الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو معنوياً كما إذا كان المتعلق مذكورا بجملة مستقلة لا يتعلق المتعلق المذكور في الرواية بها في اللفظ كما في بيان التخصيص والنسخ، وبيان المجمل بجملة مستقلة؛ لأن نقل البعض دون البعض في هذه الصورة تحريف وتغيير للشرع، وموقع للمكلفين في الخطأ والجهل، فوجب أن لا يجوز ولا يعرف خلاف فيها.
وإن لم يكن البعض متعلقا بالبعض لا لفظا ولا معنى.
فمن جوز نقل الخبر بالمعنى جوزه لا محالة.
وأما من لم يجوزه فهؤلاء اختلفوا:
فالأكثرون منهم منعوه؛ للحديث فإنه يقتضي أن تكون التأدية كما سمع، وهو إنما سمع تمام الحديث فوجب أن ينقله بتمامه.
والأقلون جوزوه؛ لأن ذلك إنما كان لمعنى هو غير حاصل فيما نحن فيه فوجب أن يجوز.
المسألة العاشرة
المرسل هل هو مقبول أم لا
؟
اختلفوا فيه: فذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى أنه غير مقبول، وهو
قول القاضي أبي بكر رحمه الله.
وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين وجماهير المعتزلة إلى أنه مقبول.
وفصل بعضهم كعيسى بن أبان، فقال بقبول مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل دون مراسيل غيرهم.
وصورته: أن يقول من لم يعاصر الرسول وكان ممن تقبل روايته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو قال من لم يعاصر الصحابة: قال أبو هريرة رضي الله عنه.
فأما الصحابي إذا قال: قال رسول الله -، - فهو مقبول لا يتجه فيه خلاف؛ لأنه ظاهر في الرواية عنه عليه السلام وبتقدير أن يروي عن غيره من الصحابة فهو غير قادح في قبول روايته؛ لأن الأصل في الصحابة العدالة.
فأما احتمال روايته عن التابعي الذي يروي عن صحابي آخر، أو عمن لقي الرسول عليه السلام من الأعراب الذين لا صحبة لهم لو سلم أنهم ليسوا من الصحابة فمرفوض بالعادة؛ إذ لا يعهد منهم ذلك.
فأما التابعي أو تابع التابعين إذا قال: قال فلان من الصحابة أو التابعين، وكان ممن عاصره ولقيه، وصحبه فهذا ظاهر في الرواية عنه، وهو يوجب قبول روايته فيقبل ظاهرا بناء عليه.
ويحتمل أن يروى عن غيره، وهو يوجب عدم قبول روايته، لكنه مرجوح فلا يقدح في الظاهر، فلو علم أنه لم يرو عنه بل وصل إليه من غيره فهو مرسل مختلف فيه.
احتج أصحابنا بوجهين:
أحدهما: أن عدالة الأصل غير معلومة ها هنا فوجب أن لا تقبل، أما الأول؛ فلأن جهل الذات يستلزم جهل صفته، والعلم بذلك ضروري هو حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أنه لم يسم المروي عنه، والعدالة صفة من صفاته فيكون الجهل بها حاصلا.
وأما الثاني؛ فلأن العدالة شرط قبول الرواية وفاقا وإن كان معناها مختلفا فيه، والجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط فوجب أن لا تقبل.
فإن قيل: ما الذي تعنى بقولك: إن عدالة الأصل غير معلومة؟ إن عنيت به العلم بمعنى القطع فهذا مسلم، لكن بتقدير أن عرفناه بعينه فعدالته غير
معلومة أيضاً بهذا المعنى.
[وإن عنيت به العلم بمعنى الظن فلا نسلم أن عدالته غير معلومة بهذا المعنى].
قوله: الجهل بالذات يستلزم الجهل بصفته.
قلنا: إن عنيت به أن الجهل لكنه حقيقة الذات يستلزم الجهل بصفته فهذا ممنوع.
وإن عنيت به أن الجهل به من كل الاعتبارات يستلزم الجهل بصفته فهذا مسلم، لكن لا نسلم أن الجهل به من كل الاعتبارات حاصل فيما نحن فيه؛ وهذا / (108/أ) لأنه معلوم باعتبار أنه مروي عنه؛ فإنه لما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمنا قطعا أنه يمتنع أن يوري عنه علمنا أنه وصل إليه من شخص آخر، وإلا لكان كاذبا مفتريا على الرسول وذلك يقدح في قبول روايته، فهو إذن معلوم بهذا الاعتبار، وإذا كان معلوما باعتبار ما لم يستلزم الجهل بصفته، فلم قلتم: إن العلم بها بمعنى الظن غير حاصل فيه؟ وعليكم البيان، لأنكم المستدلون.
ثم إنا نتبرع في هذا المقام ونبين أن العلم بها بمعنى الظن حاصل؛ وذلك لأن نفس رواية العدل عن الشخص إن جعلت تعديلا له فظاهر، وإن لم تجعل تعديلا له وجب أن تكون الرواية على وجه الإرسال تعديلا له؛ وذلك لأن الظاهر من حال العدل الثقة إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون جازما بذلك، أو ظانا، وأنه لو ظن عدم صدوره من الرسول أو شك في ذلك لم يستجز من ينه أن ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ما ليس له أن ينقل عنه لا سيما بعبارة يفيد ظاهرها الجزم بثبوته عنه عليه السلام، لما فيه من الكذب والتلبيس على من سمع ذلك منه، ولا يحصل له ذلك إلا إذا حصل له ظن عدالة المروي عنه
فثبت أن إرساله بنبئ عن اعتقاد عدالته فيكون ذلك تعديلا منه كما في العمل بمقتضى روايته بل هذا أولى؛ لما فيه من الدلالة على الجزم بثبوته عنه عليه السلام.
وأيضا: فإنه لما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وجب على من سمع ذلك منه العمل بمقتضاه، وليس له ذلك إلا إذا علم أو ظن ثبوته منه، فيكون ذلك تعديلا منه فيكون ظن عدالته حاصلا ظاهرا فوجب القبول كما في غيره من الصور.
سلمنا دلالتهما على ما ذكرتم لكنه معارض بالنص، والإجماع، والقياس.
أما النص - فنحو قوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} ونحو قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} ، ولا يخفى وجه الاستدلال بهما مما سبق.
وأما الإجماع - فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على رواية المراسيل وقبولها.
روى عن البراء بن عازب أنه قال: "ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب".
وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"، فلما روى له سعيد حديثه قال: هذا ما سمعته من الرسول وإنما حدثني به أسامة.
وروى أيضا عنه عليه السلام أنه "ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة".
فلما روجع فيه قال أخبرني به أخي الفضل بن عباس.
وكانوا يقبلون أخباره مع كثرتها مع أنه لم يسمع أكثرها من الرسول عليه السلام لصغر سنه حتى قيل: إنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربعة أحاديث.
وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام: "من أصبح جنبا فلا صوم له" وقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما أنكر ذلك عليه قال حدثني به الفضل بن عباس.
وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: "من صلى على جنازة فله قيراط" فلما روجع فيه قال أخبرني به أبو هريرة.
وكذلك التابعون فإنهم كانوا يرسلون الأخبار ويقبلونها:
روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند فقال: "إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله يعني ابن مسعود فهو الذي حدثني عنه، وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني به جماعة عنه".
وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يرسل الأخبار، ومراسيله مقبولة عند أكثر من أنكر قبولها.
وكذلك الحسن روي أنه أرسل حديثا فلما روجع فيه قال: "أخبرني به سبعون بدريا".
وكذلك الشعبي وغيرهم من التابعين كانوا يرسلون الأخبار ويقبلونها من غير إنكار فيما بينهم فكان إجماعا.
وأما القياس: فلأنه لو لم يقبل المرسل لما قبل ما يحتمل أن يكون مرسلا، فكان ينبغي إذا قال الراوي، "عن فلان" أن لا يقبل [لاحتمال أنه ما سمعه منه بل وصل إليه بواسطة فكان يجب أن لا يقبل] للجهل بعدالة الراوي.
الجواب: والذي تعني بقولك: أن عدالة الأصل غير معلومة؟
قلنا: نعني به أنها غير راجحة الوجود في الاعتقاد وهو قدر مشترك بين العلم والظن، وبانتفائه ينتفي العلم والظن.
قوله: ما الذي تعني بقولك: إن الجهل بالذات يستلزم الجهل بالصفة؟
قلنا: نعنى به أن الجهل بالذات من كل الاعتبارات يستلزم الجهل بصفته والعلم بذلك ضروري.
قوله: الجهل بالذات من كل الاعتبارات غير حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أنه معلوم باعتبار أنه مروي عنه، وإذا كان معلوما باعتبار ما لم يستلزم الجهل بصفته فلم قلتم إن العلم بعدالته غير حاصل؟
قلنا: الجهل بالذات من كل الاعتبارات كان حاصلا من قبل والعلم بذلك جلي لا يمكن إنكاره، ولم يوجد سوى رواية العدل عنه، فهو معلوم باعتبار أنه مروي عنه لا غير، لكن هذا الاعتبار لا يدل على العدالة ولا يشعر بها؛ إذ العدل قد يروى عمن لو سئل عنه توقف فيه أو جرحه، وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوا مرة، وجرحوه تارة، وقالوا لا ندري / (109/أ) أخرى، فإذن لا تدل الرواية على عدالة المروي عنه.
وأيضا: لو كانت الرواية تدل على عدالة المروي عنه لوجب أن يكون الراوي مكذبا نفسه إذا جرحه وعد مناقضا لما سبق منه كما إذا عدله ثم جرحه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الرواية ليس تعديلا منه، بل الراوي ساكت عن تعديله موكل للبحث في ذلك إلى سامعه، ولا يجعل السكوت عن الجرح تعديلا بناء على أنه لو علم فيه جرحا لجرحه وإلا لكان السكوت عن التعديل جرحا؛ بناء على أنه لو علم فيه العدالة لعدله، ولو سلم أن الرواية عنه تعديل له لكن لا نسلم أن مطلق التعديل مقبول بل لا يقبل التعديل عندنا ما لم يذكر
السبب فلم قلتم أنه مقبول مطلقا؟
ولو سلم قبول مطلق العدالة لكن ذلك في معين لا نعرفه بفسق فأما في غير المعين فلا؛ لاحتمال أنه لو عينه لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل، ولا ينقض.
هذا فيما إذا عينه وعدله؛ لأن هذا الاحتمال مندفع فيه فإنا إنما نرتب العدالة على تعديله أن لو لم نعرفه بفسق بعد التعيين. وقوله: إن إرساله ينبئ عن اعتقاد عدالته فيكون معدلا له بالإرسال.
قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد ظاهره الجزم بأن هذا القول قول الرسول عليه السلام وهو غير مراد قطعا؛ إذ لا علم بذلك، فيتعين أن يكون المراد منه أني سمعت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أني أظن أنه عليه السلام قال بذلك فليسوا بإضمار الثاني أولى منا بإضمار الأول، وحينئذ لم يكن ذلك تعديلا له، لأنه لو صرح بقوله: إني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه تعديل له، وإضماره لا يزيد على صريحه، وإذا لم يكن أحد الإضمارين أولى من الآخر وجب عدم القبول؛ إذ الأصل عدم ثبوته منه، وعدم القبول إلا إذا وجدت الشرائط وهو ممنوع فيما نحن فيه.
قوله في الوجه الثاني: إنه أوجب على السامع العمل بمقتضاه وليس له ذلك إلا إذا علم أو ظن [ثبوته من الرسول عليه السلام.
قلنا: لا نسلم إنه أوجب عليه ما ذكرتم] بل بلغ إليهم أنه بلغ إليه ذلك حتى تبحثوا عن صحته فإن صح عملوا به وإلا فلا.
أو نقول: روايته إنما توجب على الغير شيئا، أن لو ثبت كون الراوي
عدلا، فإذا بينتم كونه عدلا بكون روايته توجب على الغير شيئا لزم الدور وهو ممتنع.
سلمنا صحتهما لكنهما منقوضان بشهادة الفرع، إذا لم يذكر الأصل فإن جميع ما ذكرتم في الوجهين قائم بعينه فيه، مع أنه لا تقبل شهادته إذا لم يذكر الأصل.
وأما الجواب عن المعارضة الأولى: فهو أن الآيتين مخصوصتان بما إذا ذكر شيخه ولم يعدله وبقى مجهولا عندنا، فإنه لم تقبل روايته باتفاق كل من قال من الخصوم أن مجرد الرواية ليس تعديلا له، وإنما حصتا للجهالة وهي في صورة الإرسال أتم؛ لأن فيه جهالة العين والصفة؛ لأن من لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته بخلاف تلك الصورة فإن فيه جهالة الصفة فقط فإذا خصتا في تلك الصورة فلأن يلزم تخصيصهما فيما نحن فيه بالطريق الأولى، وبما إذا لم يذكر شاهد الفرع [شاهد الأصل].
وعن الإجماع: أنا لا نسلم انعقاد الإجماع عليه بل الذي صح إنما هو قبول البعض، فإما قبول الكل أو سكوت الباقين عن ذلك فممنوع؛ وهذا لأنهم باحثوا ابن عباس، وابن عمر، وأبا هريرة مع جلالة قدرهم، وعدم الشك والارتياب في عدالتهم ولو كانوا يرون قبوله لم يكن لهذا البحث معنى.
وما يقال: إن المباحثة إنما كانت لطلب زيادة علة لم تكن حاصلة بالإرسال فباطل؛ لأن قوة الظن في الإرسال عندهم أكثر، ولهذا رجحه بعضهم على
المسند، والأكثرون سووا بينهما، وعلى التقديرين لا يتحقق طلب زيادة العلة فيه.
سلمنا انعقاد الصحابة، لكن لا ننازعكم فيه لما سبق في صدر المسألة، فأما إجماع التابعين على ذلك فممنوع؛ وهذا لأن من الظاهر أنه لا يمكن ادعاء الإجماع القطعي في ذلك؛ لأن المسألة اجتهادية بالاتفاق، ولا قاطع في المسائل الاجتهادية بل لو أمكن فإنما هو ادعاء الإجماع السكوتي، لكن حصوله من التابعين مع تفرقهم في البلاد وعد اطلاع بعضهم على ما صدر من بعضهم بعيد جدا.
سلمنا أنه لا يبعد حصول العلم به، لكن لا نسلم عدم إنكار الباقين وكيف يدعي ذلك مع ما نقل عن ابن سيرين أنه قال:"لا تقبلوا مراسيل الحسن، وأبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن رويا".
فإن قلت: إن ذلك إنما كان للتهمة.
قلت: فهذه التهمة قائمة في كل إرسال؛ لأنه إذا جاز للعدل أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا مع أن المروي عنه ليس بعدل لم يمكننا أن نستدل بإرساله على عدالته، اللهم إلا إذا عرف من عادته أنه لا يروي إلا عن عدل فنحن لا ننازعكم فيه بل هو عندنا مقبول أيضا كالسند.
سلمنا حصول إجماعهم على قبول إرسالهم فلم قلت: إنه يلزم منه قبول
إرسال غيرهم؟ ولا يمكن ادعاء عدم الفصل بينهم وبين غيرهم؛ لأن بعض المنكرين قبل مراسيلهم أيضا لما سبق في صدر المسألة، بل قبل بعضهم مراسيل كل من هو من أئمة النقل دون مراسيل غيرهم.
وعن / (110/أ) القياس: أنه ظاهر في الرواية عنه من غير واسطة، فإن من صحب شخصا وأطال صحبته معه إذا قال:"قال فلان" فإنه يفهم منه ظاهرا أنه سمعه منه من غير واسطة فيقبل بناء على الظاهر، ومتى لم يعلم ذلك، أو علم ذلك لكن علم من صريح قوله أنه لم يسمعه منه بل وصل إليه بواسطة لم يقبل حتى تثبت عدالة المروي عنه كما تقدم في صدر المسألة.
وثانيهما: أنا أجمعنا على أن شاهد الفرع إذا لم يذكر الأصل وأرسل الشهادة إرسالا لم تقبل فكذا الرواية، والجامع بينهما: عدم معرفة عدالة الأصل التي هي شرط القبول، والإرسال لو كان دليلا عليها لما اختلفت دلالته بين أن يكون في الرواية وبين أن يكون في الشهادة، بل جعل الإرسال دليلا على التعديل في صورة الشهادة أولى من جعله دليلا عليه في صورة الرواية؛ لأن الشهادة يحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية، وعدالته تقتضي أن
يكون احتياطه أكثر فيما يكون احتياط الشارع فيه أكثر، فلولا جزمه بعدالته، أو غلبة ظنه بعدالته لما أرسل الشهادة إرسالا كما ذكرتم في الرواية، فلما أرسل دل على أنه جازم، أو ظان ظنا قويا بعدالته فكان يجب القبول كما لو صرح بتعديله ولما لم يقبل علمنا أنه لا دلالة له عليه.
وبهذا يعرف اندفاع ما يقال من الفرق وهو: أن الشهادة تتضمن إثبات الحق على معين، والخبر يتضمن إثبات الحق في الجملة من غير تخصيص لمعين، ويدخل من التهمة في إثبات الحقوق على الأعيان ما لا يدخل في إثباتها في الجملة فجاز أن تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية، كما أكد باعتبار العدد، وعدم العداوة وغيرهما؛ لأن هذا بعينه يدل على أن الإرسال فيه أدل على التعديل كما تقدم على أن هذا معارض بوجه آخر وهو أن الخبر وإن لم يتضمن إثبات الحق على معين، لكن يقتضي إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أجدر من الاحتياط في إثبات الحق على واحد في زمان معين.
فإن قلت: إنما يجب ذكر الأصل لأل تغريمهم عند رجوعهم عن الشهادة؛ فإنا لو لم نعرفهم بأعيانهم لم يكن تغريمهم عند رجوعهم.
قلت: هذا باطل.
أما أولا: فلأن الأصل والغالب عدم الرجوع، فوجب أن لا يجب باعتباره شيء؛ لأن ما يمكن أن يطرأ في شيء مع أن الأصل والغالب عدمه لا يوجب اعتبار أمر فيه بالاستقراء.
وأما ثانيا: فلأن تغريمهم غير ممكن في كل صورة من صور رجوعهم حتى يجب لأجله تعيينهم؛ فإن تغريمهم غير ممكن فيما إذا كان المشهود به حقا من الحقوق التي لا تقابل بالمال، أو وإن كان مالا لكن حيث مات شاهد الأصل ولم يخلف لا درهماً ولا ديناراً.
وقد احتج على عدم قبول المرسل بوجوه أخر:
أحدها: أنه لو جاز العمل بالمرسل لم يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم معنى.
وهو ضعيف جدا.
أما أولا: فلأن ذلك طريق الراوي في تحصيل المعرفة بعدالة المروي عنه، فإنه إنما يجوز له أن يرسل إذا غلب على ظنه عدالته وليس كل راو يعرف المروي عنه بالصحبة الطويلة، والخبرة الباطنة حتى يستغني عن البحث عن عدالتهم بذكر اسمه لمن يعرفه بالصحبة والخبرة الباطنة فيرسل الخبر من غير بحث عنه.
وأما ثانيا: فلأن كون الشيء له طريق لا ينفي أن يكون له طريق آخر.
وأما ثالثا: فلأنه إذا ذكر المروي عنه باسمه تمكن المجتهد من البحث عن عدالته، والظن الحاصل له بعدالته من فحصه بنفسه أقوى من الظن الحاصل له بعدالته بإرسال الراوي.
وأما رابعا: فلأن الراوي وإن عرفه بعدالته لكن يحتمل أن يعرفه غيره بفسق فيعينه لئلا يكون ملبسا على من عرفه بفسق.
وثانيها: أن الخبر خبران: تواتر وآحاد، فلو قال الراوي: أخبرني من لا أحصيهم عددا لا يصير بذلك ذلك الخبر متواترا، فكذا في الآحاد لا يصير بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب القبول.
وهو أيضاً ضعيف.
أما أولا: فلأن السامع عند سماع ذلك لا يقطع بصحة ذلك الخبر، والخبر المتواتر هو الذي يقطع السامع بصحته عند سماعه بخلاف خبر الواحد فإنه إذا غلب على الظن صدقه يجب قبوله، وقد يحصل ذلك بإرسال المرسل.
وأما ثانيا: فلأن شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة وهو مقصود فيما فرضوه فلا يصير بذلك متواترا.
وثالثها: لو جاز العمل بالمرسل لجاز في عصرنا، والملازمة بينة، فلو قال العدل في زماننا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاز لنا أن نعمل به، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.
وهو أيضا ضعيف؛ لأنا لا نسلم صحة الملازمة؛ وهذا لأنه إنما لم يقبل في زماننا لغلبة الخلاف، وكثرة الوسائط، وقلة الاحتياط وهي ما كانت حاصلة في العصر الأول.
سلمنا الملازمة لكن لا نسلم بطلان اللازم إذا لم نعلم تكذيب الحفاظ والكتب الصحاح المصنفة في هذا الفن، فأما إذا علم ذلك فإنما لم يعمل به للتكذيب لا للإرسال، فإنه لو أسنده ولم يوجد في صدور الرواة وبطون / (111/أ) الكتب المصنفة في هذا الفن لم يقبل أيضاً.
فروع
الأول: قال الشافعي رحمه الله: "لا أقبل المرسل إلا إذا كان الذي أرسله مرة، أسنده أخرى، أو أسنده راو آخر، أو أرسله راو آخر ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر، أو عضده قول صحابي، أو فتوى أكثر أهل العلم، أو علم من عادته أنه لو نص لم ينص إلا على من يجب قبول خبره.
قال: وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأني تتبعتها فوجدتها بهذه الشرائط.
قال: ومن هذا حاله أحببت قبول مراسيله ولا أستطيع أن أقول: إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل.
واعترض عليه: أنه لا معنى لقوله: لا أقبل المرسل إلا إذا أسنده هو أو راو آخر؛ لأنه حينئذ قبل المسند لا المرسل، ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا عضدته الحجة.
واعلم أنه إذا أراد الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله: إلا إذا أسنده، هو أو راو آخر إسنادا لا تقوم الحجة به وحده، فهذا الاعتراض ساقط، لكن يتوجه عليه اعتراض آخر وهو: أن ما ليس بحجة لا يصير حجة بانضياف ما ليس بحجة إليه، وهو الإشكال على بقية كلامه وسنجيب عنه.
وإن أراد إسنادا تقوم الحجة به وحده، فهذا الاعتراض متجه وارد على كلامه لا يظهر وجه في اندفاعه.
وأما قوله: لا أقبله إلا إذا أرسله راو آخر يعلم أن رجال أحدهما غير الآخر.
فالاعتراض عليه: أن ما ليس بحجة لا يصير حجة بانضياف ما ليس بحجة إليه إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد حاصلا عند الانضياف.
واحترزنا بهذا القيد عن الشاهد الواحد إذا انظم إليه شاهد آخر فإنه يصير حجة؛ لأن المانع من كونه حجة عند الانفراد إنما هو الانفراد، وهو زائل عند الانضمام، وأما ما نحن فيه فليس كذلك بل المانع من كونه حجة وهو الجهل بعدالة المروي عنه قائم حالة انضياف الغير إليه.
وأما قوله: إذا عضده قول صحابي فهذا إن كان تفريعا على أن قول الصحابي حجة توجه عليه الاعتراض الأوف، وإلا فالاعتراض الثاني.
أما قوله: أو فتوى أكثر أهل العلم فيتوجه عليه الاعتراض الثاني؛ لأن فتوى أكثر أهل العلم ليس بحجة بالنسبة إلى المجتهد.
وجوابه: أنا إذا جهلنا عدالة المروي عنه لم يحصل هناك ظن أو وإن حصل لكنه ظن ضعيف، فإذا انضمت إليه هذه الأمور حصل هناك الظن، أو قوى ذلك الظن الضعيف، وحينئذ يجب العمل به، للأدلة الدالة على وجوب العمل بالمظنون، ولا امتناع فيه؛ فإن الشيء قد لا يكون مستقلا بإفادة شيء، ثم إذا انظم إليه غيره أفاد مجموعهما ذلك الشيء كالقرينة الضعيفة لا يتصرف اللفظ عن حقيقته، وإذا انضمت إليها قرينة أخرى ضعيفة فربما يكون مجموعهما يصرفه عنها ونظائرها كثيرة فلا امتناع في أن لا يقبل المرسل وحده، ثم إذا انضم إليه ما تقدم من الأمور أفاد مجموعهما قدرا من الظن المعتبر فيكون المجموع معتبرا وحجة لا أنه يصير ذلك المرسل وحده حجة إذ ذاك فظهر بهذا سقوط السؤال.
الفرع الثاني: إذا أرسل الحديث وأسند غيره إسنادا تقوم الحجة به فلا شبهة في أنه مقبول سواء قبل المرسل أو لم يقبل؛ لأن إسناد الثقة يوجب القبول إذا لم يوجد مانع منه، وإرسال المرسل غير مانع منه؛ لأنه يجوز أن يكون أرسله؛ لأنه سمعه مرسلا، أو وان سمعه مسندا نسي شيخه وهو يعلم أنه ثقة في الجملة، أو وإن ذكره لكن لقوة ظنه بعدالته وصدقه أرسله ولم يسمه، وهب أنه أرسله مع أنه يرويه عن ضعيف أو يرويه عن فاسق مع علمه بفسقه لكن ذلك يقدح في قبول روايته لا في قبول رواية آخر مع الإسناد الصحيح فثبت أن إرسال غيره لا يقدح في قبول رواية المسند بحال.
فأما إذا أسنده المرسل بعينه فإنه يكون مقبولا أيضا سواء كان مرات إسناده أكثر من مرات إرساله أو أقل خلافا لبعض المحدثين؛ لأنه يجوز أن يوجد فيه بعض ما سبق من الاحتمالات فلا يقدح إرساله في قبول إسناده.
الفرع الثالث: إذا الحق الحديث بالنبي عليه السلام، وأوقفه غيره على الصحابي فهو متصل؛ لأنه يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول عليه السلام مرة، وذكر عن نفسه على سبيل الفتوى أخرى، فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه، أو وان كان كل واحد منهما سمعه أنه يرويه عن الرسول عليه السلام لكن نسي أحدهما ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه.
فأما إذا أوصله الموقف بعينه فإنه متصل أيضا خلافا لبعض المحدثين؛ لأنه يجوز أن يكون قد سمعه من الصحابي يرويه عن النبي عليه السلام مرة وأخرى عن نفسه، أو وإن سمعه في المرتين أنه يصله بالرسول لكن نسي ذلك فظن أنه ذكر في إحداهما عن نفسه هذا كله فيما إذا كان الإرسال
والإيقاف / (112/أ) ومقابلتهما في أزمنة متقاربة، فأما إذا أرسله أو أوقفه زمانا طويلا، ثم أسنده أو أرسله بعد ذلك فإنه يبعد أن ينسى ذلك الزمان الطويل كله ثم يتذكره فيبعد جعله مسندا ومتصلا اللهم إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما قد نسيه في ذلك الزمان الطويل.
الفرع الرابع: من دابه إرسال الأخبار إذا أسند خبرا، هل يقبل أم لا؟
اختلف فيه: من لم يقبل المراسيل فكثير منهم قبله؛ لأن إرساله يختص بالمراسيل دون المسند فوجب قبوله.
ومنهم من لم يقبله وزعم أن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه فستره له والحالة هذه خيانة فلا يقبل خبره.
وهو ضعيف؛ لأنه يحتمل أنه إنما أرسل فيما أرسل لأنه سمعه مرسلا، أو لقوة ظنه فيها لصدق الرواة، أو لأنه وجد فيها بعض ما سبق من المقويات، أو لأنه آثر الاختصار في الأكثر، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن الحمل على الخيانة.
نعم لو علم ذلك من عادته لم يقبل مرسله وسنده إجماعا.
ثم اختلف من قبل حديث المرسل، إذا أسنده كيف يقبله؟ فقال الشافعي رضي الله عنه:"لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه: حدثني أو سمعت فلانا، ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم محتمل لغير السماع منه كأخبرني أو عن فلان" وقال بعض المحدثين: "لا يقبل منه إلا إذا قال: سمعت فلانا" محدثين للمشافهة عندهم، وأخبرني متردد بين المشافهة، والإجازة وبين أن كتب إليه، ولعل هذا اصطلاح منهم، وإلا فمن جهة اللغة لا يظهر هذا الفرق.