الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفعول المطلق
سمى المفعول المطلق بذلك لأنه مطلق القيود، أي غير مقيد، بخلاف المفعولات الأخرى، فإنها مقيدة بحروف الجر ونحوها، فالمفعول به مقيد بالباء، أي الذي فعل به فعل، والمفعول فيه مقيد بفي، أي الذي حصل فيه الفعل، والمفعول معه مقيد بالمصاحبة، والمفعول له أي الذي فعل لأجله الفعل، أما المفعول المطلق فهو غير مقيد، بخلاف غيره من المفعولات.
قال ابن عقيل: " وسمي مفعولا مطلقا لصدق المفعول عليه، غير مقيد بحرف جر، ونحوه، بخلاف غيره من المفعولات، فإنه لا يقع عليه اسم المفعول إلا مقيدا كالمفعول به، والمفعول فيه، والمفعول معه، والمفعول له (1) ".
وهو الفعول الحقيقي الذي أحدثه الفاعل، فإذا قلت (مشى محمد) دل ذلك على أن المشي أحدثه محمد، وأنه مفعول له، فأن قلت (مشيا) فقد ذكرت المصدر الذي دل عليه الفعل.
قال ابن يعيش، أعلم أن المصدر هو المفعول الحقيقي لأن الفاعل يحدثه ويخرجه من العدم إلى الوجود، وصيغة الفعل تدل عليه، والأفعال كلها متعدية إليه، سواء كان يتعدى الفاعل او لم يتعده، نحو ضربت زيدا ضربا وقام زيدا قياما، وليس كذلك غيره من المفعولين ألا ترى أن زيدا من قولك: ضربت زيدا ليس مفعولا لك على الحقيقة، وإنما هو مفعول الله سبحانه، وإنما قيل له مفعول على المعنى، أن فعلك وقع به (2) ".
أنواعه:
ذهب النحاة إلى أن أنواع المفعول المطلق ثلاثة:
(1) ابن عقيل 1/ 186، وانظر الرضي على الكافية 1/ 122، الأشموني 2/ 110
(2)
ابن يعيش 1/ 110، وانظر الرضي على الكافية 1/ 121
1 -
المؤكد لعامله.
2 -
المبين لنوعه.
3 -
المبين لعدده (1).
1 -
المؤكد لعامله:
يسمى النحاة المفعول المطلق في نحو (قمت بالأر قيامًا) مؤكدًا لعامله. والعامل هنا الفعل. والحقيقة أنه في نحو هذا مؤكد لمصدر الفعل لا للفعل، لأن الفعل ما دل على حدث مقترن بزمن، أما المصدر فهو الحدث المجرد، فعندنا تقول:(قمت قياما) تكون قد أكدت الحدث وحده، ولم تؤكد الحدث والزمن جميعا، فالمتكلم قد يحتاج إلى توكيد الفعل كله فيكرره فيقول قام قام محمد، فيكون قد آكد الحدث والزمن، وقد يحتاج إلى توكيد الحدث فقط يقول: قام محمدا قياما، وقد يؤكد الزمن الذي تضمنه الفعل دون الحدث فيأتي بالظرف المؤكد فيقول (قام محمد حينا) فـ (حينا) مؤكد للزمن الذي تضمنه الفعل (قام)، لأن القيام لابد أن يكون في حين، ونحو قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]، لأن الإسراء لا يكون إلا في الليل.
فهذا القسم من المفعول المطلق إذن مؤكد لمصدر عامله سواء، كان فعلا أم وصفا نحو (محمد قائم قياما)، فالمفعول المطلق مؤكد لمصدر الوصف، لا للوصف الذي يدل على الحدث والذات، ولو أردت توكيد الوصف لقلت (محمد قائم قائم)، ولا يؤكد إلا إذا كان مصدرا نحو عجبت من ضربك خالدا ضربا.
قال الرضي: " المراد بتأكيد المصدر الذي هو مضمون الفعل بلا زيادة شيء عليه من وصف أو عدد وهو في الحقيقة تأكيد لذلك المصدر المضمون، لكنهم سموه تأكيدا للفعل توسعًا، فقولك (ضربت) بمعنى أحدثت ضربا، فلما ذكرت بعده (ضربا) صار بمنزلة قولك: أحدثت ضربا ضربا.
(1) انظر ابن عقيل 1/ 187، الأشوني 2/ 112 التصريح: 1/ 323 - 324
فظهر أنه تأكيد للمصدر المضمون وحده، لا للاخبار والزمان اللذذين تضمنها الفعل (1).
وذهب بعضهم إلى أن المصدر المؤكد " عوض عن تكرار الفعل مرتين. فقولك (ضربت ضربا) بمنزلة قولك (ضربت ضربت) ثم عدلوا من ذلك، واعتاضوا عن الجملة بالمفرد"(2). وهذا ليس بسديد ولو كان أمر كذلك لألغى التوكيد اللفظي.
أن العرب قد تكرر الفعل مرتين إذا أردت ذلك وقد تأتي بالمصدر المؤكد، إذا أرادت فهذا تعبير وذاك تعبير، وكل يؤدي غرضا ومعنى.
أن ثمة فرقا في المعنى بين قولنا (تحدث تحدث محمد) و (تحدث محمد تحدثا) فإن قولنا (تحدث تحدث محمد) إنما كرر الفعل فيه لأن المتكلم قد يظن أن المخاطب لم يسمع الكلمة الأولى. أو انصرف ذهنه إلى فعل آخر فتعيد له الكلمة لتزيل ذلك عنه، أما قولنا (تحدث محمد تحدثا) فلإزالة الوهم من أن الفاعل لم يفعل ذلك، وإنما فعل ملازمه او فعلا قريبا منه، فإذا قلت مثلا (ركض الرجل) فقد ينصرف الذهن إلى أنه أسرع في المشي وقد جعلت المشي ركضا تجوزا، فإذا قلت:(ركضا) فقد أزلت التجوز الذي قد ينصرف إليه ذهن السامع. وقررت أنه قام بالحدث حقا.
2 -
المبين للنوع.
ويقصد به المبين لنوع العامل نحو انطلقت انطلاقا سريعا، وانطلاق السهم.
وادرجوا تحت هذا القسم ما ينوب عن المصدر من كلية المصدر، وبعضيته، ونوعه وصفته، وهيئته، ومرادفه، وضميره، والإشارة إليه، ووقعته وآلته، وعدده، ونحوها (3).
(1) الرضي على الكافية 1/ 122، وانظر حاشية الخضري 1/ 186
(2)
البرهان 2/ 392
(3)
انظر الأشموني 2/ 112 - 114
3 -
المبين للعدد:
ويقصد به عدد العامل سواء كان العدد معلومًا، أو مبهما، فالأولى نحو: ضربته ضربتين والثاني نحو ضربته ضربات.
وفي هذا التقسيم نظر - فيما نرى - لأنه لم يستوف أقسام المفعول المطلق، أولا، ولأنه لو اقتصرنا على هذه الأقسام لأوقعنا ذلك في إشكالات لا مفر منها.
من ذلك على سبيل المثال قولهم: (أنت ابني حقا) و (له على الف دينار اعترافا) فهذا في أي قسم من الأقسام التي ذكرها النحاة يدرج؟ أهو يدرج في المؤكد لعامله، وهذا لا يمكن، لأن حذف عامل المؤكد ممتنع كما يقول النحاة، وهو ليس مبينا للنوع ولا للعدد.
وقد جعل النحاة هذا من المؤكد لنفسه، أو المؤكد لغيره، أفالمؤكد لنفسه أو لغيره غير المؤكد لعامله، أم هو نفسه؟ فإن كان غيره كان صنفا آخر، وإن كان إياه نفسه، فقد انتقض الحكم القائل بعدم جواز حذف عامل المؤكد.
ونحو قولهم: خالد سيرا، وخالدا سيرا سيرا، مما لا يصح أن يكون المصدر فيه خبرا عن المبتدأ، وهو ما قال فيه ابن مالك:
كذا مكرر وذو حصر ورد
…
نائب فعل لاسم عين استند
فهم يقولون إننا إذا كررنا المصدر في نحو هذا، كان الحذف واجبا وإن لم نكرره كان الحذف جائزا، ففي قولنا (خالد سيرا) يكون ذكر العامل وحذفه جائزين، فأصل خالد سيرا، هو خالد يسير سيرا، ولكنا لو قلنا لأحد من المنتسبين إلى هذا العلم: أحذف العامل يسير، من هذا الجملة لقال لنا، هذا متنع لأنه لا يجوز حذف عامل المؤكد، وهذا تناقض - كما ترى - فهو يقولون: هو جائز الحذف وهم يمنعون حذفه.
فنحن أما أن نقول هذا قسم آخر، أو أن نبطل قاعدة عدم جواز حذف عامل المؤكد. وغير ذلك وغيره.
إن أقسام المفعول المطلق ثلاثة فيما أرى وهي:
1 -
المفعول المطلق المؤكد.
2 -
المبين.
3 -
النائب عن الفعل.
1 -
المفعول المطلق المؤكد
ولا أعني به المؤكد لعامله فحسب، كما يقول النحاة بل هو اوسع من ذلك، فيه المؤكد لمصدر عامله كما ذكرت، نحو (انطلقت انطلاقا) ويدخل فيه غيره من المؤكد لمضمون الجملة، وهو ما يسميه النحاة المؤكد لنفسه، والمؤكد لغيره، نحو (أنت ابني حقا) ونحو قوله تعالى:{ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة: 236]، فإنه حين أمر بالتمتيع علم أن ذلك حق لهن، وأكد ذلك بقوله:{حقا على المحسنين} . ونحو قوله: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 241]، فإنه لما ذكر أن للمطلقات أن يمتعن بالمعروف، علم أن ذلك حق لهن وقد اكد مضمون الجملة بقوله:{حقا على المتقين} فهذا توكيد لمضمون الجملة، ونحوه قوله تعالى:{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان} [التوبة: 111]، فلما ذكر ان الله ضمن للمجاهدين في سبيله الجنة، علم أن هذا وعد منه وقد اكد بقوله:{وعدا عليه حقا} ، ونحو قوله تعالى:{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]، فالجبال كما نعلم من صنع الله وأمد هذا الأمر بقوله:{صنع الله} .
ونحوه قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} [آل عمران: 145]، فلما ذكر أن النفس لا تموت إلا بإذن الله، علم أن ذلك بأجل منه، وقد أكده بقوله {كتابا مؤجلا} ونحوه قوله تعالى: {آلم، غلبت الروم في أدنى الأرض
وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 1 - 4]، فلما ذكر أنهم سيغلبون في بضع سنين، علم أن هذا وعد منه وقد أكده بقوله:{وعد الله لا يخلف الله وعده} [الروم: 6]، ونحوه.
قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك .. } [النساء: 11]، فعلم بهذا أن هذا فرض افترضه علينا في المواريث وقد أكده بقوله:{فريضة من الله} .
فهذه وأمثالها مؤكدة لمضمون الجملة، وليست مؤكدة لعاملها، إذ لو كانت مؤكدة لعاملها ما جاز حذفه، لأن حذف عامل المؤكد ممتنع عند النحاة.
فهذا إذن ليس مؤكدا لعامله، ولا مبينا للنوع، ولا للعدد، وإنما هو قسم برأسه يفيد التوكيد والمصدر المؤكد على هذا هو كل مصدر فضلة غير تابع، دل على معنى ما تقدمه من مفرد أو جملة.
2 -
المبين:
قسم النحاة المصدر المبين إلى مصدر مبين لنوع عامله، ومبين لعدده، كما ذكرنا.
والحق أن التبيين، لايختص بهذين القسمين، بل يكون مبينا لهما ولغيرهما، فقد يكون المصدر مبينا للنوع والعدد، وقد يكون مبينا للمقدار ايضا، وإن كثيرا مما أدرجه النحاة في المبين للنوع ليس كذلك، وإنما هو مبين للمقدار.
فمن المبين للمقدار قولنا (أنا لا أظلمك ذرة من الظلم أو مثقالا من الظلم) فهذا بيان للوزن وهو تعبير مجازي، فإن المصدر لا يوزن، وإنما يقصد به بيان المقدار، ويحتمل أن يكون منه قوله تعالى:{إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40]، وذلك أن المعنى يحتمل أن يكون المراد: لا يظلم مثقال ذرة من العمل أو نحو ذلك، فإذا كان المثقال يعود على الظلم كان إعرابه مفعولا مطلقا، وإذا لم يعد على المصدر كان مفعولا به.
فإذا كان بالمعنى الأول كان المفعول المطلق مبينا للمقدار، وليس مبينا للنوع، ولا العدد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" فقوله: (رضا نفسه) ليس مبينا لنوع عامله المقدر، وهو (اسبح)، ولا لعدده، وإنما المعنى مقدار ذلك. ثم إن قوله (زنة عرشة) في أي قسم من الأقسام التي ذكرها النحاة يسلك؟
أنك إذا قلت (سبحان الله عدد الرمال وزنة الجبال) فهل يكون (زنة الجبال) مبينا لنوع العامل؟ إنه إذا كان قولك (عدد الرمال) مبينا لعدد العامل فإن قولك (وزنة الجبال) يكون مبينا لوزن العامل.
ومن هذا القسم فيما أرى ما كان دالا على كلية المصدر، وبعضيته، نحو ضربته كل الضرب، وضربته بعض الضرب، وشيئا من الضرب، وجزءا منه ونصيبا منه) فهذا ليس مبينا لنوع الضرب، ولا لعدده، وإنما هو لبيان مقدار الضرب، ومنه قوله تعالى:{ولا يظلمون فتيلا} [النساء: 49].
فقوله (فتيلا) ليس مؤكدا لعامله، ولا مبينا لنوعه، ولا لعدده، بل المقصود أنهم لا يظلون ظلما وإن كان قليلا فهو مبين لمقدار العامل.
إن النحاة يجعلون هذا من المبين للنوع، وأحسب أن في هذا بعدا فقولك (ضربت كل الضرب) يختلف عن قولك (ضربت ضربا شديدا مبرحا) فالأولى بيان لكمية الضرب، لا لنوعه، بخلاف الجملة الأخرى، فإنها مبينة لنوع الضرب، وكذلك لو قلت:(ضربت جزءا من الضرب أو نصيبا منه) فإنها مبينة لمقدار الضرب لا لنوعه.
إن النحاة يلحون على تقسيمهم المذكور، ولا يحاولون أن يجدوا عنه معدلا، ولو كان فيه تعسف وبعد، ألا ترى أن بعض النحاة يجعل (العدد) من المبين للنوع ففي قوله تعالى:{فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4]، يجعل العدد (ثمانين) من المبين للنوع ولا يجعله نائبا عن المبين للعدد (1)، فأي تعسف أبعد من هذا؟
(1) انظر الأشموني 2/ 112 - 114
بل أنه لا داعي لذكر جزئيات المبين - فيما أرى - بل الأولى أن يكتفي بإطلاق التبيين فيقال: (المصدر المبين) فقد يكون المصدر مبينا للنوع، وقد يكون مبينا للعدد وقد يكون مبينا للمقدار، وقد يكون مبينا لغير ذلك، فإنه يبدو لي أن نيابة الآلة عن مصدر المفعول المطلق لا تدخل في بيان نوع الفعل ولا مقداره، فإذا قلت (طعنه سكينا)، و (ضربه سوطا) فهذا بيان لنوع الآلة التي استعملت في الفعل وليست بيانا لنوع الفعل:
قد تثور شبهة في نفسك وهي أن الأمثلة التي ذكرتها آنفا كلها من باب النيابة عن المصدر وليست مصادر، وهذا لا يضير فإن النحاة يحددون انواع المفعول المطلق بهذه الأنواع الثلاثة سواء كان مصدرا أو نائبا عنه، ولا يخرج النائب عندهم عن الأنواع التي ذكروها في انواع المفعول المطلق كما هو موضح في كتب النحو.
3 -
النائب عن الفعل:
وهو قسم مستقل برأسه، وليس مؤكدا او مبينا للنوع كما يذهب النحاة، وذلك نحو (إقداما يا سعيد) فإن معناه الأمر، أي أقدم، ولو قيل (إقدم إقداما يا سعيد) لم يفد المصدر معنى الأمر، وإنما يفيد التوكيد.
أي حذف عالم مؤكد ممتنع عند النحاة قال ابن مالك:
وحذف عامل المؤكد امتنع
…
وفي سواه لدليل متسع
قيل لأنه مسوق لتقوية عامله وتقرير معناه، والحذف ينافي ذلك (1).
ومعنى التقوية تثبيت معناه في النفس لتكريره، والمقصود بتقرير المعنى رفع توهم المجاز عنه (2)، أي يراد به معناه الحقيقي.
(1) ابن عقيل 1/ 189، الأشموني 2/ 115
(2)
حاشية الصبان 2/ 115
وقد ذهب ابن الناظم إلى أنه يجوز حذف عامل بعض المصدر المؤكد قال: يجوز حذف عامل المصدر إذا دل عليه دليل، كما يجوز حذف عامل المفعول به وغيره، ولا فرق بين أن يكون المصدر مؤكدا أو مبينا.
والذي ذكره الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب، وفي غيره أن المصدر المؤكد لا يجوز حذف عامله. قال في (شرح الكافية) لأن المصدر المؤكد يقصد به تقوية عامله وتقرير معناه وحذف مناف لذلك فلم يجز، فإن أراد أن المصدر المؤكد يقصد به تقويه عامله وتقرير معناه دائما، فلا شك أن حذفه مناف لذلك القصد، ولكنه ممنوع ولا دليل عليه، وإن أراد أن المصدر المؤكد قد يقصد به التقوية والتقرير، وقد يقصد به مجرد التقرير، فمسلم، ولكن لا نسلم أن الحذف مناف لذلك القصد، لأنه جاز أن يقرر معنى العامل المذكور بتوكيده بالمصدر، لأن يجوز أن يقرر معنى العامل المحذوف لدلالة قرينة عليه. أحق وأولى.
ولو لم يكن معنا ما يدفع هذا القياس لكان دفعه بالسماع كفاية فإنهم يحذفون عامل المؤكد حذفا جائزا، إذا كان خبرا عن اسم عين في غير تكرير، ولا حصر، نحو أنت أسيرا وميرا، وحذفا واجبا في مواضع يأتي ذكرها نحو سقيا، ورعيا، وحمدا، وشكرا، ولا كفرا (1).
وقد رد ابن عقيل عليه بقوله إن نحو " ضربا زيدا، ليس من التأكيد في شيء، بل هو أمر خال من التأكيد بمثابة اضرب زيدا
…
وكذلك جميع الأمثلة التي ذكرها ليست من باب التوكيد في شيء، لأن المصدر فيها نائب مناب العامل، دال على ما يدل عليه، وهو عوض عنه، ويدل على ذلك عدم جواز الجمع بينهما، ولا شيء من المؤكدات يمنع الجمع بينهما وبين المؤكد.
(1) ابن الناظم 109 - 110
ومما يدل أيضا على أن (ضربا زيدا) ونحوه، ليست من المصدر المؤكد لعامله، أن المصدر لا خلاف في انه لا يعمل، واختلفوا في المصدر الواقع موقع الفعل (1).
وجاء في (حاشية الخضري) ان نحو (ضربا زيدا) قسم برأسه، وليس مؤكدا " فالمصدر إما مؤكد، او نوعي أو عددي، أو بدل من فعله، ولا ضرر في زيادة ذلك"(2).
أن قول ابن الناظم أن المؤكد قد يقصد به التقوية والتقرير، فلا يحذف عامله، وقد يقصد به التقرير فقط، فيجوز عند ذاك حذف عامله فيه نظر، فمن يقول أن ((اعترافا)) في قولك (له علي دينار اعترافا) مثلا لا يراد به التقوية إذا ذهبنا أنه مؤكد لعامله، كما ذهب إليه ابن الناظم؟
وأن قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 241]، لا يراد به تقوية العامل، وتقرير معناه، وأي دليل على ذلك؟ وكذلك قوله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان} [التوبة: 111]، فاخراج هذا من أن يراد به التقوية فيه نظر.
وهذا عندنا من المؤكد لممضون الجملة - كما مر.
أن قول ابن الناظم أنه قد يقصد بالمصدر المؤكد التقرير فقط مردود، يرده قوله تعالى {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} [النمل: 50]، فهو لم يرفع المجاز، فإن قوله تعالى (مكرنا مكرا) مجاز.
جاء في (البرهان): " قال ابن الدهان: ومما يدل على ان التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر:
(1) ابن عقيل 1/ 189
(2)
حاشية الخضري 1/ 189
قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج
…
ويوم اللوى حتى قسرت الهوى قسرا
قلت: وكذا قوله: ومكروا مكرا، ومكرنا مكرا (1).
وجاء (حاشية الصبان): " وقوله، وتقرير معناه أي رفع توهم المجاز عنه لا يؤكد، نقله الزركشي، في البحر المحيط في الأصول ونقض بقوله (ومكرنا مكرا) وقول الشاعر:
وعجبت عجيجا من جذام المطارف (2)
وأجيب بأنه يرفع فيما يحتمل الحقيقة والمجاز، كقتلت قتلا لا فيما هو مجاز لا غير، كذا في القسطلاني على البخاري، فالمتعين للمجاز يؤكد كما في الآية والبيت.
فقولهم: المجاز لا يؤكد، ليس على إطلاقه (3).
أنه لابد من إضافة قسم آخر إلى ما ذكره النحاة وهو النائب عن الفعل، يختلف عنها في المعنى والحكم.
إن النائب عن فعله يحذف عامله جوازا، ووجوبا عند النحاة، أما الؤكد فلا يجوز حذف عامله فنحو قولنا (إكراما الضيف) لا يجوز أن يكون مؤكدا لحذف فعله، فتعين أن يكون نائبا عن فعله وهو غير المؤكد.
ما ينوب عن المصدر:
ينوب عن المصدر ما يدل عليه نحو، كلية المصدر، وبعضيته، ونوعه، وصفته، وهيئته، ومرادفه، وضميره، والإشارة إليه، واسم المصدر، وملاقيه في الاشتقاق، وغيرها (4).
(1) البرهان 2/ 393
(2)
لأن المطارف وهي الثياب لا تصيح.
(3)
حاشية الصبان 2/ 115
(4)
انظر الأشموني 2/ 112 - 113، التصريح 1/ 325 - 328، الصبان 2/ 112 - 114، حاشية الخضري 1/ 188
وذلك لأداء معان لا يؤديها مصدر الفعل أحيانا.
فقد يراد بالنيابة الدلالة على الكلية والجزئية نحو (فلا تميلوا كل الميل)[النساء: 129]، (ضربته بعض الضرب)، ويسير الضرب وشطر الضرب لأن المصدر لا يدل بنفسه على الكلية، والجزئية، لأن المقصود به الجنس، وهو يدل على القليل والكثير كالماء والخل، والتراب، والعسل فيؤتى بما يدل على الجزئية والكلية، ليفيد ذاك.
وقد يراد الدلالة على الآلة والعدد، ونحو ذلك.
إن أهم أغراض النيابة التوسع في المعنى، فالإتيان بنائب المصدر قد يوسع المعنى توسيعا لا يؤديه ذكر المصدر، وذلك كالمجيء بصفة المصدر بدلا منه، فإنك إذا حذفت المصدر وجئت بصفته فربما احتمل معنى جديدا، لم يكن ذكره المصدر يفيده، ولا يحتمله، وذلك نحو قوله تعالى:{واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار} [آل عمران: 41]، فهنا تحتمل كلمة (كثير) أن يراد بها الدلالة على المصدر، أي ذكرا كثيرا، ويحتمل أن يراد بها الدلالة على الوقت، أي زمنا كثيرا. فهذا تعبير يحتمل معنيين في آن واحد بخلاف ما لو ذكرت الموصوف، فإنه لا يدل إلا على معنى واحد. وقد يكون المعنيان مطلوبين، أي ذكرا كثيرا، زمنا كثيرا فتكسبهما بالحذف، فيكون الحذف قد أدى معنيين في آن واحد، وهذا توسع في التعبير وزيادة في المعنى.
ومثله قوله تعالى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} [التوبة: 82]، فأنت ترى أنه إذا قال ضحكا قليلا وبكاء كثيرا كان نصا على الضحك والبكاء.
وإذا قال زمنا قليلا أو كثيرا كان نصا على الزمن، في حين أنه لما حذف الموصوف احتمل معنيين: المصدرية أي ضحكا قليلا، والزمن أي زمنا قليلا وقد يكون المعنيان مرادين في آن واحد فكسبهما من أيسر طيق وأوجز تعبير، فبدل أن يقول: فليضحكوا ضحكا قليلا وقتا قليلا، وليبكوا بكاء كثيرا وقتا كثيرا قال:{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} فأدى المعنيين معًا.
وقد يكتسب بحذف الموصوف معنى المفعولية والمصدرية، كأن تقول: هو لا يفقه إلا قليلا قال تعالى: {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} [الفتح: 15]، فقد يحتمل أن يراد بـ (قليل) المفعولية، أي إلا قليلا من الأمور، وقد يحتمل المصدرية، أي فقها قليلا، وقد جمع المعنيين بحذف الموصوف أي لا يفقهون إلا قليلا من الأمور فقها قليلا والله أعلم.
فإن أريد التنصيص على المصدرية، جيء بالمصدرية، كقوله تعالى:{يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب: 41 - 42].
وربما لا يؤدي ذكر المصدر إلا مجرد التوكيد لا التنصيص كأن تقول (نمت عميقا) فأنت هنا ذكرت الصفة، ولو قلت:(نمت نوما عميقا) لكان أفاد التوكيد، إضافة إلى الوصف، ونحوه أن تقول:(أهجر جميلا واصبر جميلا) فهنا حذفت المصدر وجئت بصفته، لأن الغرض تعلق بذكر الصفة، أما المصدر فإنه مفهوم، ولو ذكرته لأفاد ذكره التوكيد، كما في (نمت عميقا).
وقد يؤدي مثل هذا التوسع الذي ذكرناه أن تأتي باسم جامد بدل المصدر، كقوله تعالى:{ولا يظلمون فتيلا} [النساء: 49]، فقد يراد بالفتيل هنا معناه الحقيقي وهو مقدار فتيل، والفتيل الخيط الذي في شق النواة فيكون مفعولا به، وقد يكون المقصود، ولا يظلمون ظلما مقدار فتيل، أي ظلما قليلا، فيكون المراد بالفتيل المصدر، فيكون مفعولا مطلقا، هذا توسع في المعنى، فقد كسبنا معنى المفعولية والمصدرية في آن واحد، فالظلم ههنا منفي من جهتين: المصدرية والمادية.
ومثله قوله تعالى: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} . [آل عمران: 116]، فقد يكون المعنى لن تغني عنهم ولا أولادهم من الله إغناء، ولو قل فيكون المراد بـ (شيء) المصدر، وقد يكون المراد بالشيء الشيء المادي.
ونحوه: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس: 44]، فقد يكون الشيء كناية عن الظلم فيكون المعنى أن الله لا يظلم الناس ظلما، وإن قل فيكون مفعولا مطلقا، وقد يكون
(شيء) هنا شيئا ماديا، فيكون مفعولا به، والمعنيان مرادان والله أعلم.
ومنه قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} [البقرة: 245]، فقد يراد به ما يقرض فيكون مفعولا به، وقد يراد به إقراضا حسنا، فيكون مفعولا مطلقا، وقد كسب المعنيين في هذا التعبير.
ومثله قوله تعالى: {ولا تشركوا به شيئا} [النساء: 36]، فقد يكون الشيء كناية عن الشرك، أي لا تشركوا به شيئا من الشرك، وإن قل، وقد يراد بالشيء المخلوقات مما يعبد من دون الله، والمعنيان مرادان، والله أعلم.
وقد يتسع به أكثر من هذا فيؤدي أكثر من معنيين، وذلك نحو قوله تعالى:{وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} [النساء: 160]، فهنا يحتمل أن يكون المراد بـ (كثير) المصدر أي صدا كثيرا، ويحتمل أن يراد به الوقت، أي وقتا كثيرا، ويحتمل أن يراد الخلق أي خلقا كثيرا، فجمعت ثلاثة معان في آن واحد، وهو توسع في التعبير كثير.
وقد يكون التوسع على نحو آخر، وذلك أن يؤتي بملاقي الفعل في الاشتقاق فنكتسب معنيين وذلك نحو قوله تعالى:{وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8]، فقد جاء بالفعل (تبتل) لكن لم يجيء بمصدره، وإنما جاء بمصدر (بتل)، فمن المعلوم أن صدر تبتل هو التبتل كتعلم تعلم، أما التبتيل فهو مصدر (بتل) مثل علم تعليم، فجاء بالفعل (تبتل) ولكن لم يجيء بمصدره، وإنما جاء بمصدر فعل آخر، فجمع معنيين في آن واحد.
وتوضيح ذلك أن تبتل على وزن (تفعل) وهو يفيد التدرج. والتكلف، نحو تحسي الماء، أي شربه حسوة حسوة، وتجرع الدواء أي شربه جرعة جرعة، ونحوه تحسس وتجسس ونحو مشي وتمشى، أي تدرج في المشى، وخطا وتخطى.
أما (فعل) فيفيد التكثير وذلك نحو كسر وكسر، فكسر يفيد التكثير والمبالغة تقول: كسرت القلم وكسرته، ففي كسرته تكثير، ومثله قطع اللحم وقطعه، فالتقطيع يفيد التكثير، ونحو ذبح، فجاء بالفعل الدال على التدرج والتكلف، وهو (تبتل) والمصدر
الدال على التكثير وهو (تبتيل) فجمع المعنيين: التدرج والتكثير. ولو نظرت إلى هذه الآية لرأيتها مصوغة صياغة فنية عالية، فالتبتل معناه الانقطاع إلى الله في العبادة، والعبادة تأتي في بالتدرج وحمل النفس، وتكلف مشاقها فجاء بالفعل الدال على التدرج أولا، ثم جاء بالمصدر الدال على الكثير ومعنى ذلك أبدا بالتدرج وانته بالكثرة، وهو توجيه تربوي سليم، ولو عكس فجاء بالفعل الدال على الكثرة اولا ثم جاء بعده بالمصدر الدال على التدرج لم يفد هذه الفائدة.
ولو قال: (تبتل تبتيلا) لم يزد على معنى التدرج، ولو قال (بتل نفسك إليه تبتيلا) ما زاد على معنى الكثرة، ولكن اراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة، والمصدر من صيغة أخرى فجمعهما، فهو بدل أن يقول:(وتبتل إليه تبتلا وبتل إليه تبتيلا) أخذ فعلا لمعنى آخر فجمعهما ثم قدم التدرج على الكثرة.
وهناك أمر فني آخر جميل، وهو أنه جاء بما يدل على التدرج بصيغة الفعل، لأن الفعل يدل على التجدد والحدوث، وجاء بما يدل على الكثرة بالمصدر، لأن الاسم فيه مبالغة وثبوت. وفمن المعلوم أن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم يدل على الثبوت نحو يتعلم، ومتعلم ويحفظ وحافظ فجاء لمعنى التدرج بصيغة الفعل الدالة على التجدد والحدوث، وجاء لمعنى الكثرة بصيغة المصدر الدالة على الثبوت والمبالغة، لأنها الحالة الثابتة لمرادة في العبادة، أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار، والاستقرار لكل معنى بما يناسبه.
جاء في (التفسير القيم) في قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} :
"ومصدر تبتل إليه تبتل كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر فعل لسر لطيف. فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدرج والتكلف، والتعمل والتكثير والمبالغة، فأتى بالفعل الدال على احدهما وبالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره، وهذا كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز"(1).
(1) التفسير القيم 501 - 502
ومثله قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} [نوح: 17]، أي أنبتكم فنبتم نباتا (1). أي طاوعتم أمر ربكم ولو قال (إنباتا) لما زاد على المعنى، ونحوه أن تقول:(اخرجته خروجا) أي أخرجته فخرج خروجا فكسبنا المعنيين في آن واحد، الاخراج والخروج.
ونحو أن تقول: أدبته تأدبا أي أدبته فتأدب تأدبا، أي قبل التأدب.
ومنه قوله تعالى في مريم عليها السلام {وأنبتها نباتا حسنا} [آل عمران: 37]، ولم يقل (إنباتا لأنه لو قال (إنباتا) لم يجعل لها فضلا، لأنه لم يزد على معنى الإنبات، وإنما قال (نباتا حسنا) على معنى أنها قبلت الانبات فنبتت نباتا حسنا، فجعل لها في معدنها الكريم، وشخصها الطاهر قبولا لذلك الانبات واستجابة له، ولو قال (إنباتا) لجردها من هذا المعنى، والله أعلم.
ومنه قوله تعالى: {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} [النساء: 60]، والقياس أن يضلهم أضلالا بعيدا، لأن مصدر (أضل) الإضلال، أما الضلال فهو مصدر (ضل)، قال تعالى:{فقد ضل ضلال بعيدا} [النساء: 116]، والمعنى أن يضلهم فيضلوا ضلالا بعيدا، وقد جمع المعنيين: الإضلال والضلال في آن واحد، والمعنى أن الشيطان يريد أن يضلهم ثم يريدهم بعد ذلك أن يضلوا هم بأنفسهم، فالشيطان يبدأ المرحلة وهو يتمونها، فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعوا الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب. يريد أن يطمئن أنهم يقومون مهمته هو.
والقاعدة أنه ما أختلف فيه لفظ الفعل عن لفظ المفعول المطلق فالمراد زيادة المعنى بجمع معنيين أو أكثر ما وسعت ذلك اللغة واتسع المقام.
(1) التفسير الكبير 30/ 140، الهمع 1/ 186، ابن يعيش 1/ 111