الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسرّ حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جمّ وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه فى صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا.
2-
وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان، والأسد، والسنبلة.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوّة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرّة الصفراء؛ ومن الكواكب المرّيخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنّثرة والطّرف والجبهة (وهى أربعة عشر يوما) والخراتان وبعض الصّرفة. وتنزل الشمس فى برج السرطان فى الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفى العشرين من بؤونه، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل فى الزيادة، والنهار فى النقصان. والله أعلم.
ذكر ما قيل فى وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا
فمن ذلك ما قاله ذو الرمّة:
وهاجرة حرّها واقد
…
نصبت لحاجبها حاجبى.
تلوذ من الشمس أطلاؤها
…
لياذ الغريم من الطّالب.
وتسجد للشمس حرباؤها
…
كما يسجد القسّ للرّاهب.
وقال مسكين الدّارمىّ.
وهاجرة ظلّت كأنّ ظباءها
…
إذا ما اتّقتها بالقرون سجود.
تلوذ بسؤبوب من الشمس فوقها
…
كما لاذ من حرّ السّنان طريد.
وقال ابن الفقيسىّ:
فى زمان يشوى الوجوه بحرّ،
…
ويذيب الجسوم لو كنّ صخرا.
لا تطير النّسور فيه إذا ما
…
وقفت شمسه وقارب ظهرا.
ويودّ الغصن النّضير به لو
…
أنّه من لحائه يتعرّى.
وقال أيضا:
يا ليلة بتّ بها ساهدا
…
من شدّة الحرّ وفرط الأوار.
كأننى فى جنحها محرم
…
لو أنّ للعورة منّى استتار.
وكيف لا أحرم فى ليلة
…
سماؤها بالشّهب ترمى الجمار؟
وقال آخر:
ويوم سموم خلت أنّ نسيمه
…
ذوات سموم للقلوب لوادغ،
ظللت به أشكو مكابدة الهوى
…
فكوزى ملآن ومائى فارغ.
وقال محمد بن أبى الثياب، شاعر اليتيمة:
وهاجرة تشوى الوجوه كأنّها
…
إذا لفحت خدّىّ نار توهجّ.
وماء كلون الزيت ملح كأنّه
…
بوجدى يغلى أو بهجرك يمزج.
وقال الثعالبىّ:
ربّ يوم هواؤه يتلظّى
…
فيحاكى فؤاد صبّ متيّم.
قلت إذ صكّ حرّه حرّ وجهى:
…
ومما وصف به من النثر قول بعضهم:
أوقدت الظّهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب؛ هاجرة كأنها من قلوب العشّاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق؛ حرّ تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس؛ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج [1] ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور.
3-
وأما فصل الخريف- فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس.
وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشّمال؛ ومن الساعات السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوّة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرّة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصّرفة والعوّاء والسّماك والغفر والزّبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان فى الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفى الثامن عشر من توت.
وفى هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، وتصرم الثمار، ويغيّر وجه الأرض، ويصفرّ ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوامّ، وتنجحر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدّفئة، وتصير الدّنيا كأنها كهلة مدبرة.
ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين.
والله أعلم.
[1] هكذا بالأصل وفى صبح الأعشى ثلج.
ذكر ما قيل فى وصف فصل الخريف وتشبيهه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ، عفا الله عنه:
ما قضى فى الربيع حقّ المسرّا
…
ت مضيع زمانه فى الخريف.
نحن منه على تلقّى شتاء
…
يوجب القصف أو وداع مضيف.
فى قميص من الزمان رقيق
…
ورداء من الهواء خفيف.
يرعد الماء منه خوفا إذا ما
…
لمسته يد النّسيم الضّعيف.
وقال عبد الله بن المعتز:
طاب شرب الصّبوح فى أيلول!
…
برد الظلّ فى الضّحى والأصيل!
وخبت جمرة الهواجر عنّا،
…
واسترحنا من النهار الطّويل.
وخرجنا من السّموم إلى بر
…
د نسيم، وطيب ظلّ ظليل،
وشمال تبشّر الأرض بالقط
…
ر كذيل الغلالة المبلول.
فكأنّا نزداد قربا الى الجن
…
ة فى كلّ شارق وأصيل.
ووجوه البقاع تنتظر الغي
…
ث انتظار المحبّ ردّ الرّسول.
تبتغى غلّة لتعمل روضا
…
بكثير من الحبا أو قليل.
وقال آخر:
اشرب على طيب الزمان فقد حدا
…
بالصّيف من أيلول أسرع حاد.
وأشمّنا باللّيل برد نسيمه
…
فارتاحت الأرواح فى الأجساد.
وأفاك بالأنداء قدّام الحيا
…
فالأرض للأمطار فى استعداد.
كم فى ضمائر تربها من روضة
…
بمسيل ماء أو قرارة واد.
تبدو إذا جاد السّحاب بقطره
…
فكأنما كانا على ميعاد.
وقال آخر:
لا تصغ للّوم إنّ اللّوم تضليل
…
واشرب ففى الشّرب للأحزان تحليل.
فقد مضى القيظ واجتثّت رواحله،
…
وطابت الرّاح لما آل أيلول.
وليس فى الأرض نبت يشتكى رمدا
…
إلا وناظره بالطّلّ مكحول.
وقال آخر يذمّه:
خذ بالتّدثّر فى الخريف فإنّه
…
مستوبل، ونسيمه خطّاف.
يجرى مع الأيّام جرى نفاقها
…
لصديقها «ومن الصّديق يخاف» !
ومما وصف به من النثر:
قال أبو إسحاق الصابى يصفه:
الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا؛ وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرّحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذّنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد، كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهذّبا من عكرها؛ واطّرادا مع نفحات الهواء، وحركات الريح الشّجواء؛ واكتست الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب.
وقال ابن شبل:
كلّ ما يظهر فى الربيع نوّاره، ففى الخريف تجتنى ثماره؛ فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدّامه.
وقال ضياء الدّين ابن الأثير الجزرىّ عن الخريف يفتخر على فصل الربيع:
أنا الذى آتى بذهاب السّموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفىّ يترقرق صفاء الأنهار، فتشتبه القوابل بالأسحار، وأيامى
هى الذهبيات وتلك نسبة كريمة النّجار؛ ومن ثمراتى ما لا تزال أمّهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيرها ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل.
ولقد أنصف من قال:
محاسن للخريف بهنّ فخر
…
على زمن الربيع، وأىّ فخر!
به صار الزّمان أمام برد
…
يراقب نزحه وعقيب حرّ.
4-
وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدى والدّلو والحوت.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشيخوخة؛ ومن الرياح الدّبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوّة الدّافعة؛ ومن الاخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشترى وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدّم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما.
ويكون حلول الشمس برأس الجدى فى الثالث عشر من كانون الأوّل، ويوافقه دچنبر من شهور الروم؛ وفى السابع عشر من كيهك من شهور القبط. وإذا حلت الشمس ببرج الجدى يشتدّ البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجوّ، وتصير الدّنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت.
وروى عن علىّ (رضى الله عنه) أنه قال: «توقّوا البرد فى أوّله، وتلقّوه فى آخره، فإنه يفعل فى الأبدان كفعله فى الأشجار: أوّله يحرق، وآخره يورق» .
ذكر ما قيل فى وصف فصل الشتاء وتشبيهه.
فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة:
فى ليلة من جمادى ذات أندية
…
لا يبصر الكلب فى ظلمائها الطّنبا.
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
…
حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا.
وقال ابن حكينا البغدادىّ:
البس إذا قدم الشّتاء برودا
…
وافرش على رغم الحصير لبودا.
الرّيق فى اللهوات أصبح جامدا
…
والدّمع فى الآماق صار برودا.
وإذا رميت بفضل كأسك فى الهوا
…
عادت عليك من العقيق عقودا.
وترى على برد المياه طيورها
…
تختار حرّ النّار والسّفّودا.
يا صاحب العودين لا تهملهما
…
أوقد لنا عودا، وحرّك عودا!
وقال آخر:
ويومنا أرواحه قرّة
…
تخمّش الأبدان من قرصها.
يوم تودّ الشمس من برده
…
لو جرّت النّار إلى قرصها!
وقال عبد الله بن المعتزّ:
قد منع الماء من اللّمس
…
وأمكن الجمر من المسّ.
فليس نلقى غير ذى رعدة،
…
ومسلم يسجد للشّمس!
وقال آخر:
ليس عندى من آلة البرد إلّا
…
حسن صبرى، ورعدتى، وقنوعى.
فكأنّى لشدّة البرد هرّ
…
يرقب الشّمس فى أوان الطّلوع.
وقال ابن سكّرة الهاشمىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
قيل: ما أعددت للبر
…
د وقد جاء بشدّه؟
قلت: درّاعة برد
…
تحتها جبّة رعده.
وقال أبو سعيد المخزومىّ:
إذا كنت فى بلدة نازلا
…
وحلّ الشّتاء حلول المقيم،
فلا تبرزنّ إلى أن ترى
…
من الصّحو يوما صحيح الأديم.
فكم زلقة فى حواشى الطريق
…
تردّ الثياب بخزى عظيم!
وكم من لئيم غدا راكبا
…
يحبّ البلاء لماش كريم!
وقال الصاحب بن عبّاد:
أنّى ركبت فكفّ الأرض كاتبة
…
على ثيابى سطورا ليس تنكتم.
فالأرض محبرة، والحبر من لثق
…
والطّرس ثوبى، ويمنى الأشهب القلم.
قال أبو علىّ كاتب بكر شاعر اليتيمة:
يا بلدة أسلمنى بردها
…
وبرد من يسكنها للقلق.
لا يسلم الشّاتى بها من أذى
…
من لثق، أو دمق، أو زلق.
ومما وصف به نثرا قول بعضهم:
إذا حلّت الشمس برج الجدى مدّ الشتاء رواقه، وحلّ نطاقه؛ ودبّت عقارب البرد لاسبه، ونفع مدخور الكسب كاسبه.
ومن رسالة لابن أبى الخصال، جاء منها:
الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضّريب وصعّد أنفاسه الصعيد؛
فحماه مباح، ولا هرير له ولا نباح؛ والنار كالصّديق، أو كالرّحيق؛ كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرّب.
وقال بعضهم:
برد بغير الألوان، وينشّف الأبدان؛ ويجمّد الريق فى الأشداق، والدّمع فى الآماق؛ برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره.
وقيل لبعضهم: أىّ البرد أشدّ؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر المنخران، وتلجلج اللسان، واصطكّت الأسنان.
ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة فى أرجوزة فقال:
عندى فى وصف الفصول الأربعه
…
مقالة تغنى اللّبيب مقنعه.
ذكر ما قيل فى فصل الصيف
أمّا المصيف، فاستمع ما فيه
…
من فطن يفهم سامعيه.
فصل من الدّهر إذا قيل حضر،
…
أذكرنا بحرّه نار سقر.
يظلّ فيه القلب مقشعرّا،
…
والأرض تشكو حرّه المضرّا.
أوّله فيه ندى منغّص
…
كأنه على القلوب يقنص.
يلصق منه الجلد بالثّياب
…
ويعلق التّراب بالأثواب.
حتّى إذا ما طردته الشمس
…
وفرحت بأن يزول النّفس.
فتّحت النّار لنا أبوابها
…
وشبّ فيها مالك شهابها.
حرّ يحيل الأوجه الغرّانا
…
حتّى ترى الروم به حبشانا.
يعلو به الكرب ويشتدّ القلق
…
وتنضح الأبدان فيه بالعرق.
تبصره فوق القميص قد علا
…
حتّى ترى مبيضّه مصندلا.
إن كان رثّا، زاد فى تمزيقه؛
…
أو مستجدّا، جدّ جبل زيقه.
ثم يعيد الماء نارا حاميه
…
يزيد فى كرب القلوب الصّاديه.
شاربه يكرع فى حميم
…
كأنّه من ساكنى الجحيم.
ينسيه ما يلقى من التهابه
…
أن يحمد الله على شرابه.
حتّى إذا أعيا، انقضى نهاره
…
وأرخيت من ليله أستاره،
تحرّكت فى جنحه دواهى
…
سارية، وأنت عنها لاهى.
من عقرب يسعى كسعى اللّصّ
…
سلاحها فى إثره كالشّصّ.
وحيّة تنفث سمّا قاتلا
…
تزوّد الملسوع حتفا عاجلا.
تبصر ما بجلدها من الرّقش
…
كوجنة مصفرة فيها نمش.
لو نهشت بالنّاب منها الخضرا،
…
لنثرت منه الحياة نثرا.
فلا تقل إن جاء يوما أهلا
…
فلعنة الله عليه فصلا.
ذكر ما قيل فى فصل الخريف
حتّى إذا زال، أتى الخريف:
…
فصل بكلّ سوأة معروف.
أهونه يسرع فى حلّ الجسد
…
وهو كطبع الموت يبس وبرد.
يجنى على الأجسام من آفاته،
…
وأرضه قرعاء من نباته.
لا يمكن النّاس اتّقاء شرّه
…
ولا خلاف برده وحرّه.
تبصره مثل الصّبىّ الأرعن
…
من كثرة العشّاق والتلوّن.
فأنت منه خائف على حذر
…
لأنه يمزج بالصّفو الكدر.
أحسن ما يهدى لك النّسيما
…
يقلبه فى ساعة سموما.
وهو على المعدود من ذنوبه
…
خير من الصّيف على عيوبه.
ذكر ما قيل فى فصل الشتاء
حتّى إذا ما أقبل الشّتاء،
…
جاءتك منه غمّة عمياء.
لو أنّه روح، لكان فدما
…
أو أنه شخص، لكان جهما.
يلقاك منه أسد يزير
…
له وعيد وله تحذير.
تأتيك فى أيّامه رياح
…
ليس على لاعنها جناح.
حراكها ليس إلى سكون
…
تضرّ بالأسماع والعيون.
يحدث من أفعالها الزّكام
…
هذا إذا ما فاتك الصّدام.
ثم يليها مطر مداوم
…
كأنه خصم لنا ملازم.
يقطعنا بعضا عن الطريق
…
وعن قضاء الحقّ للصّديق.
وربما خرّ عليك السّقف،
…
فإن عفا عنك أتاك الوكف.
وإن أردت فى النّهار الشّربا
…
فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا.
واحتجت أن توقد فيه نارا
…
تطير نحو الحدق الشّرارا.
يترك مبيضّ الثّياب أرقطا
…
يحكى السّعيدىّ لك المنقّطا.
وبعد ذا تسدّد النقابا
…
من خوفه وتغلق الأبوابا.
نعم، وترخى دونه السّتورا
…
حتّى ترى صباحه ديجورا.
وإن أردت الشّرب فى الظّلام
…
عاقك عن تناول المدام.
حسبك أن تندسّ فى اللّحاف
…
من خشية البرد على الأطراف!
ورعده يشغل عن كلّ عمل
…
ويؤثر النّوم ويستحلى الكسل.
حتّى إذا جئت إلى الرّقاد،
…
نمت على فرش من القتاد.
إنّ البراغيث عذاب مزعج
…
لكلّ قلب ولجلد ينضج.
لا يستلذّ جلدك المضاجعا
…
كأنما أفرشه مباضعا.
تنحّ فصلا فوق ما ذممته
…
لو أنه يظهر لى، قتلته.
حتّى إذا ما هو عنّا بانا
…
وزال عنّا بعضه، لا كانا!
ذكر ما قيل فى فصل الربيع
جاء إلينا زمن الرّبيع
…
فجاء فصل حسن الجميع.
لبرده وحرّه مقدار
…
لم يكتنف حدّهما إكثار.
عدّل فى أوزانه حتّى اعتدل
…
وحمد التّفصيل منه والجمل.
نهاره فى أحسن النّهار
…
فى غاية الإشراق والإسفار.
تضحك فيه الشّمس من غير عجب
…
كأنّها فى الأفق جام من ذهب.
وليله مستلطف النّسيم
…
مقوّم فى أحسن التّقويم.
لبدره فضل على البدور
…
فى حسن إشراق وفرط نور.
كجامة البلّور فى صفائها
…
أذابت الجراد فى نقابها.
كأنّها إذا دنت من بدره
…
جوزاؤه قبل طلوع فجره.
روميّة حلّتها زرقاء
…
فى الجيد منها درّة بيضاء.
هذا وكم تجمع من أمور
…
إطراء مطربها من التّقصير.
فيه تظلّ الطّير فى ترنّم
…
حاذقة باللّحن لم تعلّم.
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه
…
سامعه وهو على ذا يغرمه.
من كلّ دبسىّ له رنين
…
وكلّ قمرى له حنين.
فى قرطق أعجل أن يورّدا
…
خاط له الخيّاط طوقا أسودا.
تبصره منه على الحيزوم
…
كمثل عقد سبج منظوم.
هذا وفيه للرّياض منظر
…
يفشى الثّرى من سرّه ما يضمر.
سرّ نبات حسنه إعلانه
…
إذا سواه زانه كتمانه.
فيه ضروب لنبات [1] الغضّ
…
يحكى لباس الجند يوم العرض.
من نرجس أبيض كالثّغور
…
كأنّه مخانق الكافور.
وروضة تزهر من بنفسج
…
كأنّها أرض من الفيروزج.
قد لبست غلالة زرقاء
…
وكايدت بلونها السّماء.
يضحك منها زهر الشّقيق
…
كأنّه مداهن العقيق.
مضمّنات قطعا من السّبج
…
قد أشرقت من احمرار ودعج.
كأنّما المحمرّ فى المسودّ
…
منه إذا لاح عيون الرّمد.
وارم بعينيك إلى البهار
…
فإنّه من أحسن الأزهار.
كأنّه مداهن من عسجد
…
قد سمّرت فى قضب الزّبرجد.
فانهض إلى اللهو ولا تخلّف
…
فلست فى ذلك بالمعنّف.
واشرب عقارا طال فينا كونها
…
يصفرّ من خوف المزاج لونها.
دونك هذى صفة الزّمان
…
مشروحة فى أحسن التّبيان!
وارض بتقليدى فيما قلته
…
فإنّنى أدرى بما وصفته.
[1] لعله للنبات بالتعريف.