الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفى فى يوم الجمعة خامس شهر رمضان الأمير شرف الدين عيسى بن عمر البرطاسى [1] الكردى، أحد أمراء الطبلخاناة بمدينة طرابلس، وشادّ الدواوين بها، وكان رحمه الله تعالى رجلا شهما شجاعا مقداما، وأنشأ مدرسة بمدينة طرابلس، رافقته فى سنة عشر وسبعمائة بطرابلس، فكان حسن المرافقة، كثير الاحتمال، رحمه الله تعالى.
وفيها فى الرابع والعشرين من شهر رمضان قتل الأمير السيد الشريف ناصر الدين أبو عامر منصور بن الأمير عز الدين جمّاز بن شيحة الحسينى أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، قتله شاب من أقاربه بالبرية [2] ، وكان قد كبر وأسن، وولى إمرة المدينة بعده الأمير بدر الدين كبيش [3] .
وفيها فى يوم السبت ثالث ذى القعدة توفى نجم الدين أبو بكر بن القاضى بهاء الدين محمد ابن الشيخ بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبى بكر، كان بالمدرسة الناصرية بالقاهرة وكان يقول: إن ما يخاطب به يستغنى الآن عن إعادته، ولم يزل يدعى ذلك إلى آخر وقت، رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
/
ذكر غرق مدينة بغداد
وفى جمادى الأولى من هذه السنة زادت دجلة زيادة عظيمة، وكان ابتداء الزيادة فى يوم السبت ثالث عشر الشهر، واستمرت الزيادة إلى يوم الثلاثاء، وعظمت فغرق دائر البلد جميعه، بحيث أنه ما بقى أحد من الناس يستطيع الخروج من البلد، وانحصر الناس واجتهدوا فى عمل السّكورة [4] ، وتساوى فى العمل الرئيس والمرءوس، والكبير والصغير، [ونقل التراب- حتى الحكام
[1] فى الدرر (3/208) : عيسى بن عمر بن عيسى الكردى: شرف الدين البرطاسى ولد سنة 665 وولى شد الدواوين بطرابلس.
[2]
فى السلوك (2/269) أن الذى قتله هو حديثه- بضم أوله وفتح ثانيه- وهو ابن أخيه.
[3]
هكذا فى ك، وقد ضبطه محقق السلوك (2/269) كبيشه- بضم أوله وفتح ثانيه- نقلا عن القلقشندى (صبح الأعشى 4/301) وفى ابن حجر كبيس بسين فى آخره (الدرر 3/262 فى النجوم (9/264) كبيش بن منصور بن جماز الحسينى المدنى.
[4]
يقال سكر النهر ونحوه: سده وحبسه، والسكر- بكسر السين- ما يسد به النهر، والجمع سكور.
والقضاة والمترفين- فى حجورهم] وبقيت بغداد جزيرة فى وسط الماء، واستدار الماء عليها، ودخل الماء الخندق وكان له هدير عظيم، وغرق ما حول البلد، وخربت أماكن كثيرة منها البازار [1] ، وسائر الترب والبساتين والسواد [2] والجانبين المتقابلين لسوق الخيل والدكاكين والساباط [3] ، وخرب بستان الصاحب جميعه، والمصلى، وبعض الكمش، وسائر البساتين التى حوله، ووصل الماء إلى الثلاث نخلات، ووقعت قبة الجعفرية [4] ، وخربت مدرسة عبيد الله، وغرقت خزانة الكتب التى بها، وكانت فيما قيل تساوى عشرة آلاف دينار، وسطّح الماء وعلا بمقدار عشر قامات، وكان الإنسان إذا وقف لم ير ما امتد بصره إلا ماء وسماء، وفتح فى الرّقّة [5] وخرّب إلى الحارثية، وما ترك طرفه قائمة، وغرق خلق كثير من المزارعين الذين كانوا عند زروعهم ممن لم يحسن السباحة، وغرقت بساتين الرّقّة مثل بستان القاضى، وبستان ابن العفيف، والخاتونى، وبستان جمال الدين الدكروالى، وغرقت بساتين الحارثية، مثل:
بستان الخادم، وابن الأمليس، وسديد الدولة، وبقى الناس فى خلقة ضيّقة، وامتنعوا من النوم ليلا والمعايش نهارا من شدة الزّعقات [6] ، وخوف الغرق، وغلق البلد ستة أيام، والناس ينظرون إلى الخندق والشط هل زاد أو نقص، وتحول كثير من الناس إلى المحال العالية مثل تل الزينية، وتل اللوازه بالمستضيئيّة، وأسكرت سائر أبواب المحال العالية ببغداد، وأبواب الخانات بها، وسد باب خان السلسلة، وبقى إذا انفتح من الخندق فتح تداركه الناس بالسد، والناس يدورون فى الأسواق مكشوفى الرءوس، والرقعات الشريفة على رءوسهم، وهم يضجّون بالبكاء ويخرّون إلى الله تعالى، ويسألونه كشف هذه الحادثة عنهم، وودّع بعض الناس بعضا، ولو انخرق إليهم من الخندق أدنى شىء لغرقوا، وزاد الماء فى الخندق حتى ركب القنطرة الجديدة بسوق الخيل،
[1] البازار: السوق (فارسية معربة) .
[2]
السواد: جماعة الشجر والنخل والنبات، لأن الخضرة تقارب السواد، ويقال: خرجوا إلى سواد المدينة أى إلى ما حولها من القرى والريف، ومنه سواد العراق (المعجم الوسيط) .
[3]
الساباط: سقيفة بين حائطين أو دارين، يمر من تحتها طريق نافذ (لسان العرب) .
[4]
الضبط من (المراصد 2/626) والرقة المقصودة هنا هى البستان المقابل لدار الخلافة ببغداد.
[5]
الجعفرية: محلة كبيرة مشهورة فى الجانب الشرقى من بغداد (المراصد 2/336) .
[6]
جمع الزعقة، وهى المرة من الصياح، يقال زعق- كفتح- إذا صاح صيحة فزع (المعجم الوسيط) .
وعلا فيها أكثر من ذراعين، وبلغ الماء إلى شباك دار شيخ المشايخ، ولو لم يعلّ السور بالسّكر كان انقلب إلى البلد، ولولا ما حصل من هذه البثوق- بثق الخندق، وبثق الرّقّة، وبثق التعسار- لغرقت بغداد.
قال الناقل: ومع ذلك فإلى عشر سنين ما يمكن عمارة ما خرب بالجانب الغربى؛ فإنه غرق أكثره، وغلت الأسعار أياما، ثم نقص الماء بعد أن أشرف الناس على الهلاك، وكان ابتداء النقص يوم الأربعاء، وذكر القاضى ابن السباك: أن جملة ما خرب من البيوت بالجانب الغربى خمسة آلاف وستمائة بيت. نقلت ذلك- وبعضه بمعناه- من تاريخ الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالى، وقال فى تاريخه: إنه كتبه من كتاب ابن الساعى، وأنه اختصر بعضه.
ومن غريب ما وقع فى ذلك الغرق أن مقبرة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل تهدمت قبورها، ولم يبق إلا قبر الإمام أحمد فإنه سلم من الغرق، واشتهر هذا الأمر بها واستفاض.
قال: وورد كتاب شمس الدين بن منتاب يتضمن أن الماء حمل خشبا عظيم الخلقة، وزنت خشبة منه فكانت بالبغدادى ستمائة رطل، وجاء على الخشب حيّات كبار خلقتهن غريبة منها ما قتل، ومنها ما صعد فى النخل والشجر، وكثير منها مات، ولما نضب الماء أنبت على الأرض نباتا صورته صورة البطيخ، وشكله على قدر الخيار وفى طعمه محوحه [1]، وأشياء غريبة الشكل من النبات. قال: ومحلة الصّراصرة صعد الماء فى دورها إلى الوسط وأكثر وأقل، وذكر أشياء من أمر الغرق اختصرتها، قال: وأما محلة الرقيقة [2] فإنها بقيت أرضا بغير حائط قائم، وغرقت مقبرة معروف، وتربة بنت المنذر وغيرها.
هذا ملخص ما حكاه مما لخصه هو، والله تعالى أعلم بالصواب.
[1] لم يتضح بالأصل، ولعله تحريف «حموضة» .
[2]
هكذا فى ك، وفى المراصد 2/627 الرقيق (شارع دار الرقيق) : محلة ببغداد متصلة بالحريم الظاهرى قال مؤلفه (صفى الدين عبد المؤمن بن عبد الحق المتوفى سنة 739) قد بقيت منها بقية بها سوق الحريم الآن.