الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحتمل النقيض وليس خبر التواتر في هذا المعنى أقوى منهما فهذا مسلم، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون ضروريا؛ وهذا فإن سائر العلوم الضرورية مساوية للعلم الحاصل بخبر الله تعالى وخبر رسوله في هذا المعنى، ومع هذا لا يلزم منه نظرية تلك العلوم، أو ضرورته، هذا وإن عنى به غيره فليبينه حتى ننظر هل هو أقوى منهما في ذلك المعنى أم لا؟ وبتقدير أن لا يكون أقوى هل يلزم منه عدم ضرورته أم لا؟
المسألة الرابعة
استدل على أن خبر أهل التواتر صدق: بأن أهل التواتر إذا أخبروا عن شيء، فإما أن يكونوا قد أخبروا به مع علمهم بكونه صدقا، أو مع علمهم بكونه كذبا، أو لا مع علمهم بالصدق ولا بالكذب بل أخبروا به رجما بالغيب، والقسمان الأخيران باطلان فيتعين
الأول.
وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن يكونوا قد أخبروا به مع علمهم بكونه كذبا، لأنهم حينئذ إما أن يكونوا قصدوا فعل ذلك الكذب لغرض أو لا لغرض، والثاني باطل، أما الأول: فلأن الفعل من غير غرض محال؛ لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وهو محال.
وأما ثانيا: فلأنه وإن جوز ذلك في الجملة، لكن حصوله من جمع كثير محال عادة بالاتفاق، فإنه وإن جوز صدوره من واحد أو اثنين لكن
صدوره من جمع كثير محال عادة كاتفاق الجمع الكثير على أكل طعام واحد في ساعة معينة.
وأما ثالثا: فلأنا وإن جوزنا ذلك لكن عندما لا يكون المانع من الفعل متحققا، وأما ها هنا فالمانع منه موجود وهو كونه كذبا فإن كونه كذبا جهة صرف اتفاقا سواء.
قيل بالتحسين والتقبيح العقلي أولا، والفعل يستحيل وجوده مع المانع إلا لمعرض أقوى منه وهو معدوم هنا؛ إذ التقدير أنه لا غرض فيه والأول أيضا باطل؛ لأن ذلك الغرض إما نفس كونه كذبا وهو باطل؛ لأن نفس كونه كذبا جهة صرف وفاقا كما تقدم، ولا جهة دعاء.
وأما غيره، وهو إما ديني، أو دنيوي وكل واحد منهما إما رغبة أو رهبة وكل واحد منهما إما أن يكون غرض الكل، أو البعض منها غرض البعض والبعض الآخر منها غرض البعض الآخر، وعلى التقديرات فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل أو لا بالتراسل، والأقسام بأسرها باطلة.
أما أنه لا يجوز أن يكون الغرض دينيا رغبة كان أو رهبة، فلأن حرمة الكذب متفق عليه سواء كان بالشرع أو بالعقل، وهو صارف ديني، فيستحيل أن يكون داعيا دينيا رغبة كان أو رهبة وأما أنه لا يجوز أن يكون الغرض الرغبة الدنيوية فلأن ذلك الغرض إما رجاء عوض على الكذب، أو إسماع غريب وإن كان لا أصل له وهما باطلان؛ لأن كثيرا من الناس لا يرتضون الكذب ولا يقدمون عليه لهذين الغرضين.
وأما أنه لا يجوز أن يكون الغرض الرهبة الدنيوية؛ فلأن الرهبة الدنيوية لا تكون إلا من السلطان ومن يجري مجراه، لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب، بل لا يقدر على جمعهم على أمر مباح والاستقراء يفيد العلم بذلك؛ ولهذا كثيرا ما يخوفهم على التحدث بكلام لا ينفعهم ولا يضرهم ثم إنهم يتحدثون به حتى يصير مشهورا فيما بينهم.
ولأنا نعلم أنه لا غرض للسلطان في كثير من الأمور المتواترة حتى يحملهم على التحدث عنه كذبا.
وأما أنه لا يجوز أن يكون غرض بعضهم الديني رغبة كان أو رهبة، وغرض البعض الآخر الدنيوي رغبة كان أو رهبة سواء حصل بالتراسل، أو لا بالتراسل فلما تقدم من فساد القسمين البسيطين، فإن ذلك بعينه يدل على فساد المركب منهما؛ إذ الكلام في جماعة عظيمة أبعاضها جماعات عظيمة يمتنع تساوي أصولها في قوة هذا الدواعي.
وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن يكونوا أخبروا به مع علمهم بصدقه، ولا مع علمهم بكذبه بل رجما بالغيب فلوجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما يتصور فيما لا يكون معلوما بالضرورة، فإن ما يكون معلوما بالضرورة فإن الإخبار عنه لا يتصور إلا عن علم بصدقه أو كذبه، وشرك خبر التواتر أن يكون المخبر عنه محسوسا معلوما بالضرورة فيستحيل الإخبار عنه لا مع العلم بصدقه ولا بكذبه.
وثانيهما / (59/أ): أنا وإن جوزنا صدور الإخبار عن الشيء كذلك من واحد واثنين، لكن نقطع باستحالة من الخلق الكثير عادة فيستحيل وقوعه في خبر التواتر هذا إذا أخبر المخبرون عن مشاهدة، فأما إذا توسط واسطة أو الوسائط بين المشاهدين للمخبر عنه، وبين من لم يشاهدهم فإنه لا يحصل العلم بخبرهم إلا إذا علم أن الوسائط متصفون بالصفات المعتبرة في أهل التواتر، وذلك إنما يعلم طريقين:
أحدهما: أن كل مرتبة من مراتب الوسائط يخبرون أن الذين أخبرونا بهذا الخبر كانوا متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر.
وثانيهما: أن كل ما ظهر بعد خفاء، وقوي بعد ضعف، فإنه لا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه، ووقت حدوثه، كمقالة "الجهمية" و"الكرامية" فإنهما لما حدثتنا بعد أن لم يكونا: لا جزم اشتهر بين الناس حدوثهما، ووقت حدوثهما، ولما لم يظهر ذلك فيما نقل بالتواتر علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمة هذا تمام استدلال من يقول أنه نظري.
واعلم أنا إنما عدلنا عن الوجه الذي أورده الإمام نقلا عن أبي الحسين في صدر التقسيم في هذا الدليل ليلزم صدق الخبر المتواتر على المذهبين أعني مذهب الجماهير، ومذهب الجاحظ، فإنا لو أوردناه كما أورده بأنه: لو كان كذبا لكان المخبرون أما أن يكون ذكروه مع علمهم بكونه كذبا أو لا مع علمهم بذلك إلى آخر ما ذكر لم يصح التقسيم ولم يلزم منه صدقه على رأي
الجاحظ، ولا يخفى على منصف أن تقدير هذه المقدمات على وجه يلزم منه صدق الخبر المتواتر يقينا لو أمكن. فإن تقسيماته كلها غير مترددة بين النفي والإثبات، والدليل الدال على فساد الأقسام الغير مطلوبة غير يقيني لا يتأتى من الصبيان والبله ولا هو حاضر في ذهنهما مع أن العلم بخبر التواتر حاصل لهم، وهو دليل قاطع على أن العلم به غير مستفاد من هذه المقدمات، وكيف لا وكل واحد من الناس يقطع بأن علمه بما سمع من البلدان النائية والأشخاص الغائبة أظهر من علمه بصحة هذه المقدمات، وبناء الواضح الجلي على الخفي غير جائز في العقل.
[تنبيه]
ثم إن قيل: أن العلم الحاصل عقيب الخبر المتواتر نظري فهو بطريق التوليد والتولد عند القائلين بهما كما في سائر العلوم النظرية لا يتجه فيه خلاف على رأيهم كما في سائر العلوم النظرية.
وأما إن قيل بأنه ضروري فهذا ينبغي أن يكون محل الخلاف فيما بينهم.
فمن قائل نظر إلى أنه ضروري فهو كسائر البديهيات المخلوقة من جهة الله تعالى، ولأن كل ما لا ينسب إلى الجهة كالحركات، والاعتمادات، ولا له تأثير في النفس بالفعل والانفعال كالإغضاب، والإرعاب، والتهجين، والتخجيل، فإنه لا يولد في غير محله شيئا للاستقراء، والخبر المتواتر ليس من الأمور التي تنسب إلى الجهة، ولا يلازمه تأثر النفس به بالفعل والانفعال فوجب أن لا يولد علما.
ومن قائل نظر إلى أنه مترتب على فعل اختياري للحيوان فوجب أن يكون بطريق التوليد والتولد كسائر المسببات المترتبة على أسبابها