الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستدلال على العلم به بالطريقة الأخرى فضعيف جدا لا يخفى على كل ذي لب.
وأما الشرائط المختلف فيها فلنذكرها في مسائل:
المسألة السادسة
قد ذكرنا أن من شروطه أن يكون المخبرون عددا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فهذا القدر متفق عليه، لكن اختلفوا بعد ذلك في أنه هل له عدد معين أم لا
؟
فالجماهير على أنه ليس له عدد معين؛ لأنه لا عدد يفرض من ألف أو ألفين [إلا] وغير مستبعد في العقل صدور الكذب منهم، وأنه يتميز بزيادة واحد عن ناقصه في امتناع الكذب عنه، بل المرجع في حصول هذا الشرط وغيره إلى الوجدان، فإن وجد السامع نفسه عالما بما أخبر به على التواتر علم وجود هذا الشرط وغيره، وإلا علم اختلاله، أو اختلال غيره من الشرائط. وعند هذا ظهر أنه يتعذب الاستدلال بالتواتر على من لم يعترف بحصول العلم له؛ ضرورة أنه لا مرجع في حصول شرائطه إلا حصول العلم به فمن لم يحصل له العلم لا يمن الاستدلال به عليه. لكن من هؤلاء الجماهير من قطع في جانب النفي، وإن لم يقطع في جانب الإثبات، وقال، بعدم إفادة عدد معين له وتوقف في بعضه.
قال القاضي أبو بكر رحمه الله:"أقطع بأن قول الأربعة لا يفيد العلم ألبتة وأتوقف في الخمسة".
واحتج عليه: بأنه لو حصل العلم بخبر أربعة صادقين ولم يحصل بخبر كل أربعة صادقين مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لزم الترجيح من غير مرجح وأنه ممتنع، ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن يحصل العلم بأحد الخبرين الصادرين عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب دون الآخر، واللازم باطل فالملزوم مثله، ولو حصل العلم بخبر كل أربعة صادقين لوجب أن يستغني القاضي عن التزكية في شهود الزنا؛ لأنه إن حصل له العلم بخبرهم عن الزنا الذي شاهدون وجب أن يستغني عن التزكية ضرورة حصول العلم الضروري بصدقهم، والتزكية إنما تراد لتقوية الظن بالصدق، وإن لم يحصل له ذلك وجب أيضا أن يستغني عن التزكية؛ لأنه حينئذ يقطع بكذبهم والذي قطع بكذبه لا يطلب تزكيته فكان يجب استغناؤه عن التزكية في الحالتين معا، لكن ليس الأمر كذلك بالإجماع؛ إذ الأمة أجمعت على أنه لا يجوز للقاضي أن يقطع بكذبهم ويردهم إن لم يضطر إلى صدقهم، بل يجب عليه أو يجوز عرضهم على المزكين، ثم إقامة الحد على المشهود عليه.
ولا يخفى أن هذه الدلالة لا تتأتى في الخمسة؛ لأنه إن لم يضطر إلى العلم بصدقهم قطع بعدم صدقهم، ولا يلزم من القطع بعدم صدقهم عدم صدق الأربعة منهم؛ لجواز أن يكون الأربعة منهم شاهدوا الزنا دون الخامس فجاز أن يطلب تزكيتهم لبقاء النصاب.
وعند هذا نقول للقاضي: "إن عنيت بقولك: أتوقف في الخمسة، التوقف في حصول العلم بقولهم وعدم حصوله، ولا يقطع بواحد منها فهذا صحيح لكن لا اختصاص لهذا التوقف في الخمسة، بل يتأتى في الألف والألفين؛ إذ لا نقطع نحن بحصول العلم بقولهم ولا بعد حصوله،
فكان يجب أن يتوقف في الكل بهذا المعنى.
وإن عنى به: التوقف في جواز حصول العلم بقولهم كما في سائر الأعداد وعدم جوازه كما في الأربعة فهذا غير صحيح؛ لأنه إذا لم يتأت فيهم الدليل الدال على عدم جواز حصول العلم بقولهم يجب إلحاقهم بسائر الأعداد [التي] يجوز أن يحصل العلم بقولهم.
واعترض على الدليل بمنع الملازمة:
وأما قوله في الوجه الأول: أنه يلزم الترجيح من غير مرجح، فممنوع امتناعه بالنسبة إلى الفاعل المختار على ما عرف صحة ذلك من مذهبنا، والعلم الحاصل بخبر التواتر إنما هو بخلق الله تعالى لا بطريق التوليد حتى يكون الترجيح من غير مرجح ممتنعا.
وأما قوله في الوجه الثاني: لجاز مثله في أحد الخبرين عن الجمع الكثير الذي لا يمكن تواطؤهم على الكذب دون الآخر فممنوع؛ وهذا لأنه يجوز أن تختلف في ذلك عادة الله تعالى فاطردت عادته بخلق العلم الضروري عقيب إخبار الجمع الكثير، ولم يطرد ذلك عقيب إخبار الجمع القليل؛ بل تختلف فيه عادته فتارة يخلق، وتارة لا يخلق، كما أن عادته مطردة بخلق الحفظ عقيب التكرار على البيت الواحد ألف مرة، ولم تطرد عادته بخلقه عقيب التكرار عليه مرة أو مرتين.
سلمنا تسوي المثلين في العادة، لكن لا يلزم من خلق الله تعالى العلم عقيب إخبار الأربعة خلقه عقيب شهادة الأربعة؛ وهذا لأن الشهادة - وإن
كانت خبراً في المعنى - لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر، وذلك يقدح في مماثلتها مطلقا فلم يجب تساويهما في الحكم، فجاز أن يجري الله تعالى عادته بخلق العلم الضروري عندما يخبر المخبرون بلفظ الخبر والرواية، دون لفظ الشهادة، ولو سلم أن ما بينهما من التفاوت غير قادح في المثلية لكن كون الشهود يجتمعون عند أداء الشهادة في الغالب مظنة للاتفاق على الكذب، فلا جرم لم يحصل العلم لتمكن / (61/أ) هذا الاتهام في النفوس، بخلاف ما إذا أخبر المخبرون بلفظ الخبر، فإنهم يخبرون في الغالب متفرقين فيكون الاتهام زائلا فلا جرم يحصل العلم به.
سلمنا صحة ما ذكرتم لكنه منقوض بعدد "أهل القسامة" فإنه يجوز حصول العلم بقولهم من أن ما ذكروه من الدليل آت إذ أمكن أن يقال: لو أفاد قول خمسين صادقين العلم لأفاد قول كل خمسين صادقين، ولو أفاد قول كل خمسين ذلك لاستغنى القاضي عن تحليف عدد أهل القسامة لأنه حصل العلم بقولهم فلا حاجة إلى تحليفهم؛ إذ التحليف إنما هو لتقوية ظن الصدق وإن لم يحصل له العلم بقولهم قطع بكذبهم فلا حاجة إلى التحليف أيضا.
واعلم أن الاعتراض الأول قوي جدا، وأما الثاني فيمكن أن يجاب عنه: بأن ذلك لو كان قادحا في مماثلتهما وتساويهما في أن يحصل العلم الضروري عقيبهما لوجب أن لا يحصل القطع بالتسوية في ذلك بينما إذا صدر خبر بلفظ الشهادة، وبينما إذا صدر خبر آخر بلفظ الإخبار من الجمع الذي لا يمكن تواطؤهم على الكذب بعينه بتقدير حصول العلم عقيب الخبر الصادر بلفظ الإخبار واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله.
وأما الثالث فجوابه: أنا نفرض الكلام حيث تكون الأربعة الذين شهدوا على الزنا هم الذين أخبروا وحصل العلم بقولهم بعينهم مع التساوي في جميعا لأحوال من التفرق، وغيره إذ ليس من شرط الشهادة أن يكونوا مجتمعين لأدائها وأما الرابع فغير وارد؛ لأن المخبر عنه في قول كل واحد منهم غير المخبر عنه في قول الآخر سواء فرض ذلك من جهة المدعين أو من جهة المدعى عليهم، أما من جهة المدعين، فإن كل واحد منهم إنما يحلف بحسب ظنه وهو مدعاه ويخبر عنه خبره.
وأما من جهة المدعى عليهم فإن كل واحد منهم إنما يحلف على أنه ما قتل ولا عرف قاتله فما أخبر عنه كل واحد منهم غير ما أخبر عنه الآخر.
ومنهم من اعتبر في التواتر عددا معينا، وهؤلاء اختلفوا:
فمنهم من قال ذلك اثنا عشر عدد نقباء موسى عليه السلام. قال الله تعالى: {وبعثنا منهم اثنى عشىر نقيبا} ، وإنما خصهم بذلك؛ لأنه يحصل العلم بقولهم.
ومنهم من قال: العشرون، وهو قول أبي الهذيل - لقوله تعالى: