الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثامنة
قد عرفت مما سبق من أدلة القياس أن القياس مأمور به، فهو إذن إما واجب، أو مندوب
، لإجماع القائلين بالقياس على أنه ليس بمباح متساوي الفعل والترك، والواجب إما واجب على العين، أو على الكفاية.
ولا شك أنه ليس بواجب على العين على كل المكلفين بل على بعضهم وهو من نزل به الواقعة من المجتهدين ولم يجد فيها نصًا ولا إجماعًا، فإنه يتعين عليه الاجتهاد [إذ لا يجوز له ان يقلد الغير، أو نزلت بمكلف ولم يوجد هناك مجتهد إلا واحد فإنه يتعين عليه الاجتهاد].
وأما وجوبه على الكفاية فهو بالنسبة إلى المجتهدين عند نزول الواقعة بشخص دون غيرهم من سائر المكلفين، فإنه لو ترك الكل لأثموا دون غيرهم من المكلفين.
وأما ندبيته فهو أيضًا بالنسبة إليهم لكن قبل نزول الواقعة [ليكون حاضر الجواب عند نزول الواقعة].
وهل يصف بكونه دينًا لله تعالى؟
اختلفوا فيه:
فوصفه به بعضهم كالقاضي عبد الجبار.
وأنكره بعضهم كأبي الهذيل.
وفصل بعضهم كالجبائي بين ما إذا كان واجبًا، وبين ما إذا كان ندبًا فوصفه بذلك فيما إذا كان واجبًا دون ما إذا كان ندبًا.
والحق: أنه إن عنى بكونه دينًا لله أن اعتقاد التعبد به معتبر في تحقق الدين كما في الأركان الخمسة، وكما في النصوص حتى يكفر منكروه، فإن ما يكون شأنه ذلك يوصف بكونه دينًا كما في قوله تعالى:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله} إلى قوله: {وذلك دين القيمة} فالقياس ليس بدين؛ إذ لا يكفر منكروه، وإن عنى به ما يكون مشروعًا في الدين فإن غير المشروع يقال: إنه ليس من الدين كما في قوله عليه السلام: (من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه) فالقياس يوصف بكونه دينًا مطلقًا.
خاتمة
ذهب الأكثرون إلى صحة القياس في العقليات، وأنكره الغلاة من الحشوية والظاهرية، ومنكروا النظر.
ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد، وبناء الغائب على الشاهد وما يجرى مجراهما.
واتفق القائلون به على أنه لا بد فيه من جامع عقلي، وإلا لكان الجمع تحكمًا محضًا فكان باطلًا، وهو كقياس أهل البدع والضلال نحو
المشبهة فإنهم قالوا: فاعل فوجب أن يكون على شكل وصورة كما في الشاهد.
ونحو الدهرية فإنهم قالوا: لا نعقل في الشاهد موجودًا ليس/ (164 / أ) في الجهة ولا في الحيز، ولا في داخل العالم ولا في خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا يناسب موجودًا ألبتة فوجب أن يكون في الغائب كذلك، فهذان القياسان وأمثالهما من أقيستهم خالية عن الجامع ثم حصروا الجامع في العلة، والحقيقة والشرط، والدليل.
أما الجمع بالعلة: فكقول أصحابنا: كون العالم عالمًا في الشاهد معلل بالعلم فوجب أن [يكون] في الغائب كذلك.
واعترض عليه بانه غير مطابق؛ لأن هذا جمع بالمعلول لا بالعلة فإنه جمع فيه بين الشاهد والغائب بكونه عالمًا، وهو معلول العلم لا علته.
والمثال المطابق له أن يقال على رأى أصحابنا: أن كون الشيء يصح أن يكون مرئيًا في الشاهد معلل بالوجود فكذا في الغائب.
وأما الجمع بالحقيقة فكقول أصحابنا: حقيقة العالم في الشاهد من له العلم فوجب أن يكون في الغائب كذلك.
[وأما الجمع بالشرط فهو أيضًا كقولهم: العلم في الشاهد مشروط بالحياة، فوجب أن يكون في الغائب كذلك].
واعترض عليه: بأن هذا جمع بالمشروط لا بالشرط، فإن كونه عالماً وهو الذي وقع به الجمع مشروط لا شرط.
والمثال المطابق لذلك كقول المعتزلة: شرط صحة كون الشيء مرئيًا في الشاهد أن يكون مقابلًا وفي حكم المقابل، فوجب أن يكون في الغائب كذلك.
وأما الجمع بالدليل فهو كقول أصحابنا والمعتزلة ملي الفلاسفة: الإتقان والتخصيص يدلان على العلم والإرادة في الشاهد فكذا في الغائب.
ثم المحققون على أن هذا القياس ظني غير مفيد للقطع في الأكثر.
وقال إمام الحرمين: "إنه باطل، واستدل عليه بأن الإلحاق إن لم يكن بجامع كان تحكمًا محضًا كما ذكر فكان باطلًا، وإن كان لجامع فلا شك أن الجمع بالعلة والحقيقة أقوى من الجمع بالأخرين وهما باطلان؛ لأن الجمع بهما مبني على القول بالحال وهو باطل".
وقال الإمام: "الجمع بالعلة أقوى من الكل وهو غير مفيد للقطع؛ لأن إفادته للقطع متوقف على حصول القطع لنا بأن الحكم في الأصل ثبت لعلة كذا، وأن تلك العلة بتمامها حاصلة في صورة كذا لأنهما مقدمتا القياس،
فإذا لم يكونا قطعيتين استحال حصول القطع بالنتيجة، وعند حصول القطع بهاتين المقدمتين يحصل القطع بالنتيجة؛ لأن المعنى من حصول العلة بتمامها أن لك ما لا بد منه في ثبوت الحكم بتلك العلة حاصل فلو لم يحصل القطع بثبوت الحكم في تلك الصورة لكان ذلك لاحتمال تخلف الحكم عنها في تلك الصورة لكن ذلك باطل؛ لأن ذلك يقتضي ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو ممتنع؛ لأن استلزام تلك العلة للحكم في الأصل دون الفرع مع أنه لم يختلف حالهما في الصورتين لا بحسب انضمام شيء إليه، ولا بحسب زوال شيء عنه ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح لكن حصول القطع بهاتين المقدمتين أمر صعب؛ لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الاصل لكن المثلان لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا غير ذاك، وذاك غير [هذا] فيكون كل واحد منهما غير الأخر فالاثنان واحد هذا خلف، وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلة، وفي الجانب الآخر يكون مانعًا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع بحصول تمام العلة في الفرع على التفسير المذكور، نعم لو قامت الدلالة القاطعة على أن ما به الامتياز لا مدخل له في اقتضاء العلة للحكم حصل القطع بثبوت الحكم لكن لا يكاد يوجد ذلك في العقليات الحقيقية التي لا تختلف باختلاف تفسير اللفظ، نحو قول القائل: العالم في الشاهد من له العلم فكذا في الغائب؛ لأنا لا نعني بالعالم إلا من له العلم، ومعلوم أن هذا لا يختلف موجبه بحسب الواجب والممكن.
ثم القائلون به ذكروا في تعيين العلة طرقًا:
أولها وهو أقواها: الدوران الذهني، وإن لم يكن خارجيًا كقولهم: متى عرفنا كون التكليف تكليفًا بالمحال عرفنا قبحه وإن لم نعرف شيئًا آخر، ومتى لم نعرف ذلك لم نعرف قبحه وإن عرفنا سائر صفاته، فإذن العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه تكليفًا بالمحال في الذهن، فهذا الدوران الذهني يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح ليس إلا تعيين كونه تكليفًا بالمحال لا غير.
وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم أنه لما لزم من العلم به العلم بقبحه ومن عدم العلم به وإن علمنا سائر صفاته عدم العلم بقبحه لزم أن يكون المؤثر في القبح إنما هو كونه تكليفًا بالمحال وما الدليل عليه فإنه ليس العلم به بديهيًا لحصول التفاوت بينه وبين سائر البديهيات بل يكون نظريًا وحينئذ يحتاج إلى الدليل.
سلمنا قيام الدلالة عليه لكن المقدمة الأولى منقوضة بالإضافات [فإنا متى علمنا كون الشخص أبا علمنا كون شخص آخر ابنًا له] ومتى علمنا كون الشخص ابنًا علمنا كون شخص آخر ابًا له مع أنه يستحيل أن يكون احدهما/ (165/ أ) علة للآخر فإن المضافين معًا والعلة يجب أن تكون قبل المعلول، والمقدمة الثانية مقيدة بقيد يتعذر حصول القطع به، لأنه لا يمكن القطع بها إلا إذا عرفنا سائر صفاته فإن بتقدير أن يكون بعض صفاته غير معلوم لنا لم يكن القطع معه بأن العلم بسائر صفاته [فإن بتقدير أن يكون بعض صفاته] غير كونه تكليفًا بالمحال لم يستلزم العلم بقبحه لجواز أن يكون العلم بذلك البعض يستلزم العلم بقبحه لكن لا يمكننا القطع بذلك لجواز أن يكون له صفات لا نعرفها.
سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك يدل على عدم علية تلك الصفات وما
الدليل عليه.
فإن قلت: لأن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول فكل شيء لا يستلزم العلم به بشيء آخر لا يكون ذلك الشيء علة له.
قلت: في هذا نظر عرف في موضعه.
وثانيها: الدوران الخارجي وقد عرفت فيما تقدم انه لا يفيد إلا الظن.
وثالثها: التقسيم المنتشر، فإذا قيل لهم لم لا يجوز أن تكون العلة أمرًا آخر غير ما ذكرتم؟
قالوا: اجتهدنا في طلبه وبالغنا في فحصه فما وجدناه، وعدم الوجدان بعد البحث الشديد والفحص البليغ يدل على عدم الوجود كالمبصر إذا طلب شيئًا في الدار ونظر إلى جميع جوانبها في النهار فلم يجده فإنه يقطع بعدم وجوده فيها.
وهذا ضعيف جدًا؛ أما أولًا: فلأن عدم الوحدان لا يدل على العدم إذ رب موجود ما وجدناه بعد البحث والاستقصاء التام.
والقياس على الصورة المذكورة قياس من غير جامع وبتقدير تحققه فهو إثبات للقياس بالقياس وهو باطل، وبتقدير صحته فالفرق ظاهر جدًا وهو أن جوانب الدار محصورة مضبوطة فإذا طلب فيها مع الإمعان فلم يجده فربما يقطع بعدم الوجود بخلاف نظر العقل فإنه في غير محصور ومضبوط فلا يحصل له القطع بعدم الوجود.
فإن قلت: فالمسألة المنظور فيها أيضًا محصورة مضبوطة؟
قلت: ما لها من الصفات الصالحة للعلية غير محصورة ولا مضبوطة فلم يفد ضبط أصل المسألة.