الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر".
ولقد أطال الكلام في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، ولخص ذلك في كتابه 'جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن'.
ومن الناس من فرق بين مذهب السلف ومذهب الحشوية، بأن مذهب الحشوية ورود ما يتعذر التوصل إلى معناه المراد مطلقا، فالاستواء -مثلا- عندهم له معنى يتوصل إليه بمجرد سماعه كل من يعرف الموضوعات اللغوية، إلا أنه غير مراد، لأنه خلاف ما يقتضيه دليل العقل والنقل، ومعنى آخر يليق به -تعالى- لا يعلمه إلا هو عز وجل.
وكيف يكون مذهب السلف هو مذهب الحشوية، وقد رأى الحسن البصري الذي هو من أكابر السلف سقوط قول الحشوية، ولم يرض أن يقعد قائله تجاهه؟!.
والمقصود أن أهل الباطل من المبتدعة رموا أهل السنة والحديث بمثل هذا اللقب الخبيث. قال أبو محمد عبد الله بن قتيبة في 'تأويل مختلف الأحاديث': إن أصحاب البدع سموا أهل الحديث بالحشوية، والنابتة، والمتجبرة، والجبرية، وسموهم الغثاء، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
موقفه من القدرية:
قال في المسألة الخامسة والثلاثين: جحود القدر، والاحتجاج به على الله تعالى ومعارضة شرع الله بقدر الله.
(1)(ص.188 - 191).
وهذه المسألة من غوامض مسائل الدين، والوقوف على سرها عسر إلا على من وفقه الله تعالى.
ولابن القيم كتاب جليل في هذا الباب سماه 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل'.
وقد أبطل الله سبحانه هذه العقيدة الجاهلية بقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (1).
تفسير هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : حكاية لفن آخر من أباطيلهم.
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} : لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح، إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل هم كما نطقت به الآيات يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وأن التحريم إنما كان من الله عزوجل، فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند
(1) الأنعام الآيتان (148و149).
الله تعالى على أن المشيئة والإرادة تساوي الأمر، وتستلزم الرضى، كما زعمت المعتزلة، فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئته سبحانه وإرادته، فهو مشروع ومرضي عند الله تعالى.
وبعد أن حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم، رد عليهم بقوله عز من قائل:{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وهم أسلافهم المشركون.
وحاصله: أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام، وقد دلت المعجزة على صدقهم. أو نقول: حاصله: أن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، وكل ما هذا شأنه فلا تكليف به، لكونه مشروطا بالاستطاعة، فينتج: أن ما ارتكبه من الشرك وغيره، لم يتكلف بتركه، ولم يبعث له نبي، فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل، لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون، وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية، ولكونه صدقا أريد به باطل، ذمهم الله تعالى بالتكذيب.
ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف، لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة.
حتى {ذَاقُوا بَأْسَنَا} ، أي: نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى، لأن الذوق أول إدراك الشيء.
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} ، أي: هل لكم من علم بأن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان؟
وهذا دليل على أن المشركين أمم استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث قرع مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى، فحين طالبوهم بالإسلام، والتزام الأحكام، احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العَيُّوق. (1)
{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} ، أي: تكذبون على الله تعالى.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ، أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، والمراد بها في المشهور: الكتاب والرسول والبيان. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} بالتوفيق لها، والحمل عليها، ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.
ومن الناس من ذكر وجها آخر في توجيه ما في الآية: وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلمون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله
(1) كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا من ناحية الشمال ويطلع قبل الجوزاء، سمي بذلك لأنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا. لسان العرب مادة [عيق].
تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك، فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال، فكذب الرسل، وأشرك بالله عزوجل، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة.
ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له تعالى لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعين.
والمقصود أن يمتحض وجه الرد عليهم، وتتلخص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم، وأن إقامتهم الحجة بذلك خاصة.
وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا لصدور الجبرية، وعجزها معجزا للمعتزلة، إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة لأهل السنة على المعتزلة، والحمد لله رب العالمين.
ومنهم من وجه الآية: بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، على معنى أن الله تعالى شاء شركنا، وأراده منا، وأنتم تخالفون إرادته، حيث تدعونا إلى الإيمان، فوبخهم سبحانه وتعلى بوجوه عدة:
منها قوله سبحانه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ، فإنه بتقدير الشرط، أي:
إذا كان الأمر كما زعمتم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} .
وقوله سبحانه: {فلو شَاءَ} بدلا منه على سبيل البيان، أي: لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه، لو كان الأمر كما تزعمون، لكان الإسلام أيضا بالمشيئة، فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام، كما وجب بزعمكم ألا يمنعكم الأنبياء عن الشرك، فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة، بل موافقة وموالاة.
وحاصله: أن ما خالف مذهبكم من النِّحل يجب أن يكون عندكم حقا، لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة.
الكلام على هذه الآية كالكلام على الآية السابقة، ولا تراهم يتشبثون إلا عند انخذال الحجة، ألا ترى كيف ختم بنحو آخر مجادلتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة الزخرف وهو قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
(1) النحل الآية (35).
سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} (1).
ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ، والمراد بما حرموه: السوائب والبحائر وغيرها.
وفي تخصيص الاشتراك والتحريم بالنفي، لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله: أي ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه وتعالى شاء أن نوحده، ولا نشرك به شيئا، ونحلل ما أحله، ولا نحرم شيئا مما حرمنا، كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك، وتحليل ما أحله، وعدم تحريم شيء من ذلك، وحيث لم يكن كذلك، ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما يقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم. فرد الله تعالى عليهم بقوله:{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم، أي: أشركوا بالله تعالى، وحرموا من دونه ما حرموا، وجادلوا رسلهم بالباطل
(1) الزخرف الآيات (19 - 22).
ليدحضوا به الحق.
{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} ، أي: ليست وظيفتهم إلا البلاغ للرسالة، الموضح طريق الحق، والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (1).
وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليه شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي يتوقف عليها التكليف، حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لابد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين.
والكلام على هذه الآية ونحوها مستوفى في تفسير 'روح المعاني' (2) وغيره.
فجحود القدر، والاحتجاج به على الله، ومعارضة شرع الله بقدره، كل ذلك من ضلالات الجاهلية.
والمقصود أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، فمن زلت
(1) العنكبوت الآية (69).
(2)
(8/ 51 - 53).
قدمه عن هذه الجادة كان على ما كان عليه أهل الجاهلية، وهي الطريقة التي رد عليها الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. (1)
الشيخ بَابَ (2)(1342 هـ)
العلامة المحدث سيدي بن سيدي محمد، وقد اشتهر بلقبه باب ابن الشيخ سيدي، ويقال له الشيخ سيدي بَابَ، وكنيته أبو محمد ويرجع نسبه إلى قبيلة تَنْدَغ المرابطية. ولد عام سبع وسبعين ومائتين وألف في بلاده، ونشأ في بيئة علمية متدينة فهو من عائلة ذات شهرة دينية وعلمية كبيرة لها مكانة في المجتمع الموريتاني. حفظ القرآن الكريم قبل بلوغه عشر سنين، واشتغل بتحصيل العلم على كبار علماء بلاده، منهم: محمد بن السالم البوحسني، ومحمد بن حنبل بن الفال، وأحمد بن سليمان الديماني، وأحمد بن أزوين. درس السنة وجعلها نصب عينيه وعمل بها، عقيدة وشريعة وسلوكا.
كان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبالي بما يصيبه في سبيله وقاد دعوة سلفية تهدف إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ الجمود والتقليد.
قال سبطه محمد بن أبي مدين: محيي السنة ومجدد القرن الرابع عشر. وقال عنه أحمد بن أحمد المختار: العلامة المحقق الموحد، العالم المتبحر سيف الله المسلول على المبتدعين والمعطلين وأهل الخرافة أجمعين. وله عدة مؤلفات
(1) شرح المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص.129 - 137).
(2)
السلفية وأعلامها في موريتانيا (282 وما بعدها).