الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور. قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ} (1) الآية، بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار. فأنزل الله في ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} (2)
وأما المسائل الأخر، وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها. ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (3) الآية. (4)
•
موقفه من المشركين:
- محنة الشيخ بسبب عقيدته السلفية:
جاء في روضة ابن غنام: وكان في أثناء مقامه في البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وينشر
(1) النحل الآية (105).
(2)
الأنبياء الآية (101) ..
(3)
الحجرات الآية (6).
(4)
مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (6/ 8 - 13).
أعلام التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله يكفر من صرف شيئا منها إلى سواه. وإذا ذكر أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا يعبدونهم مع الله نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب وقال له: إن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع هديهم وآثارهم. وليست باتخاذهم آلهة من دون الله، وكان كثير من أهل البصرة يأتون إليه بشبهات يلقونها عليه، فيجيبهم بما يزيل اللبس، ويوضح الحق، ويكرر عليهم دائما أن العبادة كلها لا تصلح إلا لله، وكان بعض الناس يستغربون منه ذلك، ويعجبون لما يظهر لهم من شدة إنكاره لعبادة الصالحين والأولياء، والتوسل بهم عند قبورهم ومشاهدهم. وكانوا يقولون: إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء.
فلما تكرر منه ذلك، آذاه بعض أهل البصرة أشد الأذى وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فاتجه إلى الشام، ولكن نفقته التي كانت معه ضاعت منه في الطريق، فانثنى عائدا إلى نجد، ومر في طريقه إليها بالأحساء، ونزل فيها على الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي، ثم اتجه منها إلى بلدة حريملا، وكان أبوه عبد الوهاب قد انتقل إليها من العيينة، سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، بعد أن توفي حاكمها عبد الله بن معمر وتولى بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب خرفاش، فعزل الشيخ عبد الوهاب عن قضاء العيينة لنزاع بينهما.
فأقام الشيخ محمد في حريملا مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف.
فأعلن دعوته واشتد في إنكاره مظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام وجدد سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يخش في الحق لومة لائم، وحذر الناس والعلماء منهم خاصة تحقق وعيد الله في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} (1).
فذاع ذكره في جميع بلدان العارض: في حريملا والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وأتى إليه ناس كثيرون وانتظم حوله جماعة اقتدوا به واتبعوا طريقه ولازموه وقرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير. وصنف في تلك السنين كتاب التوحيد.
وانقسم الناس فيه فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه، وفريق عاداه وحاربه وأنكر ذلك عليه وهم الأكثر.
وكان رؤساء أهل حريملا قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكان كل فريق يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يزع الجميع. وكان في البلد عبيد لأحد القبيلتين، كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يمنعهم عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه سرا بالليل، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا.
(1) البقرة الآية (159).
فانتقل الشيخ من حريملا إلى العيينة، ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر فأكرمه وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر. ولما عرض على عثمان دعوته اتبعه وناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره. وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء والأشجار التي يعظمونها ويتبركون بها: كقبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة وكشجرة قريوة وأبي دجانة والذئب.
فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذئب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود، ومشارى بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم.
وهكذا لم يبق وثن في البلاد التي تحت حكم عثمان وعلت كلمة الحق، وأحييت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما شاع ذلك واشتهر وتحدثت به الركبان أنكرته قلوب الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وقالوا مثل ما قال الأولون:{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} (1). فتجمعوا على رده والإنكار عليه، ومخاصمته ومحاربته، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين يؤلبونهم عليه، فناصرهم في ذلك أهل الباطل والضلال من علماء تلك البلاد، وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع
(1) ص الآية (5).
والسنة وجهله وغوايته، وأغروا به الخاصة والعامة، خصوصا السلاطين والحكام، وادعوا أن ليس للشيخ وأصحابه عهد ولا ذمام لرفضه سنة الرسول وتغييره أحكام الدين وخوفوا الحكام والولاة منه، وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال والطِّغام بكلامه ويغويهم بطريقته فيخرجون على حكامهم وولاتهم ويعلنون العصيان.
والشيخ رحمه الله صابر على ما يقولون، محتسب أجره عند الله، يتعزى بما قاساه قبله الموحدون، وما لقيه المؤمنون من أنواع البلاء، وما سعى لهم به أهل الشرك والضلال. وهذه سنة الله تعالى في عباده جارية في جميع الأزمان، يختبر بها المؤمنين ويمتحن بها الصابرين، فقد قال تعالى:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} (1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} (2).اهـ (3)
- ومن رسائله رحمه الله إلى أهل الآفاق قال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيى بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام
(1) العنكبوت الآيتان (1و2).
(2)
العنكبوت الآية (3).
(3)
روضة ابن غنام (1/ 76 - 79).
عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد، وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة وقطع العذرة، ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» (1) فلما عظم العوام قطع عاداتهم وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم وهو من أبعد الناس عنه -إذِ العالم من يخشى الله- فأرضى الناس بسخط الله، وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله، وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين، وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب، ليس له من الأمر شيء، قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا هؤلاء لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون.
وها أنا أذكر مستندي في ذلك من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه
(1) مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وغيرهما.
من معه: اجعل لنا ذات أنواط قال: «الله أكبر؛ قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» (1).
انتهى كلامه رحمه الله، وقال في 'اقتضاء الصراط المستقيم': إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها؟ وأما كلام المالكية فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب 'الحوادث والبدع' لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أين ما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (2) قال: في البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي
…
فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة،
(1) أخرجه أحمد (5/ 218) والترمذي (4/ 412 - 413/ 2180) وقال: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (15/ 94/6702).
(2)
أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي.
فما ظنك بزمانك هذا والله المستعان. وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين:
الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي، ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى، وعيسى عليه السلام بريء منهم.
والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (1)
موازنة بين دعوة التوحيد ودعوة الشرك:
- جاء في تاريخ عجائب الآثار: ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وما تجدد بها من الحوادث فكان ابتداء المحرم بالرؤية يوم الخميس في عاشره، وصل كثير من كبار العسكر الذين تخلفوا بالمويلح، فحضر منهم حسين بك دالي باشا وغيره، فوصلوا إلى قبة النصر جهة العادلية، ودخلت عساكرهم المدينة شيئا فشيئا وهم في أسوأ حال من الجوع وتغير الألوان وكآبة المنظر والسحن، ودوابهم وجمالهم في غاية العي، ويدخلون إلى المدينة في كل يوم، ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم وقد سخط عليهم الباشا ومنع أن لا
(1) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (6/ 175 - 180).
يأتيه منهم أحد ولا يراه، وكأنهم كانوا قادرين على النصرة والغلبة، وفرطوا في ذلك، ويلومهم على الانهزام والرجوع. وطفقوا يتهم بعضهم البعض في الانهزام، فتقول الخيالة: سبب هزيمتنا القرابة، وتقول القرابة بالعكس. ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر، وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم، ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد، بخشوع وخضوع. وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن، وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات.
وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر، فوجدوهم غلفا غير مختونين، ولما وصلوا بدرا واستولوا عليه وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم، ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون: هؤلاء الكفار الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد. (1)
(1) تاريخ الجبرتي (3/ 341 - 342).
التعليق:
هذا النص الذي نقله هذا المؤرخ، فيه عبرة لمن اعتبر، فاعتبروا يا من يريدون تحرير المقدسات الإسلامية، مثل فلسطين وغيرها من البلاد المغصوبة، أو البلاد التي في طريقها إلى الغصب. يحلم كثير من الناس، فيستلذ بحلمه الذي هو عبارة عن المؤتمرات والمنظمات التي تعقد وقرار اللجان والاقتراحات، وإذا سمعت الإذاعات أو قرأت الجرائد العالمية أو المحلية تظن أن الأمر قد انتهى، ويمكن في الأسبوع القادم أو الشهر الآتي على الأكثر، أن تحرر المقدسات وتقوم الخلافة الإسلامية التي تعقد راية الجهاد تحتها.
فلا تحرير ولا جهاد، ويبقى الناس هكذا حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله من هذا التردي أولا، الذي هم فيه، أما الاستخفاف بالشعوب والتلاعب بعقولهم، فما أكثر من يحسنه. والله المستعان.
مقارنة بين الدعوة الشركية ودعوة التوحيد الخالص وآفات الأولى وبركة الثانية:
- جاء في تاريخ الجبرتي:
وفي هذه الأيام أيضا، وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين، وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية، حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمس مائة ريال، والأردب من البر ثلاثمائة وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك. فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة وأمر بمنع
المنكرات والتجاهر بها، وشرب الأراجل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة بالملازمة على الصلوات في الجماعة ودفع الزكاة وترك لبس الحرير والمقصبات وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسه وعشرة بحسب حاله. وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه، فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم. فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه.
إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر، فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخاريف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها، ليكون
الدين كله لله. فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة، لأنها من الأمور المحدثة، التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية، وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك. فعند ذلك أمنت السبل. وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربع ريالات، واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون وأنا آخذ من المشركين لا من الموحدين (1).
? التعليق:
يستفاد من هذا النص الذي ساقه هذا المؤرخ الأمور الآتية:
1 -
تصوير الحالة التي كانت عليها الحجاز قبل تشرفها بدعوة التوحيد الخالصة. وهي ما نعت هذا المؤرخ أصحابها بالوهابيين.
2 -
وجود مماثلة لها الآن في العالم الإسلامي إلا من شاء الله، فكل تلك الأوصاف السلبية قلما يخلو منها مكان.
3 -
عاقبة المشركين والمفسدين الذين أشركوا بالله فاستحلوا محارمه، فجزاهم الله بما سطره هذا المؤرخ.
4 -
بركة دعوة التوحيد الخالصة.
5 -
منقبة للشريف الذي عرف الحق واقتنع به. وطبقه في رعيته، وما
(1) تاريخ الجبرتي (3/ 116 - 117).