الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كقولك (نمت ليلة) و (خرجت ليلة)، فالأولى مختصة والثانية مبهمة، وكلاهما يقبل النصب على الظرفية الزمانية.
ما ينوب عن الظرف:
مما ينوب عن الظرف صفته نحو: {ومن كفر فأمتعه قليلا} [البقرة: 126]، أي زمنا قليلا ويحتمل أن يكون المعنى تمتيعا قليلا، فيكون نائبا عن المصدر وهو ما يفيد معنيين كما ذكرنا في حث المفعول المطلق، ونحوه جلست شرقي الدار أي مكانا شرقي الدار.
ومما ينوب عنه العدد، نحو قوله تعالى:{بل لبثت مائة عام} [البقرة: 259]، ونحو (سرت عشرين يوما) وسرت خمسة أميال، كما ينوب عنه كلية الظرف وجزئيته، ونحو مشيت كل اليوم، وجميع اليوم، وكل المسافة، وجميع الميل نحو (لبثنا يوما أو بعض يوم) [الكهف]: وسرت بعض الميل، وجزءا من الميل (1) واسم الإشارة نحو جئت هذا الوقت، وخرج محمد هذه الساعة، وسرت هذه المسافة.
والمصدر قد ينوب عن الزمان، وشرطه افهام وقت أو مقدار، فالأول نحو (جئت طلوع الشمس، وصلاة العصر) أي وقت طلوع الشمس، ووقت صلاة العصر.
والثاني نحو (انتظرته حلب ناقة)، وصلاة ركعتين، أي مقدار حلب ناقة، ومقدار صلاة ركعتين، وينوب عن ظرف المكان مفهما مكانا أو مقدرا (2). نحو جلست قربك، أي مكان قربك، وفسح له مد البصر، أي مقدار مد البصر، وركضت رمية سهم، أي مقدار رمية سهم. وهو في ظرف الزمان أكثر.
وقد يقام اسم عين مقامه، على تقدير مضاف محذوف نحو (لا أكلمك القارظين) أي مدة غيبتها، والقارضان رجلان خرجا يجنيان القرظ، ولم يعودا فضرب بهما المثل.
(1) الأشموني 2/ 123 - 134، التصريح 1/ 328
(2)
انظر الأشوني: 2/ 132، حاشية الخضري 1/ 200 التصريح 1/ 238، الرضي على الكافية 1/ 205
ونحو لا آتيك الفرقدين أي مدة بقائهما (1).
وذكروا أنه تنوب عن ظرف الزمان، ألفاظ مسموعة توسعوا فيها، نحو: أحقا أنك ذاهب؟ وذهب المبرد إلى أن حقا مصدر والصدر الؤول فاعله (2)، وإليه أميل.
الظرف التصرف وغير المتصرف:
ينقسم اسم الزمان والمكان إلى متصرف وغير متصرف، فالمتصرف من ظروف الزمان أو المكان ما استعمل ظرفا وغير ظرف، كيوم ومكان، فإن كل واحد منهما يستعمل ظرفا نحو سرت يوما، وجلست مكانا ويستعمل مبتدأ نحو يوم الجمعة يوم مبارك ومكانك حسن، وفاعلا نحو جاء يوم الجمعة وارتفع كانك (3).
وغير المتصرف ما لا يستعل إلا ظرفا أولا يفارق الظرفية إلا إلى الجر بمن فمن غير المتصرف قط وعوض، وذات يوم، وذات ليلة من ذلك سحر، إذا أردت به سحر يوم بعينه تقول:(خرجت يوم الجمعة سحر) فإن لم ترده من يوم بعينه، فهو متصرف قال تعالى {إلا آل لوط نجيناهم بسحر} [القمر: 34]، ومثله صباحا ومساء وعشية، وعشاء، وليلا ونهارا إذا أردت صباح يومك، ومساءه وعشيته، وعشاءه وليله ونهاره أو يوما آخر بعينه تقول: جئت يوم السبت عشاء، فلا يكون إلا ظرفا، وجئت يوم الخميس صباحا أو مساء أو ليلا قال تعالى:{وجاءوا أباهم عشاء يبكون} [يوسف: 16]، أي في عشاء ذلك اليوم الذي خرجوا فيه، فهذا لا يكون إلا ظرفا، فلا يصح أن تقول: هذا صباح مشرق، وهذا ليل طويل، وأقبل أخوك بليل، وهو يؤذن بليل، قال سيبويه:" ومثل ذلك صيد عليه صباحا ومساء، وعشية وعشاء، إذا أردت عشاء يومك، ومساء ليلتك، لأنهم لم يستعملوه على هذا المعنى إلا ظرفا .. وكذلك سير عليه ليلا ونهارا إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك"(4).
(1) انظر الرضي 1/ 205، التصريح 1/ 238، حاشية الخضري 1/ 200، ابن ناظم 115
(2)
الأشموني 2/ 133 - 134، التصريح 1/ 338، حاشية الخضري 1/ 200
(3)
ابن عقيل 1/ 199، وانظر التصريح 1/ 342، الأشموني 2/ 131 - 132
(4)
سيبويه 2/ 41 - 42، الهمع 1/ 196، الرضي على الكافية 1/ 203 - 204
وقال: " وتقول سير عليه ضحوة من الضحوات، إذا لم تعن ضحوة يومك، لأنهما بمنزلة قولك ساعة من الساعات، وكذلك قولك: سير عليه عتمة من الليل، لأنك تقول: أتانا بعدما ذهبت عتمة من الليل"(1).
أولا يفارقها إلا الجر بمن في الأكثر، نحو عند، ولدن، وقبل، وبعد، وفوق، وتحت (2) نحو قوله تعالى:{آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65]، وقد تجر (متى) بإلى، وحتى، وتنجر (أين) بإلى، ومن مع عدم تصرفهما. وربما وقعت بعض الظروف ذات التصرف الناقص مفعولا به، ومضافا إليه نحو (إذ)، قال تعالى:{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض} ، [الأنفال: 26] وقال: {بعد إذ أنزلت إليك} [القصص: 87]، ونه يومئذ وحينئذ (3).
" واختلف في (من) الداخلة على قبل، وبعد، فقال الجمهور: لابتداء الغاية ورد بأنها لا تدخل عندهم على الزمان .. وأجيب بأنهما غير متأصلين في الظرفية، وإنما هما في الأصل صفتان للزمان، وزعم ابن مالك أنها زائدة، وذلك مبني على قول الأخفش في عدم الإشتراط لزيادتها"(4).
وجاء في (لسان العرب): " قال الجوهري: وقد تدخل (من) توكيدا لغويا قال الأخفش ومنه قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} (5)[الزمر: 75].
وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " ومن الداخلة على الظروف غير المتصرفة أكثره بمعنى (في) نحو جئت من قبلك، ومن بعدك .. وأما نحو جئت من عندك
(1) سيبويه 1/ 112
(2)
جاء في حاشية التصريح 1/ 199: " أجاز بعضهم تصرفهما في نحو فوقك رأسك وتحتك رجلاك بالرفع على الابتداء والخبر بخلاف فوقك قلنسوتك وتحت نعلك فالبنصب للفرق بين الرأس والرجل وغيرهما لكن المسموع نصبهما في ذلك كما حكاه الأخفش".
(3)
انظر الرضي على الكافية 1/ 202، التصريح 342، الأشموني 2/ 131 - 132
(4)
المغني 1/ 325 - 326، وانظر التصريح 1/ 342، الهمع 2/ 36
(5)
لسان العرب 17/ 310 (من)
{هب لي من لدنك} [آل عمران: 38]، فلا ابتداء الغاية" (1).
ومن هذه يتبين أن هناك ثلاثة آراء في (من) الداخلة على بعض من الظروف غير المتصرفة:
1 -
أنها لابتداء الغاية.
2 -
أنها بعنى في.
3 -
زائدة التوكيد
والذي يبدو لي أن الأمر هو الراجح، وليست بمعنى (في)، لأن الأصل عدم النيابة، وليست بزائدة لأن الأصل عدم الزيادة، وإذا أمكن عدم إخراجها من معناها الذي وضعت له فهو الأولى، ولا تصرف عن معناها الأساسي إلا إذا تعذر إبقاؤها عليه.
وأرى أنه يمكن الإبقاء على معنى الابتداء في هذه الظروف، ولكن قد يتضح معنى الابتداء نحو قوله تعالى:{لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66]، و (انطلقت من تحت الشجرة) فإنه لا يصح في نحو ذلك أن تكون بمعنى (في)، ولا زائدة لأن المعنى يكون على ذلك (لأكلوا من فوقهم وتحت أرجلهم) [المائدة: 66]، و (انطلقت من تحت الشجرة)، فإنه لا يصح في نحو ذلك أن تكون بمعنى (في)، ولا زائدة لأن المعنى يكون على ذلك (لأكلوا من فوقهم وتحت ارجلهم) وهو ممتنع، وكذلك قولنا (انطلقت من تحت الشجرة)، وذلك لأن مبدأ الإنطلاق من هذا المكان، والمعنى يتغير بتقديرها بـ (في) أو بجعلها زائدة.
وأحيانا يدق المعنى حتى يحتاج إلى غوص واستخراج، وفي نحو هذا يحصل الخلاف، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى:{والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا} [النحل: 16].
وقوله: {ومنكم من يتوفي ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا بهيج} [الحج: 5].
(1) الرضي 1/ 202
فالأولى بدون (من) والثانية بمن، وقد يبدو ان (من) ههنا زائدة زيادة ظاهرة، ولكن لدي التدقيق يتبين أنها ليست زائدة، ومن مقارنة السياقين يتبين ذلك.
قال تعالى في سورة النحل: {وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناء إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا إن الله عليم قدير} [النحل: 68 - 70].
فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث، وإيضاح بالغ قدرة الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمل فيجهل من بعد العلم، إلى غير ذلك، من مظاهر قدرة الله، فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علمه شيئا) معناه أنه الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة، فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام، أما قوله (بعد علم) فيحتمل الزمن القريب والبعيد، فهو كقولك جئت بعد خالد، يحتمل الزمن القريب، والبعيد وأما من فقد أفادت الابتداء، أي يبدأ الجهل المباشر بعد العلم، بلا مهلة ولا فاصل، وهو أدل على قدرة الله وذلك لأنه انتقال مباشر من العلم إلى الجهل، أما قوله (بعد علم) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل، فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال، وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث.
ومن قال بالزيادة للتوكيد، لأن المقام مقام توكيد، فقوله ليس بمطرح، لكن الأولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن.
ومثله قوله تعالى: {يحي الأرض بعد موتها} [الحديد: 17]، وقوله:{فأحيا به الأرض من بعد موتها} [العنكبوت: 63].
إن آيات وردت من دون (من) في مواطن عدة من القرآن وبـ (من) في موطن واحد ويتضح من السياق سبب ذلك.
قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164].
وقال: {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأية لقوم يسمعون} [النحل: 65].
وقال: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحي تظهرون، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} [الروم: 17/ 19].
وقال: {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الروم: 24].
وقال: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم: 50]، وقال:{والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} [فاطر: 9].
وقال: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصرف الرياح آيات لقوم يعقلون} [الجاثية: 3 - 5].
وقال: {اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} [الحديد: 17]. في حين قال: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقلون الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} [العنكبوت: 63].
فأنت ترى أنه لم يذكر (من) في ثمانية مواط وذكرها في موطن واحد، والسبب واضح وهو أن الآية في سورة العنكبوت تدور حول المشركين الذين يشركون بالله، ويعبدون معه آلهة أخرى، وهي تعجيب من عقولهم، وإظهار لمقدار تفكيرهم وباطلهم، فهم يعبدون آلهة من الحجر، أو من غيره في حين لو سألتهم:{من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61]، ولئن سألتهم من نزل السماء ماء فأحيا به الأرض ليقولن الله.
فهذا السياق يختلف عن كل ما سبق وهو نظير ما مر في منكري البعث، فأدخل (من) في هذا الموطن للدلالة على مقدار قدره الله وعظمها، وذلك أن قوله (أحيا الأرض بعد موتها) يعني في الزمن الذي هو بعد الموت، وهو يحتمل الزمن القريب والبعيد، أي يحصل الأحياء بعد إنزال الماء، وقد يطول الزمن بعده أو يقصر، كما ذكرنا في (بعد علم). ولكن قوله (أحيا الأرض بعد موتها) معناه، يكون الاحياء بعد الموت بلا مهلة ولا فاصل، ومعنى ذلك أن الله قادر على أن يحيى الميت فورا بلا مهلة، فهو لا يحتاج إلى زمن لاحيائه، وهو أدل على قدرة الله وإن كان كلاهما من قدرة الله وحده، وقد جاء بمن في هذا المقام للدلالة على أنهم يشاهدون ذلك، ويقرون أن الله يحيى الأرض من الموت، بلا مهلة، ومع ذلك يعبدون غيره.
وهو نظير ما سبق فهي ليست زائدة للتوكيد، ولكن لمعنى الابتداء، ولو قال قائل أنها هنا أدخلت توكيدا لأن المقام مقام توكيد، لكان في قوله مندوحة، ولكن فالأولى ابقاؤها على معناه الذي أوضحناه.
ومثله قوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109].
وقوله: {يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100].
ففي الآية الأولى ذكر (من) وفي آية آل عمران لم يذكرها وذلك أنه ذكر في الآية الأولى أن كثيرا من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين، أي بلا مهلة، حسدا من عند أنفسهم، فهم يتمنون الاسراع في تفكيرهم، وأن ينقلوهم من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فورا، في حين أن آية آل عمران تحذير للمسلمين من إطاعة الكافرين، لأنهم ينفثون فيهم أوهامهم وضلالهم، شيئا فشيئا، حتى يردوهم بعد الإيمان كافرين وليس معناه أنهم ينقلونهم فورا من الإيمان إلى الكفر، ولكن معناه أنهم يضلونهم شيئا فشيئا حتى يخرجوا الإيمان من قلوبهم.
فالأولى مقام تمن، والثانية مقام التحذير من الإضلال.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة: 55 - 56]، أي لم يتركهم مدة طويلة ميتين، ثم قال:{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون. ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} [البقرة: 63 - 64].
وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، ولتنصرنه قال اقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين. فمن تولى بعد لك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 18 - 82].
والفرق واضح وذلك أن آية البقرة في بني إسرائيل، وتعداد نعمه عليهم، وعصيانهم مع ظهور الآيات البينات، فقد قال تعالى:{وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} [البقرة: 15]، فهم بعد أن فرق بهم البحر وأغرق آل فرعون اتخذوا العجل، بلا مدة فاصلة، فجاء بمن قال (من بعده) ولم يقل (بعده)، ثم عفا عنهم من بعد ذلك، ثم إنهم قال لموسى إنهم لن يؤمنوا بعد كل ذلك حتى يروا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فأماتهم، ثم بعثهم، من بعد الموت، ثم رفع فوقهم الطور، ثم تولوا من بعد ذلك فجأة، فما أقسى قلوبهم وما أضلهم، وهذا دليل على تقلب قلوبهم، وتمكن الضلال من نفوسهم، يعصون بعد الآيات فجأة.
وليس الأمر كذلك في آية آل عمران، لأن الكلام مع النبيين، وليس المقام مقام تبكيت ولا أنهم يتولون مباشرة من بعد الميثاق، وإنما هو مقام ترهيب وتوعد لمن تولى بعد الميثاق، والفرق واضح بين المقامين.
ونحو ذلك قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7]، وقوله:{وما أرسلنا من قبلك إلا رجال نوحي إليهم فسئلوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43].
فلم يذكر (من) في آية الأنبياء، وذكرها في آية النحل، وسر ذلك أن (من) تفيد الابتداء كما ذكرنا، أي أن الأمر كذلك ابتداء من قبلك إلى القديم، بخلاف أية الأنبياء فهي ليست لهذا المعنى، والذي يدل على ذلك سياق الآيتين.
جاء في النحل: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النحل: 26].
فهذا يدل على أن هذا شأن القرى من رسلهم منذ القديم، ثم قال:{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسن ولآجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} [النحل: 41]، أي هاجروا من بعد الظلم، فلم يكن فاصل بين الظلم والهجرة، ولو قال (بعد ما ظلموا) لاحتمل أن ثم مدة ليس فيها ظلم لأنه بعد الظلم قد يحتمل الطول والقصر بخلاف قوله (من بعد ما ظلموا).
ثم قال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم .. } أي هذا هو الشأن منذ القديم ابتداء من قبلك إلى الأقدم ثم قال {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النحل: 45]، وهو فعل مشابهة لفعل الذين من قبلهم (قد مكر الذين من قبلهم) فهو خط واحد من الأول إلى الآخر.
وأما سورة الأنبياء فليس فيها مثل هذا المعنى ولا القصد أن هذا شأنهم من القديم وإليك الآيات:
{اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع
العليم، بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون، ما أمنت قبلهم من قرة أهلكنها أفهم يؤمنون} [الأنبياء: 1 - 6].
فلم يذكر (من) لعدم إرادة الابتداء وإنما هو إخبار أن الذين قبلهم لو يؤمنوا ثم قال: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7]، فاتضح الفرق بين السياقين.
وأظن الآن أنه اتضح الفرق بين ذكر (من) وعدمه في مواطن قد يبدو ان الفرق فيها غير ظاهر.
فـ (من) تدل على الابتداء، قال تعالى:{قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ويجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها} [فصلت: 9 - 10]، ولم تق (فوقها) لأن كلمة (فوق) تحتمل المسافة القريبة والبعيدة قال تعالى:{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم} [ق: 6]، وقال:{ورفعنا فوقكم الطور} [البقرة: 63].
وقال: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} [الملك: 19].
ونحو ذلك قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر: 75] ، وقد جعل الأخفش (من) فيه زائدة، وهي ليست زائدة، ولكنها للابتداء والله أعلم، وذلك أن المعنى أن صفوف الملائكة تبدأ مباشرة من حول العرش، ولو قال (حول العرش) لاحتمل المسافة القريبة والبعيدة، في حين أن (من) أفادت أن الصفوف تبدأ مباشرة من حول العرش.
ونحوه قوله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} [الزمر: 16]، ولم يقل (فوقهم) أي أن الظلل تكون ابتداء من فوقهم، ومن تحت أرجلهم بلا فاصل بينها وبينهم، بخلاف ما لو قال فوقهم وتحتهم، لأن ذلك يحتمل المسافة القريبة والبعيدة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراد كلامه.