الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الرحمن المُعَلِّمِي اليمني (1)(1386 هـ)
العلامة عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني. ولد بالعتمة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ونشأ بها. سافر إلى جيزان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وعين في رئاسة القضاء، ثم سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ثم عاد إلى مكة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فعين أمينا لمكتبة الحرم المكي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وبقي فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة ست وثمانين وثلاثمائة وألف، ودفن بمكة.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيار العلماء رحمه الله، بذل مجهودا كبيرا في التراث الإسلامي وفي خدمة طلاب العلم، تصدى للشيخ النجدي (2) وبين ضلاله وتلبيساته على المسلمين، وطعنه على السلف، وفي مقدمتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابه 'التنكيل' يشهد له بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، والمعرفة الواسعة في علم الرجال. وقد خصص جزءا كبيرا من 'التنكيل' بين فيه العقيدة السلفية، ودافع عنها أحسن دفاع، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنات الفردوس وإخوانه السلفيين.
- فمن كلامه في التنكيل: والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة، ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم
(1) الأعلام (3/ 342) ومقدمة التنكيل (3 - 8) والمستدرك على معجم المؤلفين (366).
(2)
هو محمد زاهد الكوثري.
يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ (1) لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقر منه، بل أربى عليهم جميعا كما تراه في الطليعة، ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى. وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر، وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل السنة، وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة، وقد يسهو أو يخطئ أو يزل، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافه، فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها، ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعد غلوهم تقصيرا. (2)
- وقال في فصل: (فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، وما يجب على أهل العلم في هذا العصر).
قال الله تبارك وتعالى: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
(1) الكوثري.
(2)
التنكيل (1/ 26).
(3)
الشورى الآيتان (13و14).
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلى أن قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} (1). وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (2) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (3).
وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ
(1) آل عمران الآيات (100 - 105).
(2)
الأنعام الآية (153).
(3)
الأنعام الآية (159).
حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (1). وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} (2) إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذم الفريقين. قلت: كلا، فإن الآيات نفسها تحض على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع الصراط، بل هذا هو المقصود منها، فالثابت على السراط لم يحدث شيئا، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج عن السراط، وهو منهي عن ذلك، فعليه التبعة. فإن قيل: المكلف مأمور (3) بالاستقامة على الصراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبر، وحجج الحق -كما سلف في المقدمة- غير مكشوفة، فالباحث معرض للخطأ، بل من تدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يختلف الناظرون فيها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4)
وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
(1) الروم الآيات (30 - 32).
(2)
هود الآيتان (118و119).
(3)
في الأصل: بأمور.
(4)
البقرة الآية (286) ..
اسْتَطَعْتُمْ} (1). أقول -وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق-: قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه كما سلف أنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين:
الأول: تمييز الحجج من الشبهات.
الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه.
وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة الصراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (2). وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعا من هذه الأمة هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3). وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (4). فالصراط المستقيم: هو ما كان
(1) التغابن الآية (16).
(2)
الفاتحة الآية (7).
(3)
يوسف الآية (108).
(4)
النساء الآية (115).
عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع. فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسرا للصحابة وخيار التابعين، فهو من الصراط المستقيم، وما خفي أو تردد فيه النظر فالصراط المستقيم، هو السكوت عنه، قال الله تعالى لرسوله:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1). وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} (2). وفي الصحيحين من حديث جندب ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» (3). فإن كان من الأحكام العملية -والقضية واقعة- ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كان يجري عليها في أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين.
فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم، ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر والرأي المتعمق فيه، لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يقضى عليه بالخروج عن الصراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه.
هذا، والاختلاف المنهي عنه من لازمه -كما بينته الآيات- التحزب وأن يكونوا شيعا، وسبيل الحق بينة، والدين محفوظ قد تكفل الله تعالى
(1) الإسراء الآية (36).
(2)
ص الآية (86).
(3)
أحمد (4/ 313) والبخاري (9/ 124/5060 - 5061) ومسلم (4/ 2053/2667).
بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على أخطائه، فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه، فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى، ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرهم صادقون في الجملة، ولكن الرامي يغفل عن نفسه، وكما جاء في الأثر «يرى القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه» (1). وعلى كل حال، فإن الأمة قد اتبعت سنن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك بل من أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعا، وقد تواترت الأخبار بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على الصراط، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعا؛ ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب:
الأول: العقائد، وقد علمت أن هناك معدنا لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدنا للشبه، وهو المأخذان الخلفيان، فطريق الحق في ذلك واضح.
المطلب الثاني: البدع العملية، والأمر في هذا قريب لولا غلبة الهوى،
(1) أخرجه ابن حبان (13/ 73 - 74/ 5761) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 356/610) وأبو نعيم في الحلية (4/ 99) من حديث أبي هريرة مرفوعا: «يبصر أحدكم القذاة
…
» الحديث.
فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرح قوم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل، وقد شرحت ذلك في كتاب (العبادة)، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها (1) بأسا، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأن في الأعمال المشروعة اتفاقا ما هو أعظم أجرا وأكبر فضلا بدرجات لا تحصى، وقد قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2)، وفي (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم:«الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (3) وفي حديث آخر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (4). وفي حديث آخر: «إنه لا يبلغ العبد أن
(1) في الأصل: بعضها.
(2)
التغابن الآية (16).
(3)
أحمد (4/ 270) والبخاري (1/ 168/52) ومسلم (3/ 1219 - 1220/ 1599) وأبو داود (3/ 624/3330) والترمذي (3/ 511/1205) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 277 - 279/ 4465) وابن ماجه (2/ 1318 - 1319/ 3984).
(4)
أحمد (1/ 200) والترمذي (4/ 576 - 577/ 2518) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 732/5727) وابن حبان (2/ 498/722 الإحسان) والحاكم (2/ 13) وصححه ووافقه الذهبي.
يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس» (1).
والنظر الواضح يكشف هذا، فإنك لو كنت مريضا، فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سم قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سما ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضار، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع. أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلا بأن تجتنب ذاك الشيء؟! أو ليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركا ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعدائك؟! وتدبر في نفسك، أيصح من عاقل محب للإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركا؟! أو ليس من يصر إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركا؟
المطلب الثالث: الفقهيات، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه -كما مرت الإشارة إليه- لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقا متنازعة وشيعا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص، وإذ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغي،
(1) الترمذي (4/ 547/2451) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1409/4215) والحاكم (4/ 319) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي .. وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 178) وقال: "وهذا عجب منه خاصة، فإن عبد الله بن يزيد وهو الدمشقي لم يوثقه أحد، بل قال الجوزجاني: "روى عن ابن عقيل أحاديث منكرة"
…
وأورده الذهبي نفسه في الضعفاء وذكر قول الجوزجاني هذا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف".
ويتناسوا ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبوها مذهبا واحدا اختلف علماؤه، وأن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيار الأرجح منها.
وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه، فيترجح عندك قول مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعا للدليل الراجح من جهة، ومقلدا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة؛ والفقهاء يجيزون تقليد المقلد غير إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟! وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن خالف هواه فأمرها هين، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالما فيفتيه فيأخذ بفتواه، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضا أو الصلاة فيسأل عالما آخر فيفيته فيأخذ بفتواه، وهكذا، ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف، فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غير مقصود، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص. فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له
أن يثق بما تبين له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه؛ نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظروا فيها مجتمعين، ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى.
فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدع، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح، وكان مع ذلك محافظا على الفرائض، مجتنبا للكبائر، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب، فهو من الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال قائمة على الحق، فليتعرف إخوانه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوع بالمسلمين إلى سواء الصراط. فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (2). اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، {ربنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا
(1) التوبة الآية (31).
(2)
الجاثية الآية (23).