الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان سبب ذلك أنه وجد له جواب عما ردّه عليه قاضى القضاة تقى الدين المالكى، فأعلم السلطان بذلك، فاستشار قاضى القضاة، فأشار بذلك، فرسم به، فحينئذ عدل الشيخ عن ذلك إلى تلاوة القرآن.
وفيها فى يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة رسم القاضى الصدر علاء الدين على بن الصدر المرحوم شرف الدين محمد بن محمد التميمى القلانسىّ [1]- أحد كتاب الإنشاء بدمشق المحروسة- أن يجلس بين يدي نائب السلطنة يوقع على القصص المرفوعة، عوضا عن أخيه جمال الدين القاضى، بما كان له من المعلوم على وظيفة الكتابة، وأن يستقر ما كان باسم القاضى جمال الدين من المعلوم عن الوظيفة المذكورة له على قضاء العسكر الشامى، وخلع عليهما بسبب ذلك، والله أعلم.
ذكر حادثة السيل بعجلون [2]
وفى هذه السنة في يوم الأربعاء ثامن عشرين ذي القعدة كانت حادثة السيل بمدينة عجلون، وورد محضر بذلك إلى دمشق نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذى يرسل آياته تخويفا للعباد، ويريهم باهرات قدرته ليسلكوا سبل الرشاد، ويظهر لهم جبروته فى ملكوته، ليحسنوا لأنفسهم الارتياد، ويعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله لا يخلف الميعاد، ثم يدركهم برأفته ورحمته، ويكشف ما نزل بهم من المعضلات الشداد، ولما كان فى يوم الأربعاء ثانى عشرين ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أرسل الله تعالى بقدرته ومشيئته بمدينة عجلون ريحا عاصفا، فأثارت سحابا ثقالا هطلت بماء منهمر يدوّى وريح زعزع، فلم تزل
[1] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 3/118) وهو على بن محمد بن محمد بن نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة التميمى، علاء الدين القلانسى، مولده سنة 673 هـ ووفاته سنة 736 هـ.
[2]
عجلون: قلعة كانت من جهة الأردن، مبنية على جبل عوف الذى يسكنه قوم من بنى عوف من جرم قضاعة فعرف بهم. وفى (مسالك الأبصار) : كان فى مكانها دير راهب اسمه عجلون، فعرفت به، وهى حصن منيع على صغره، ومدينة هذه القلعة هى الباعونة على شوط فرس من عجلون (المنهل الصافى 1/139 حاشية 2) .
الأمطار متواترة الهطل والبروق تلمع، وأصداء الجبال والأودية بأصوات الرّعود للقلوب تصدع، حتى ظن أهلها أنها قد أزفت الآزفة، فارتفعت الأصوات بأن ليس لها من دون الله كاشفة، ولفت الرءوس، ووجلت القلوب، وذرفت العيون، وطاشت الألباب، وخضعت الرقاب، ومدت الأيدى بالدعاء لمن بيده أمر الأرض والسماء، وعاينوا فى ذلك اليوم هولا عظيما، وأشفقوا أن يكون أرسل الله عليهم عذابا أليما، فبينما الناس على ذلك الحال ذاهلين، يقولون رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ
[1]
إذ دهمهم سيل عظيم ماؤه، طام عبابه هام سحابه، له دوى شديد، قد اجتمع من عيون الجبال وبطون الأودية وقرار الوهاد، فالتقى الماء على أودية بأمر قد قدر، إن فى ذلك لآية فهل من مدّكر [2] ، فارتفع العويل، وسكبت العبرات، واشتد الخوف، وتضاعفت الحسرات، وفر كل واحد من الناس يطلب النجاة لنفسه، واحتسب عند الله جميع ماله وعقاره وغرسه، فأخذ هذا السيل العظيم ما كان فى ممرّه من الدور والقياسير والأسواق، ودخل الطواحين والبساتين، وأخذ جانبا من حارة المشارقة المجاورة للوادى، وأخذ العرصة وسوق الأدميّين، وسوق القطانين، وبعض دار الطعن وسوق الأقباعين، وسوق الخليع، وقيسارية التجار المعروفة بإنشاء الأمير سيف الدين بكتمر، والقيسارية القديمة، وأخذ من قيسارية ملك الأمراء الموقوفة على البيمارستان بصفد عشرين حانوتا، وضعضع بقية الجدر، وهدم الأبواب وهدم سوق الصاغة، وهدم سوق النامية، الذى بقرب العين، وهدم وقف الجامع، وسوق السقطيين، وأما السوق المعروف بإنشاء الأمير علاء الدين بن معبد وسوق اللحامين وحوانيت الخبّازين فإنه أخذه، وأخذ السوق المعروف بإنشاء الأمير سيف الدين النائب كان بقلعة عجلون، والحوانيت المعروفة بوقف القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية الموقوفة على مدرسته بنابلس وأخذ المدرسة النفيسيّة [3]
[1] سورة الأعراف 23.
[2]
اقتباس لأسلوب القرآن، فى الآية الكريمة وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟.
[3]
فى «ك» النفيسة» وصوابه «النفيسية» وهى «بالرصيف، قبلى المارستان الدقاقى، وباب الزيارة (وهو باب الجامع الأموى القبلى) قال الذهبى فى العبر: أنشئت سنة 696 هـ، وهى منسوبة إلى النفيس إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد بن صدقة الحرانى ثم الدمشقى ناظر الأيتام، وواقف النفيسية بالرصيف (الدارس فى تاريخ المدارس 1/114) .
وهدم رواق الجامع القبلى وباب الجامع الشرقى، وهدم جانبا من الحمام الصالحى/ المعروف بأمير موسى، وبعض الحمام السلطانى، وأخذ ظهارة [1] الجامع والمربعة والمسلخ المعروف بابن معبد، وأخذ ما كان فى مجراه من الجسور والقناطر والأقباء [2] التى كان يجوز الناس عليها عندما تمدّ الأودية وعدم من عجلون تقدير عشرة أبقار، وهذه قدرة الملك الجبار، فاعتبروا يا أولى الأبصار، وكان مدة تواتر الأمطار والسيل من أول ساعة من النهار المذكور إلى وقت العصر، وفى ذيل المشروح خط جماعة من الشهود.
هذا ما أورده الشيخ شمس الدين الجزرى فى تاريخه.
ونقل الشيخ علم الدين بن البرزالى فى تاريخه نسخة الكتاب الوارد من عجلون فقال:
الحمد لله المحمود فى السراء والضراء، المشكور على الشدة والرخاء الذى يخوّف عباده بما شاء من معضلات اللأواء، ويريهم باهرات قدرته فى ملكوت الأرض والسماء، ثم يعود عليهم برحمته، ويجللهم بسوابغ النعماء، أحمده حمدا يزيد على الإحصاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والكبرياء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، ومبلغ الأنباء صلى الله عليه وعلى آله الأمناء، وأصحابه الأتقياء، صلاة دائمة بلا نفاد ولا انقضاء، وبعد: فإنه لما كان بتاريخ نهار بكرة الأربعاء ثانى عشرين ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أرسل الله تعالى بقدرته ريحا عاصفة، فأثارت سحبا واكفة [3] فى خلالها بروق خاطفة، ليس لما جاءت به من دون الله كاشفة فطبقت الوهاد، وجللت الآكام، وأطبقت على مدينة عجلون وما قاربها من أرض الشام، ثم أرخت عزاليها [4] كأفواه القرب، حتى خيّل لمن رآها أن الوعد الحق قد اقترب، فلم يكن إلا كحلب شاة من الضأن، أو ما قارب ذلك من الزمان،
[1] الظهارة- من الثوب وغيره: ما يظهر للعين، وهو خلاف البطانة.
[2]
جمع قبو: الطاق المعقود بعضه إلى بعض فى البناء على شكل قوس (المعجم الوسيط) .
[3]
يقال: وكف الماء وغيره وكفا ووكيفا: سال وقطر، والواكف: المطر المنهل.
[4]
يقال: أرسلت السماء عزاليها: انهمرت بالمطر (المعجم الوسيط) .
حتى صارت مدينة عجلون كما قال الله تعالى فى كتابه المكنون: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
[1]
فوجلت القلوب لهول ذلك وتصدعت، وكادت الحوامل أن تضع حملها وتذهل كل مرضعة عما أرضعت [2] ، واندهش أهل البلد عند معاينة هذا الهول الكبير، واختلفت همومهم، فكل إلى ما اشتمل عليه قلبه يشير، فمن باك على ما فى يده من متاع الدنيا الحقير، ومن مشفق خائف على ولده الصغير، ومن غريق عدم نفسه النفيسة، ما له من ملجأ يومئذ وما له من نكير، ومن ناج يقول: أشهد أن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شىء قدير، ومن ضارع إلى من ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، ومن قائل: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
[3]
ولسان الحال يتلو قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
[4]
ولم تزل الأمطار متواترة، والسيول من كل فج متواترة، حتى تحير من حضر ذلك من الإنس والجان، وشغلوا بما عاينوه عن الأموال والأولاد والإخوان، وظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فتلاقى على البلد واديان: أحدهما من شمالها يسمى الجود والآخر من شرقها يسمى جنان [5] ، فأخرب وادى الجود بهذه الآية الخارقة جانبا من حارة المشارقة، ودمّر وادى جنان ما كان على جانبه من البنيان، ثم اختلطا فرأى الناس منهما ما لا يطاق، وأخربا ما مرا عليه من رباع وقياسير وأسواق، فأخربا العرصة والمصبغة والفرانين والعلافين، وحوانيت الدق وسوق الأدميين وسوق البر العتيق والأقباعية والقطانين، وحوانيت الصاغة وما يليها من البساتين، وردم أمام دار الطعم [6]- بعد إخراب بعضها- أحجارا وصخورا، وكل ذلك ليتّعظ أهل المكر وما يزيدهم إلا
[1] سورة القمر (11 و 12) .
[2]
من الآية الكريمة يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
الحج (2) .
[3]
سورة الممتحنة، الآية 4.
[4]
سورة الشورى، الآية 30.
[5]
فى مراصد الاطلاع 1/349: باب الجنان موضع بالرقة- رقة الشام، وباب من أبواب حلب. ورحبة من رحاب البصرة.
[6]
فى نسخة المحضر السابقة «دار الطعن» .
نفورا، وذهب هذا السيل العظيم الطامى بجميع سوق الخليع لبكتمر الحسامى، وأخرب من قيسارية ملك الأمراء للتجار نحو عشرين حانوتا، وذهب بكل ما فيها من ثمين، ثم ردم باقيها على ما فيه بالأخشاب والأحجار والطين، حتى رجعت قيمة ما سلم من المائة إلى العشرين، وأخرب ما جاوز بحر المدينة من سوق أم معبد واللّحّامين، ومن وقف السقطيين والحضريين وحوانيت العجز وسوق الأمير ركن الدين ثم دمر فى وقف الجامع على ما فيه من الأمتعة والبضائع، ثم ردم العين بالأحجار والخشب والصخور، حتى خشى عليها أهل البلد أن تفور، ثم أخرب حوانيت الطبّاخين وجانبا من حمام الأمير موسى، وكان ذلك على من لم يرض بقضاء الله يوما منحوسا ثم أخرب الدباغة وجانبا من حمام السلطان وما يلى ذلك من المطهرة [1] ومسلخ [2] المعز والضان، وأعظم من ذلك إخرابه المدرسة النفيسية والرواق القبلى من المسجد الجامع، وفى ذلك ما يحرق قلب كل منيب وخاشع، وردم داخل الجامع بغثاء السيل والطين والأخشاب، فاعتبروا يا أولى الألباب/ وبلغ الماء فى داخل الجامع إلى القناديل المعلقة، وذلك بتقدير من يعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة، ولم يقرب شيئا من غالب ما ذكر إلا أتى على ما فيه من الأمتعة والبضائع والأموال، حتى أتيح لكثير من أرباب ذلك أن يمد يده للسؤال، وكان مدة استدامته من بكرة النهار إلى وقت العصر، وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
، وكان عرض السيل قدر رمية بحجر، وارتفاعه على بسيط الأرض قدر قامتين أو أكثر، وقدّر ما ذهب فيه من الأمتعة والبضائع والأموال وقيمة الأملاك بهذا القضاء المبرم، فكان ذلك يزيد على خمسمائة ألف درهم، وذلك خارج عن الغلات والمواشى والبساتين والطواحين ظاهر مدينة عجلون. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
[3]
ومن جملة لطف الله تعالى مجيؤه بالنهار، فحذر الناس منه، فلم يعلم فى البلد غريق إلا
[1] المطهرة: كل أناء يتطهر منه.
[2]
فى نسخة المحضر السابقة ورد: «المسلخ المعروف بابن معبد» وهو تحريف، وما هنا هو الصواب.
[3]
سورة البقرة الآية 156.
سبعة أنفار [1] ولو كان- والعياذ بالله- ليلا لزادوا على الإحصاء فى المقدار إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ*
[2]
، وليس الخبر فى جميع ما ذكرنا كالعيان، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان.
وفى هذه السنة فى يوم الخميس سادس عشر صفر توفى الشيخ الصالح المعروف بقوام الدين عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازى شيخ الخانقاة بالجامع الناصرى بساحل مصر المحروس، ومولده- كما أخبرنى- رحمه الله تعالى- فى تاسع عشر صفر سنة ثمان وثلاثين وستمائة بشيراز، وكان عمره تسعين سنة إلا ثلاثة أيام. سمع من الشخ عز الدين الفاروثى، وله إجازة بخطه شاهدتها، وقد جعل فيها لكل من جعل خطه تحت خطه فيها أن يروى عن الشيخ عز الدين المذكور ما يجوز له روايته، وكتبت خطّى تحت تلك الإجازة، فصار لى بهذا الاعتبار أن أروى عن الشيخ عز الدين الفاروثى بالإجازة.
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين جوبان [3] المنصورى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بدمشق وكانت وفاته فى ليلة الثلاثاء العشرين من صفر بداره بظاهر دمشق، ودفن بتربته بالمزّة [4] ، وأنعم بإقطاعه على الأمير شهاب الدين قرطاى الصالحى العلائى، عوضا عما كان بيده من الاقطاع.
وتوفى فى النصف من يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من صفر القاضى موفق الدين عبد الرحيم بن الأسعد بن المعتمد، وهو من مسالمة [5] القبط، وكان فى
[1] المفرد نفر، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة يقال هؤلاء عشرة نفر، أى عشرة رجال (لسان العرب) .
وعلى هذا فكان حقه أن يقول «.. إلا سبعة نفر» إن كان مراده بالسبعة هذا العدد المفرد.
وفى: الوسيط: «والنفر: المفرد من الرجال (محدثة) .
وأخشى أن يكون تحريف «أبقار» ففى المحضر السابق «وعدم من عجلون تقدير عشرة أبقار» .
[2]
سورة آل عمران (13) .
[3]
ترجمته فى الدرر (1/542) والسلوك (2/304) والنجوم (9/274) .
[4]
الضبط من النجوم (9/235) وفى مراصد الاطلاع 3/1266: المزه- بكسر الميم- قرية كبيرة غناء فى أعلى الغوطة فى سفح الجبل من أعلى دمشق.
[5]
فى اللسان (مادة س ل م) يقال: كان فلان كافرا ثم هو اليوم مسلمة- بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه- والجمع مسالم، زيدت التاء فيه مثل زيادتها فى قشاعمة.
ابتداء أمره يتولى عمالة قليوب، ثم تنقل فى المباشرات إلى أن ولى استيفاء ديوان الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة كان، وحصل أموالا جليلة، ثم ولى استيفاء النظر بالباب السلطانى، وانتقل منه إلى نظر الدواوين، إلى أن عزل فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة- كما ذكرنا- ولزم داره، ورتب له من الصدقات السلطانية فى كل شهر ثلاثمائة درهم، إلى أن مات فى التاريخ المذكور، وكانت وفاته بداره بشاطىء النيل بمصر بقرب صناعة الإنشاء، ومولده فى سنة أربع وخمسين وستمائة.
وفيها فى ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى توفى الشيخ الإمام العالم الصالح الورع السيد الشريف تقى الدين أبو الفتوح محمد بن الشيخ [1] ضياء الدين جعفر بن الشيخ محمد بن الشيخ القطب عبد الرحيم بن أحمد بن [أحمد] ابن حجّون الحسنى الشافعى شيخ خانقاة الأمير بهاء الدين أرسلان الدّوادار بمنشاة المهرانى [2] ، وصلّى عليه بكرة النهار، ودفن بالقرافة، وكان رحمه الله تعالى حسن الصحبة والعشرة والمودة، وله نثر جيد، ومولده فى سنة خمس وأربعين وستمائة تقريبا.
وتوفى فى يوم الأربعاء الثانى والعشرين من جمادى الآخرة الشيخ كمال الدين [][3] الغمارى المغربى، وكان رجلا منقطعا، لا يتردد إلى أحد، حسن اللباس والمأكل، يأكل غالبا خبز الشعير، ويطعم أهله ما يختارونه من الأطعمة وكان من فقهاء المالكية، وكنت أعهد له كشفا، اجتمعت به فى سنة سبعمائة وهو يوم ذاك بالمدرسة الشريفية [4] بالقاهرة، وكاشفنى فى قضية
[1] الزيادة عن (الدرر 3/415) وفى الوافى بالوفيات (2/307) لم ترد هذه الزيادة، وقد ذكر أن وفاته فى سنة 728، وهو بذلك يوافق النويرى هنا، ويخالفهما ابن حجر الذى ذكر وفاته 727 هـ.
[2]
كذا فى ك، وفى المقريزى (الخطط 1/345) حدد موضعها بين النيل والخليج الكبير وكان مكانها يعرف باسم الكوم الأحمر حيث كانت تعمل منه أقمنة الطوب، ولما أنشأ الوزير بهاء الدين بن حنا (بكسر الحاء) الجامع بخط الكوم الأحمر أنشأ الأمير سيف الدين بلبان المهرانى دارا وسكنها وبنى إلى جوارها مسجدا عرفت هذه الخطة بمنشاة المهرانى، وفى النجوم (9/184 حاشية 3) أنها كانت واقعة بين سيالة الروضة والخليج المصرى بأوله من جهة فم الخليج.
[3]
هكذا بياض بالأصل وتقدم (فى ص 189) ذكر من اسمه نجم الدين سعيد بن أحمد بن عيسى الغمارى المالكى، وأظنه غير المذكور هنا.
[4]
فى النجوم (9/67 حاشية 3) المدرسة الشريفية هى المعروفة الآن بجامع بيبرس الخياط بشارع الجودرية بالقاهرة.
تتعلق بى، فوقعت كما قال، ثم ذكر لى بعد ذلك قضية أخرى تتفق بى، فاتفق بعضها كما قال، وتأخر بعضها، فاجتمعت به بعد ذلك فى سنة ست وسبعمائة، وسألته عن حاله وما كنت أعهده فيه من الكشف، فأجاب: قد زال ما كنت تعهده منذ استقليت بهذه النّميلة- يشير إلى ابنته فاطمة- وكان قد رزقها، وكانت من الذكاء على أمر عظيم لم يشاهد مثله من سرعة الحفظ، وجودة الاتقان مع صغر السن. أحضرت إلى مجلس شيخنا شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى [1] رحمه الله تعالى/ لتسمع عليه جزءا من مسموعاته، فامتنع أن يكتب اسمها إلا حضورا، وقال: هذه صغيرة السن عن السماع، فلقّنها معلمها سرى الدين أبو القاسم الزيدى الحديث الذى كانت تريد أن تسمعه، فحفظته بسنده، وأحضرها إلى الشيخ فجلست بين يديه، وعمرها يوم ذاك أربع سنين أو نحوها، فقالت مخاطبة الشيخ: حدثك- رضى الله عنك الشيخ فلان- وسردت السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث إلى آخره من حفظها فبهت الشيخ من ذلك، واستعظمه منها، وكساها فوطة حرير، وكتب اسمها سماعا، أخبرنى بذلك معلمها سرى الدين المذكور، وكان صدوقا رحمه الله، ثم اشتغلت بعد ذلك وقرأت الكتاب العزيز بالسبع، وأتقنت قراءته واشتغلت بالفقه والعربية والأصول وغير ذلك من العلوم، وكتبت الخط الجيد المنسوب عدة أقلام، فكانت تكتب الدّروج المشتملة على عدة أقلام كتابة جيدة، وتكتب فى آخرها:«كتبته فاطمة الغمارية» واشتغل والدها بأشغالها اشتغالا كثيرا، فلذلك قال لى ما قال، وأصيب بها، وكان رحمه الله تعالى صعب الخلق شديد الحرج كبير الحدّة ما اجتمع به أحد من الأمراء والأعيان والأكابر وفارقه عن رضى، وكان يسب من يجتمع به ويتركه أقبح سب عن غير تحاش، ولعل ما حصل له من سوء الخلق نتج عن خشونة مأكله، رحمه الله تعالى وسامحه.
وتوفى فى ليلة الأربعاء سابع شهر رجب القاضى كمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى [2] بكر بن محمد بن محمود الحلبى البسطامى الحنفى
[1] ترجمته فى الدرر الكامنة (1/417) ومولده سنة 613 ووفاته سنة 705 هـ وله ترجمة فى الشذرات (6/12) .
[2]
ترجمته فى الدرر (2/326) وقد أورد اسمه: عبد الرحمن بن أبى بكر بن أبى بكر بن محمد بن محمود البسطامى ثم الحلبى.
[ناب فى الحكم ودرّس][1] بالمدرسة الفارقانية بالقاهرة، ودفن من الغد بالقرافة، وكان قد مرض من مدة، وطالت مرضته وعجز عن الحركة وانقطع ولزم بيته، ونزل عن جهاته لولده الفقيه سراج الدين عمر [2] ، سمع كمال الدين بن النجيب عبد اللطيف وحدّث، ومولده فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
وتوفى فى يوم السبت خامس عشر شعبان الأمير سيف الدين بكتمر الأبى [3] بكرى فى معتقله ببرج السباع بقلعة الجبل، وكان السلطان قد رسم بإحضاره من الكرك هو والأمير سيف الدين تمر الساقى [4] ، فأحضرا فى شهر رجب من السنة، وقويت الشناعة أنه يفرج عنهما فاعتقلا ببرج السباع، واعتل المذكور ومات رحمه الله تعالى، وقد تقدم ذكر اعتقاله، وأنه كان فى ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان سنة اثنين وعشرين وسبعمائة، فكانت مدة اعتقاله ست سنين إلا ثمانية عشر يوما.
وتوفى فى ليلة السابع عشر من شعبان صاحبنا ووالد صاحبنا الشيخ الصالح العدل شرف الدين أبو حفص عمر بن الشيخ معين الدين عبد الرحيم بن أبى القاسم بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن منصور بن حيدر الجزرى الشافعى المعروف بالخياط، ويعرف أيضا بإمام قفجاق، وهو صاحب الشيخ أبى إسحاق اللّوزى، وكانت وفاته بالقدس الشريف، وصلى عليه من الغد بالمسجد الأقصى، ودفن بمقبرة ماملا [5] ، ومولده فى المحرم سنة سبع وأربعين وستمائة بالموصل، سمع من النجيب عبد اللطيف وغيره، وأسمع، وكان يؤم نواب السلطنة بدمشق الأمير حسام الدين لاجين المنصورى فى نيابته بدمشق قبل سلطنته، ثم كان إماما عند الأمير سيف الدين قبجاق بدمشق وحماة، وهو من بيت مشهور معروف بالجزيرة العمرية بالتجارة والحشمة والاتصال بالملوك، وكان هو من أعيان الصوفية حيث حل بدمشق والقاهرة والقدس. صحبته رحمه الله تعالى، وصحبت ولده الشيخ أمين الدين
[1] الزيادة من الدرر (2/326) .
[2]
كذا فى الأصل، وفى ابن حجر (الدرر 2/327) و (3/169) عمر بن عبد الرحمن بن أبى بكر البسطامى زين الدين.
[3]
فى الدرر (1/482) الأبو بكرى، وفى النجوم (9/274) والسلوك (2/304) البو بكرى.
[4]
ترجمته فى الدرر (2/519) وفيها: أنه كان من مماليك المنصور قلاوون، وأنه اعتقل بالكرك سنة 715 ثم حول إلى مصر، وأفرج عنه سنة 735 هـ ومات سنة 743 هـ.
[5]
كذا فى ك، ولعلها الملا، وهى من ضواحى الرملة. وانظر: مراصد الاطلاع 3/1304.
محمد من سنة تسع وسبعمائة، وتأكدت الصحبة بيننا، فكانا من خيار من صحبت، وكان لى بهما اجتماع قبل ذلك، وكان رحمه الله كريما حسن الصحبة والمودة، وجلس مع العدول بدمشق والقاهرة وشهد على القضاة، وما زال يعظمه الأكابر والأمراء والوزراء ويجلّونه رحمه الله تعالى.
وتوفى فى آخر ليلة السبت المسفرة عن رابع عشر شهر رمضان الأمير جمال الدين خضر بن نوكية [1] أحد أمراء الطبلخاناة بداره، بخط الهلالية بظاهر القاهرة، ودفن فى ليلة السبت، وكان قد مرض نحو ثلاثة أشهر وعوفى، وطلع إلى الخدمة السلطانية قبل وفاته بيومين، فى يوم الخميس ثانى عشر الشهر فبلغنى أن السلطان سأله عن حاله، فلما خرج من الخدمة، قال السلطان لبعض خواصه من الأمراء لمن يعطى خبز هذا؟ فقيل له: وكيف يقطع السلطان خبزه؟
فقال السلطان: «هذا ما يعيش أكثر من يومين» فكان كذلك، ولعمرى لو قال هذا القول من يتصدى للناس ممن ينسب إلى الصلاح والكشف لعدت من كراماته، ولهرع الناس إليه، وبلغنى أنه صلى الجمعة ببركة الحبش [2] ، وأفطر فى ليلة السبت، وتسحر، ومات قبيل أذان الصبح.
وفيها فى ليلة السبت المسفرة عن سابع عشرين شوال كانت وفاة الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى [3] بمدينة مراغة [4] من عمل أذربيجان [5] ، ودفن فى مستهل ذى القعدة، وكان سبب تأخير دفنه أنه كتب إلى الملك أبى سعيد بخبر وفاته، واستؤذن فى دفنه، فتأخر إلى أن ورد جوابه، ورد الخبر إلى الأبواب/ السلطانية بوفاته فى يوم الثلاثاء حادى عشرين ذى القعدة، وقد
[1] فى السلوك (2/305) والنجوم (9/275) الأمير جمال الدين خضر بن نوكاى التتارى أخو خوند أردوكين الأشرفية، وفى L Zetersteen LL وفى تاريخ سلاطين المماليك 174 «ابن نكية» وترجمته فى الدرر (2/84) .
[2]
بركة الحبش (انظرها فى: النجوم 6/381) .
[3]
ترجمته فى السلوك (2/305) والنجوم (9/273) وفى الدرر الكامنة (3/247) ترجمة مطولة له باسم قراسنقر الجوكندار الجركسى المنصورى.
[4]
مراغة: مدينة مشهورة بإقليم أذربيجان كانت عاصمة الإقليم، وكان اسمها القديم «أفراهروذ» المراصد 3/1250.
[5]
أذربيجان: إقليم واسع يقع بين بلاد الجبال جنوبا، وبلاد الكرد غربا والديلم وبحر قزوين شرقا، وأرمينية وموقان شمالا، ومن أشهر مدنه أردبيل ومراغة وتبريز، وكانت بها الدولة السلارية. (النجوم 9/273 حاشية 7) .
ذكرنا ما كان من تسحّبه إلى بلاد التتار فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، ولما اتصل خبر وفاته بالسلطان رسم بالإفراج عن جماعة من مماليكه كانوا قد اعتقلوا بعد تسحّبه، ووعدهم الإحسان، ثم رسم بإخراج ولديه الأميرين: علاء الدين على، وعز الدين فرج إلى دمشق، وأقطع الأول إمرة طبلخاناة، وفرج إمرة عشرة بدمشق، وتوجّها فى سنة تسع وعشرين، ووصلا إلى دمشق فى ثالث شهر ربيع الآخر، واستقرا بها.
وفيها فى الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن العشرين من ذى القعدة كانت وفاة الشيخ العالم الورع تقى الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبى المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبى البركات عبد السلام ابن عبد الله بن أبى القاسم بن محمد بن تيمية الحرّانى ثم الدمشقى [1] فى معتقله بدمشق، ومرض سبعة عشر يوما، ولما منع من الكتابة والتصنيف عكف على تلاوة كتاب الله تعالى، فيقال إنه قرأ ثمانين ختمة، وقرأ من الحادية والثمانين إلى سورة الرحمن، وأكملها أصحابه الذين دخلوا عليه حال غسله وتكفينه، وتولى غسله مع المغسّل الشيخ تاج الدين الفارقىّ، والشيخ شمس الدين بن إدريس، وصلّى عليه فى عدة مواضع فصلى عليه أولا بقلعة دمشق وأمّ الناس فى الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام الصالحى الحنبلى، ثم حمل إلى الجامع الأموى، ووضعت جنازته فى أول الساعة الخامسة، وامتلأ الجامع بالناس، وغلّقت أسواق المدينة، وصلّى عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل وأخرج من باب الفرج، وازدحم الناس حتى تفرقوا فى أبواب المدينة وصلّى عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل فخرجوا من باب النصر وباب الفراديس وباب الجابيه، وامتلأ سوق الخيل بالناس، وصلى عليه مرة ثالثة وأمّ الناس فى الصلاة عليه أخوه الشيخ زين الدين عبد الرحمن [2] ، وحمل إلى مقبرة الصوفية،
[1] ترجمته فى شذرات الذهب (6/80- 86) والنجوم (9/271) والسلوك (2/304) وله فى الدرر الكامنة (1/144- 160) ترجمة مفصلة وردت فيها طائفة من أخباره وآرائه التى أدت إلى اعتقاله.
وفى النجوم (9/92) أن السلطان الملك الناصر أفرج عن الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية بشفاعة الأمير جنكلى بن البابا. وهذا الخبر يخالف ما أورده النويرى هنا، والمقريزى فى السلوك (2/304) وابن حجر فى الدرر (1/160) والمصادر الأخرى التى تجمع على أنه مات فى معتقله. وصاحب النجوم نفسه يذكر ذلك فى ص 291 من الجزء التاسع. أو لعل هذه اعتقالة أخرى غير التى مات فيها.
[2]
ترجمته فى الدرر (2/329) وفيها أن مولده سنة 663 هـ ووفاته فى ثالث ذى الحجة سنة 747 هـ وله ترجمة فى شذرات الذهب (6/152) .