور عليه الحكم أما في (غير) فإن الكلام قد يدور على ما بعد غير، وقد يدور على (غير) نفسها، لا على المجرور بها، فقوله تعالى مثلا:{وما أضلنا إلا المجرون} [الشعراء: 99]، معناه أن المجرمين هم الذين أضلوهم، ولو قال (وما أضلنا غير المجرمين) لاحتمل المعنى السابق ولاحتمل معنى آخر، وهو أن غير المجرمين لم يضلونا أي نفي الضلال عن غير المجرمين أما بالنسبة إلى المجرمين فلم يتعرض لهم. وكقوله تعالى:{ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} [نوح: 24]، فإنه طلب أن يزيدهم الضلال ولا يزيدهم شيئا آخر غير الضلال ولو قال:(ولا تزد الظالمين غير ضلال) لاحتل أن يكون المعنى كالمعنى السابق ولاحتمل معنى آخر وهو أنه طلب إلا يزيديهم غير الضلال أما الضلا فمسكوت عنه.
ونحوه أن تقول (لا يدخل الجنة إلا المسلم) وأن تقول (لا يدخل الجنة غير المسلم) فالجملة الثانية قد تكون بمعنى الأولى، وقد تكون لمعنى آخر، وهو أن غير المسلم لا يدخل الجنة، وليس في هذا المعنى حصر، ومثله قوله تعالى:{ولا تقولوا على الله إلا الحق} [النساء: 171]، وقولك (ولا تقولوا على الله غير الحق) فالثانية قد تكون بمعنى الأولى، وقد تكون لمعنى آخر وهو النهي عن قول غير الحق، أما الحق فمسكوت عنه وهو كما تقول: إن لم تقل الحق فلا تقل غير الحق، أي اسكت.
ونحوه أن تقول (لا تعبد إلا الله) و (لا تعبد غير الله) فالمطلوب في الأولى عبادة الله وحده، والثانية قد تكون بمعنى الأولى وقد تكون لمعنى آخر، وهو النهي عن عبادة غير الله، وغير الله الصنم والحجر وغيرهما، فكأنه قال في الجملة الثانية: لا تعبد الصنم لا تعبد الحجر لا تعبد الشجر ونحوه، فالأولى طلب العبادة لله وحده، والثانية نهي عن عبادة غير الله، وعبادة الله مفهومه من المخالفة.
جاء في (الإيضاح): " واعلم أن حكم (غير) حكم (إلا) في إفادة القصرين، أي قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف"(1).
والحقيقة أنها لا تفيد ما تفيده (إلا) تماما فـ (إلاّ) تفيد القصر نصًا، أما (غير) فتفيد القصر تضمنا، فقولك (لا تعبد إلا الله) أفاد الحكم، وهو الأمر بعبادة الله نصا صريحا، وأما قولك (لا تعبد غير الله) فهو نهي عن عبادة غير الله، ومضمونه الأمر بعبادة الله. إن قولك (ما دخلها إلا خائفا) يختلف عن قولك (ما دخلها غير خائف) ففي الجملة الأولى أثبت الدخول له خائفا، وفي الثانية نفيد الدخول غير خائف، أما الدخول خائفا فقد سكت عنه وهو مفهوم من مضمون الجملة، جاء في (شرح ابن يعيش): " فأصل (غير) أن يكون وصفا والاستثناء فيه عارض معار من (إلا) ويوضح ذلك ويؤكده، أن كل موضع يكون فيه (غير) استثناء يجوز أن يكون صفة، وليس كل موضع يكون فيه صفة يجوز أن يكون استثناء، وذلك نحو قولك (عندي مائة غير درهم) إذا نصبت كانت استثناء، وكنت مخبرا، ان عندك تسعة وتسعين درهما، وإذا رفعت كنت قد وصفته بأنه مغاير لها، وتقول عندي درهم غير زائف، ورجل غير عاقل، فهذا لا يكون فيه (غير) إلا وصفا لا غير، لأن الزائف ليس بعضا للدرهم، لا العاقل بعض الرجل.
والفرق بين (غير) إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء، أنها إذا كانت صفة لم توجب للإسم الذي وصفته بها شيئا، ولم تنف عنه شيئا لأنه مذكور على سبيل التعريف فإذا قلت:(جاءني رجلٌ غيرُ زيد) فقد وصفته بالمغايرة له وعدم المماثلة، ولم تنف عن
(1) الإيضاح 130
زيد المجيء وإنما كان قبلها إيحاب فما بعدها نفي وإذا كان قبلها نفي فما بعدها إيجاب لأنها ههنا محمولة على (إلا) فكان حكها كحكمه" (1).
ثم أنه يجوز التفريغ في (غير) في الإثبات، ولا يجوز في (إلا) تقول (قام غير محمد) ولا يجوز أن تقول (قام إلا محمد) وذلك لأن غيرا وإن كانت تعني كل ما عدا المذكور في الوجود- قد تعين أيضا بها شخصا معينا غير محمد، أو شخوصا معينين، فقولك (قام غيرُ محمد) يحتمل أن يكون معناه: قام خالد، أما الاستثناء بإلا، فيفيد في نحو هذا، ما عدا محمدًا من الناس، ولا تعني به شخصا معينا أو شخوصا معينين، ولذا لا يصح (قام إلا محمد) لأنه يثبت القيام لجميع الناس دون محمد.
ولذا فهي لا تطابق (إلا) تماما في الاستثناء.
(1) ابن يعيش 2/ 88