الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا حجة له عليها سوى عمل الآباء والأجداد، مع بعض من ينتسب إلى العلم أكانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا ولم يفقهوا أنهم بموافقتهم للآباء وهؤلاء الأدعياء مخالفون لكتاب الله وسنة رسول الله والسلف الصالح من بعده، فالمتعرض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال: ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا أنه قد فنى عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره وكذلك ما عليه الناس اليوم. (1)
مبارك بن محمد الميلي (1364 ه
ـ)
من أفاضل علماء الجزائر، وأحد أعضاء جمعية العلماء بها. ولد سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي رحمه الله سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
له كتاب 'رسالة الشرك ومظاهره'. تناول فيها هذا الموضوع من كل جوانبه؛ فعرف الشرك وبيّن خطره وتاريخه، ثم مثّل لأبرز مظاهره؛ فأجاد رحمه الله وأفاد.
- قال رحمه الله: وهذه أطوار البعثة من حين الأمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر، إلى الأمر بإنذار العشيرة، إلى الأمر بالصدع بالدعوة، إلى الأمر
(1) الابداع في مضار الابتداع (18 - 23).
بالهجرة، إلى الإذن بالقتال، إلى فتح مكة، إلى الإعلام بدنوّ الحمام؛ لم تخل من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك ومظاهره. ويكاد ينحصر غرض البعثة أولاً في ذلك؛ فلا ترك النبي صلى الله عليه وسلم التنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور بالشعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نسيه وهو مختفٍ في هجرته والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا غلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة، ولا شغل عنه وهو يجاهد وينتصر ويكر ويفر، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك. وهذه سيرته المدونة وأحاديثه المصححة فتتبعها تجد تصديق ما ادعينا وتفصيل ما أجملنا. (1)
- وقال: وإن لم يكن بعقلك بأس، فستسلم معي شدة عناية بعثة خاتم النبيين ببيان الشرك وعدم الاكتفاء بشرح التوحيد، وستعجب معي من قلة اهتمام علمائنا بذلك، كأن لا حاجة بالمسلمين إليه! تجد في كلامهم على الفروع عناية بتفصيل أحكام مسائل نادرة أو لا توجد عادة، ولا تجدهم يعنون تلك العناية بالأصول؛ فيحددون الشرك ويفصلون أنواعه، ويعددون مظاهره، حتى يرسخ في نفوس العامة الحذر منه، والابتعاد من وسائله، ولا يفقد المتأخر نص من قبله في جزئية من ذلك. (2)
- وقال: آثار الشرك في المجتمع:
إن كنت باحثاً في علل انحطاط الأمم، فلن تجد كالشرك أدل على
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.19).
(2)
رسالة الشرك ومظاهره (ص.20).
ظلمة القلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولن تجد كهذه النقائص أضر بالاتحاد، وأدر للفوضى، وأذل للشعوب. وإن كنت باحثاً عن أسباب الرقي، فلن تجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول، وأقوم للأخلاق، ولن تجد كهذه الأسوس أحفظ للحياة وأضمن للسيادة، وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة، وإن نظرة في حياة العرب قبل البعثة، لتؤيد ما أضفناه إلى الشرك من علل ونتائج، وإن وقفة على حياتهم بعد البعثة لتبعث على التصديق بما أنطناه بالتوحيد من أسباب وثمرات، وإن تلك النظرة وهاته الوقفة لمفتاحان لسر حياة المسلمين بعد عصر النبوة.
وكل من قارن بين حياتنا اليوم وحياة جيراننا من غير ملتنا، استيقن أن وسائل الشرك قد وجدت في المسلمين منذ أمد، وأن نتائجه قد ظهرت عليهم، فلا تخفى على أحد. (1)
- وقال رحمه الله: الحكاية العاشورية:
ففي سنة سبع وأربعين، قتل شيخنا محمد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط. وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب 'منار الأشراف' وملقب نفسه "كليب الهامل"، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمده بالمال. فحضرت مجلسه ولم أشعره بحضوري إذ كان قد اجتمع عليه العمى والصمم. وذلك لئلا يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام.
سمعت في ذلك المجلس بأُذنيَّ "كليب الهامل" يحكي مناقضاً لدعوة الإصلاح التي اشتهرت يومئذ، أن شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية كان مع
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.49).
مريديه في سفينة فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجؤوا جميعاً إلى الله يسألون الفرج والسلامة. وكان الشيخ منفرداً في غرفة يدعو فلم تنفرج الأزمة، وعادته أن لا يبطأ عليه بالإجابة، فوقع في روعه أنه أتي من قبل أتباعه. لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه، فخرج على أتباعه مغضباً يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدة؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدين بلسان المضطرين -إشارة إلى لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوء .. } (1) - فنكر عليهم اللجوء إلى الله مباشرة، ووبخهم عليه، وعرفهم أن ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه، وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجه إلى ربهم، وأنه الغرق، وعلمهم أن واجبهم هو التوجه إليه وسؤاله، ثم هو وحده يتوجه إلى الله، فتابوا من دعاء الموحدين، وامتثلوا تعليم الشيخ المخالف لتعليم رب العالمين. وعاد الشيخ إلى غرفته يدعو متوسطاً بين الله ومريديه، فانكشفت الغمة، وسملت السفينة، وحمد الشيخ ثقته بنفسه وفقهه سر البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهه لأتباعه سر النجاة وصرفهم إلى الثقة به عن الثقة بالله.
هذا معنى ما سمعته من "كليب الهامل"، ولم أقيد الحكاية حين السماع حتى أؤديها بلفظها وأصورها بنصها، ولم يسعني وأنا في مقام التحذير من الشرك اجتناب إدراج ما ينافي غرض الحاكي في الحكاية حتى تتم ثم أعلق عليها، لئلا يعلق بذهن القارئ شيء من الشرك، ولو إلى حين، ولم أميز
(1) النمل الآية (62).