الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما الأهرام
التى بأرض مصر فهى كثيرة. وأعظمها الهرمان اللذان بالجيزة غربىّ مصر.
وقد اختلف في بانيهما.
فقال قوم: بانيهما سوريد بن سهلوق بن سرناق. بناهما قبل الطوفان لرؤيا رآها، فقصّها على الكهنة، فنظروا فيما تدل عليه الكواكب النيرة من أحداث تحدث فى العالم، فأقاموا مراكزها في وقت المسألة. فدلت على أنها نازلة من السماء تحيط بوجه الأرض. فأمر حينئذ ببناء البرابى والأهرام، وصوّر فيها صور الكواكب ودرجها وما لها من الأعمال وأسرار الطبائع والنواميس وعمل الصنعة.
ويقال إن هرمس المثلث بالحكمة (وهو الذى يسميه العبرانيون أخنخ، وهو إدريس عليه السلام استدلّ من أحوال الكواكب على كون الطوفان. فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم وما يخاف عليه الذهاب والدّثور.
وكل هرم منها مربع القاعدة، مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر دراعا، يحيط به أربعة سطوح متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعا، ويرتفع إلى أن يكون سطحه مقدار ستة أذرع فى مثلها.
ويقال إنه كان عليه حجر شبه المكبّة فرمته الرياح العواصف.
وهو مع هذا العظم من إحكام الصنعة وإتقان الهندسة وحسن التقدير بحيث إنه لم يتأثر إلى يومنا هذا بعصف الرياح وهطل الأمطار وزعزعة الزلازل؛ وطول الحجر منه خمسة أذرع في سمك ذراعين.
ويقال إن بانيهما جعل لهما أبوابا على آزاج مبنية بالحجارة في الأرض، طول كل أزج منها عشرون ذراعا. وكل باب من حجر واحد يدور بلولب، إذا أطبق لم يعلم أحد أنه باب. فأزج الشرقىّ منها في ناحية الجنوب، وأزج الغربىّ في ناحية الغرب. يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة؛ وكلها مقفلة بأقفال. وحذاء كل بيت منها صنم من ذهب مجوّف، إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالمسند إذا قرئت انفتح فوه فتوجد فيه مفاتيح ذلك القفل فيفتح بها.
والقبط يزعمون أنها والهرم الصغير الملوّن قبور: فالهرم الشرقىّ فيه سوريد الملك، وفي الهرم الغربىّ أخوه هو حيت [1] .
والصابئة تزعم أن أحدها قبر أغاثديمون، والآخر قبر هرمس، والملوّن قبر صاب ابن هرمس؛ وإليه تنسب الصابئة على قول من زعم ذلك منهم؛ وهم يحجّون إليها ويذبحون عندها الدّيكة والعجول السّود، ويبخرون بدخن؛ ويزعمون أنهم يعرفون عند اضطراب ما يذبحون حالة الذبح ما يريدن عمله من الأمور الطبيعية.
وقصرت همم الملوك والخلفاء عن معرفة ما في هذين الهرمين، إلى أن ولى عبد الله المأمون الخلافة وورد مصر، أمر بفتح واحد منها. ففتح بعد عناء طويل، واتفق لسعادته أنه وقع النّقب على مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب، وهو زلّاقة ضيقة من الحجر الصوّان الماتع الذى لا يعمل فيه الحديد، بين حاجزين ملتصقين بالحائط قد نقر في الزّلّاقة حفر، يتمسك السالك بتلك الحفر، ويستعين بها
[1] كذا بالأصل وكذلك في خطط المقريزى. وفي ياقوت «هو جيب» .
على المشى في الزّلّاقة لئلا يزلق، وأسفل الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر. ويقال إن أسفل البئر أبواب يدخل منها إلى مواضع كثيرة وبيوت ومخادع وعجائب.
وانتهت بهم الزّلّاقة إلى موضع مربّع في وسطه حوض من حجر صلد مغطّى. فلما كشف عنه غطاؤه، لم يوجد فيه إلا رمّة بالية. فأمر المأمون بالكف عما سواه.
وهذا الموضع يدخله الناس إلى وقتنا هذا.
وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر الأهرام عند ذكرنا لأخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، وذلك في الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك.
وقال بعض أهل النظر، وقد عاين الأهرام:«كلّ بناء يخاف عليه من الدّهر، إلا هذا البناء فإنى أخاف على الدّهر منه» .
ونظم عمارة اليمنىّ هذا القول، فقال:
خليلىّ، ما تحت السماء بنيّة
…
تماثل في إتقانها هرمى مصر!
بناء يخاف الدّهر منه، وكلّ ما
…
على ظاهر الدنيا يخاف من الدّهر!
تنزّه طرفى في بديع بنائها،
…
ولم يتنزّه في المراد بها فكرى.
وقال بعض الشعراء:
حسرت عقول ذوى النّهى الأهرام،
…
واستصغرت لعظيمها الأعلام.
ملس منيّفة البناء شواهق،
…
قصرت لعال دونهنّ سهام!
لم أدر حين كبا التفكّر دونها
…
واستبهمت لعجيبها الأوهام،
أقبور أملاك الأعاجم هنّ، أم
…
طلّسم رمل هنّ، أم أعلام؟
وقال أبو الطيّب المتنبى:
أين الذى الهرمان من بنيانه؟
…
ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أصحابها
…
حينا، ويدركها الفناء فتتبع.
وقال أميّة بن عبد العزيز الأندلسىّ:
بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا
…
على طول ما عاينت من هرمى مصر؟
أنافا بأعنان السّماء وأشرفا
…
على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر
. وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا
…
كأنّهما ثديان قاما على صدر.
وقال آخر:
انظر إلى الهرمين إذ برزا
…
للعين في علو وفى صعد!
وكأنما الأرض العريضة إذ
…
ظمئت لفرط الحرّ والومد.
حسرت عن الثّديين بارزة
…
تدعو الإله لفرقة الولد.
فأجابها: لبّيك! يوسعها
…
ريّا ويشفيها من الكمد.
وقال ابن الساعاتىّ:
ومن العجائب، والعجائب جمّة
…
دقّت عن الإكثار والإسهاب.
هرمان قد هرم الزمان وأدبرت
…
أيّامه، وتزيد حسن شباب.
لله! أىّ بنيّة أزليّة
…
تبغى السّماء بأطول الأسباب؟
ولربّما وقفت وقوف تبلّد
…
أسفا على الأيّام والأحقاب.
كتمت عن الأسماع فصل خطابها
…
وغدت تشير به إلى الألباب.