الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2- ومما قيل فى السراج
.
من رسالة لأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال، جاء منها:
عذرا إليك أيّدك الله! فإنى خططت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج؛ فطورا تبرزه سنانا، وتحرّكه لسانا؛ وآونة تطويه جنّابه، وأخرى تنشره ذؤابه؛ وتارة تقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب؛ وحينا تقوّسه حاجب فتات، ذات غمزات؛ وتسلطه على سليطه، وتديله على خليطه؛ وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد؛ ومشقته حروف برق، بكفّ ودق؛ ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله؛ فلا حظّ منه للعين، ولا هداية فى الطّرس ميدين.
3- رسالة القنديل والشمعدان
.
من إنشاء المولى الفاضل البارع البليغ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى، سمعتها من لفظه، وقرأتها عليه، وأجاز لى روايتها عنه. وهى الموسومة «بزهر الجنان، فى المفاخرة بين القنديل والشمعدان» .
ابتدأها بأن قال:
الحمد لله الذى أنار حالك الظّلماء، بأنوار بدر السماء؛ وحلّى جيدها، بعقود النجوم، وحرس مشيدها، بسهام الرجوم؛ وجعلها عبرة للاستبصار، ونزهة للأبصار؛ غشاؤها لا زورد مكلل بنضار، أو أقاحىّ خميلة تفتحت فيها أزرار الأزهار؛ تهدى السارى بسواريها، وتزرى بالدرر أنوار دراريها؛ كرع فى نهر مجرّتها النّسران، ورتع فى مراعى رياضها الفرقدان.
أحمده على نعمه التى لا يقوم بشكرها لسان، ولا يؤدّى واجب حقها إنسان؛ حمدا يجلب إلى الحامد أنواع الإحسان، ويسوق إلى الشاكر ركائب الخيرات الحسان.
وأصلى وأسلم على سيدنا محمد الذى أنار الله بوجوده ظلمة الوجود، وأظهر بظهوره أفعال الركوع والسجود؛ صلّى الله وسلم عليه وعلى آله الوافين بالعهود، وعلى أصحابه أهل الإفضال والجود، صلاة وسلاما دائمين إلى اليوم الموعود! وبعد فإن فنون الاداب كثيرة الشعوب، متباينة الأسلوب؛ طالما تلاعب الأديب بفنونها بين جدّ ومجون، وكيف لا والحديث ذو شجون. وكنت بحمد الله ممن هو قادر على إبراز ملح الأدب، وعلى إظهار لطائف لغة العرب؛ فتمثّل فى خاطرى المفاخرة بين الشمعدان والقنديل، ولا بدّ من إبراز المفاخرة بينهما فى أحسن تمثيل؛ لأنهما آلتا نور، ونديما سرور؛ طالما مزّقا جلباب الدّجى بأضوائهما، وحسما مادّة الظلمة بأنوارهما؛ وطلعا فى سماء المجالس بدورا، وأخجلا نور الرياض لما أصدرا من جوهرهما نورا. سماكل واحد منهما إلى أنه الأصل، وأن بمدحه يحسن الفصل والوصل؛ وأنه الجوهرة اليتيمه، والبدرة التى ليست لها قيمه؛ سارت بمحاسنه ركائب الركبان، ونظمت فى جيد مجده قلائد العقيان.
فأحببت أن أنظمهما فى ميدان المناظرة ليبرز كل واحد منهما خصائصه الواضحه، ويظهر نقائص صاحبه الفاضحه؛ وليتسنم غارب الاستحقاق بالفضيله، ويؤكد فى تقرير فضائله الراجحة دليله؛ مع أنه لا تقبل الدّعاوى إلا بالبرهان، ولعمرى لقد قيل قدما:
من تحلّى بغير ما هو فيه
…
فضحته شواهد الإمتحان.
فأتلع الشمعدان جيده للمطاوله، وعرض سمهريّه اللجينىّ للمناضله. وقال:
استنّت الفصال حتّى القرعى
لست بنديم الملوك فى المجالس، كلّا ولا الروضة الغنّاء للمجالس! طالما أحدقت بى عساكر النظار، ووقفت فى استحسان هياكلى رؤية الأبصار؛ وحملت على الرؤوس إذا علّقت بآذانك، وجليت كجلاء المرهفات إذا اسودّ وجهك من دخانك.
فنضنض لسان القنديل نضنضة الصّلّ، وارتفع ارتفاع البازى المطلّ. وقال:
إن كان فخرك بمجالسة السلاطين، فافتخارى بمجالسة أهل الدين!، طالما طلعت فى أفق المحراب نجما ازداد علا، وازدانت الأماكن المقدّسة بشموس أنوارى حلا؛ جمع شكلى مجموع العناصر، فعلى مثلى تعقد الخناصر؛ يحسبنى الرائى جوهرة العقد الثمين، إذا رأى اصفرار لونك كصفرة الحزين؛ ولقد علوتك فى المجالس زمانا، ومن صبر على حرّ المشقة ارتفع مكانا.
فنظر إليه الشمعدان مغضبا، وهمّ بأن يكون عن جوابه منكّبا. وقال:
أين ثمنك من ثمنى، ومسكنك من مسكنى؟ صفائحى صفحات الإبريز، فلذا سموت عليك بالتّبريز؛ تنزّه العيون فى حمائلى الذهبيه، وتسر النفوس ببزوغ أنوارى الشمسيه؛ ولا يملكنى إلا من أوطنته السعادة مهادها، وقرّبت له الرياسة جيادها؛ ولقد نفعت فى الصحة والسّقم، وازدادت قيمتى إذا نقصت فى القيم؛ إن انفصمت عراك فلا تشعب، ولا تعاد إلى سبك نار فتصبّ وتقلب؛ لست من فرسان مناظرتى، ولا من قرناء مفاخرتى.
فالتفت القنديل التفات الضّرغام، وفوّق إلى قرينه سهام الملام. وقال:
أنت عندى كثعاله، لا محاله؛ طالك العنقود، فأبرزت أنواع الحقود؛ وأين الثريّا من يد المتناول؟ أم أين السها من كف المتطاول؟ تالله إنك فى صرفك بصفرك مغلوط! لقد خصصت بالعلوّ وخصصت بالهبوط. ترى باطنى من ظاهرى مشرقا، وتخالنى لخزائن الأنوار مطلقا؛ فحديث سيادتى مسلسل، وتاج فضائلى بجواهر العلوّ مكلّل.
فلحظه الشّمعدان بطرف طرفه، وأرسل فى ميدان المناظرة عنان طرفه. وقال:
إنّ افتخارك بالعلوّ غير مفيد، ومزية اختصاصك به ليس له أبّهة مزيد؛ طالما علا القتام وانحطت الفرسان، ومكث الجمر وسما الدّخان؛ ولقد صيّرتك كنظر المشنوق حاله، وكضوء السّها ذباله؛ وأنت الخليق بما قيل:
وقلب بلا لبّ، وأذن بلا سمع
وسلاسلك تشعر بعقلك، وعتوك ينبئ عن غلوّ إسقاط كمثلك؛ عادلت التبر كفّة بكفّه، ووزنته إذ كان فيه خفه؛ فأصخ لمفاخرى الجليله، واستمع مناقبى الجميله. أطارد جيوش الظّلماء برمحى، وأمزق أثوب الديجور بصبحى؛ جمع عاملى بين طلع النخل.
وحلاوة النحل؛ يتلو سورة النور لسانى، ويقوى فى مصادمة عساكر الليل البهيم جنانى؛ أسامر المليك خلوه، ويستجلى من محاسنى أحسن جلوه.
ولله درّ القائل:
انظر إلى شمعدان شكله عجب
…
كروضة روّضت أزهارها السّحب.
يطارد الليل رمح فيه من ورق
…
سنانه لهب من دونه الذّهب.
فمثل هذه المناقب تتلى، ومثل هذه المحاسن تظهر وتجلى.
فأضرم نار تبيينه، فى أحشاء قرينه. فعندها قال القنديل:
لقد أطلت الأفتخار بمحاسن غيرك، لّما وقفت فى المناظرة ركائب سيرك؛ فاشكر اليد البيضاء من شمعك، واحرص على معرفة قيمتك ووضعك؛ وأما افتخارك بتلاوة سورة النور، فأنا أحق بها منك إذ محلى الجوامع، والفرقان فارق بينى وبينك مع أنه ليس بيننا جامع؛ ففضيلتى فيه بيّنه، وآية نورى فى سورة النور مبيّنه؛ فاقطع موادّ اللجاجة، واقرأ الآية المشتملة على الزجاجة؛ يظهر لك من هو الأعلى، ومن بالافتخار الأولى؛ تخالنى درّة علّقت فى الهواء، أو كوكبا من بعض كواكب الجوزاء.
ولله درّ القائل:
قنديلنا فاق بأنواره
…
نور رياض لم تزل مزهره.
ذبالة فيه إذا أوقدت
…
حكت بحسن الوضع نيلوفره.
لا يحمل الأقذاء خاطرى، ولا يغتمّ مشاهدى وناظرى؛ فأنا خلاصة السبك، والتبر الذى لا يفتقر إلى الحكّ؛ اشتقاق اسمك من النحوس، ومن جرمك تقام هياكل الفلوس؛ لقد عرّضت نفسك للمنيه، وانعكست عليك موادّ الأمنيه؛ مع أن الحق أوضح من لبّة الصباح، وأسطع من ضوء المصباح؛ والآن غضصت بريقك، وخفيت لوامع بروقك؛ فهذه الشهباء والحلبه، وهذه ميادين المناضلة رحبه.
فحار الشمعدان فى الجواب، وجعل ما أبداه أوّلا فصل الخطاب فقال القنديل:
لا بدّ من الإقرار بأن قدحى المعلّى، وأنى عليك بالتقديم الأولى؛ وأن مقامى العالى، ونورى المتوالى.
فقال الشمعدان:
لا منازعة فيما جاء به الكتاب من تفضيلك، وكونك الكوكب الدّرّىّ الذى قصر عن بلوغك باع مثيلك.
فجنح الشمعدان للسلّم، وترفع عن استيطان مواطن الإثم؛ وشرع يبدى شعائر الخضوع، وينشر أعلام الأوبة عما قال والرجوع؛ وقال:
لولا حميّة النفوس، ما تجمّلت بمفاخرنا صفحات الطروس؛ ولولا القال والقيل، ما ضمّنا معرض التمثيل؛ ولكن أين صفاؤك من كدرى، وأين نظرك من نظرى؛ خصك الله بنوره، وذكرك فى فرقانه وزبوره.
فعندها تهلك أسارير القنديل، وتبسم فرحا بالتعظيم والتبجيل. وقال:
حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى، ووصفك لا يجارى؛ يحسبك الرائى خميلة نور تفتّحت أزهارها، وحديقة نرجس اطّردت أنهارها؛ تسرّ بك النفوس، وتدار على نضارتك الكؤوس؛ وإن اللائق بحالنا طىّ بساط المنافسه، وإخماد شرر المقابسه؛ والاستغفار فيما فرط من كلامنا، والرجوع إلى الله فى إصلاح أقوالنا وأفعالنا.
ونقول:
الأصل فيما نقلناه عدمه، فقد حفى كل واحد منا فى إبراز معايبه قلمه. ونسأل الله أن تدوم لنا نعمه، ويتعاهدنا فى المساء والصباح كرمه! بمنه وجوده وكرمه! آمين!