الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
اعلم أنا إذا علمنا أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا، وعلمنا حصول ذلك الوصف مع جميع ما يعتبر في اقتضائه لذلك الحكم في صورة النزاع علمنا حصول مثل ذلك الحكم في صورة النزاع، فهذا النوع من القياس مما لا نزاع فيه بين العقلاء بل الكل أطبقوا
على حجيته ووجوب اعتقاد نتيجته والعمل بمقتضاه على من علم ذلك وله أن يفتي به غيره.
فأما/ (122/ أ) إذا كانت هاتان المقدمتان ظنيتين، أو إحداهما ظنية: كان حصول ذلك الحكم في صورة النزاع ظنيًا لا محالة.
وهذا النوع من القياس لا نزاع في أنه لا يقبل العلم والجزم بالنتيجة بل إن كان ذلك في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على وجوب العمل به كما في الأدوية والأغذية والأسعار.
وأما إذا كان في الأمور الشرعية فقد نقل الإمام أن هذا هو محل الخلاف.
وكلام الشيخ الغزالي يقتضي التفصيل والفرق بينهما إذا كانتا ظنيتين، أو إحداهما ظنية؛ لأنه قال: "الاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم، أو في
تنقيح مناط الحكم، أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه.
أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فهو النظر في معرفة وجود العلة في الصورة التي يراد إثبات الحكم فيها بعد أن كانت معلومة إما بنص أو إجماع.
أما إذا كانت العلة معلومة بالنص فكالقبلة في وجوب استقبال جهتها فإنه علم كونها علة بقوله تعالى {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وتحققها في جهة معينة عند الاشتباه مظنون يظن ذلك بالنظر والاجتهاد في أماراتها.
ومثله كون المثلية مناط وجوب الجزاء بقتل الصيد، فإنه معلوم بنص الكتاب، وأما تحققها في آحاد الصور الجزئية فمظنون بنوع من المقايسة والاجتهاد.
أما إذا كانت العلة معلومة بالإجماع فكالقيمة، فإنها مناط وجوب ضمان المتلفات من ذوات القيم فهذا معلوم بالإجماع، وأما تحققها في آحاد العمور الجزئية فمظنون بقول المقومين المبني على الاجتهاد والتخمين.
ونحو العدالة، فإن كونها مناط وجوب قبول الشهادة معلوم بالإجماع وتحققها في كل واحد من الشهود مظنون بالاجتهاد والاختبار.
وجعل من هذا القسم الاجتهاد في تعيين الإمام والقضاة، وتقدير التعزيريات، وأروش الجنايات، وكل ما علم وجوبه أو جوازه من حيث الجملة، وإنما النظر والاجتهاد في تعيينه وتقديره.
وقال: لا نعرف خلافًا بين الأئمة في جواز هذا النوع من التصرف من المجتهدين وصحة الاحتجاج به، وهذا يدل على أنه إذا كانت المقدمة الأولى أعني كون الحكم معللًا بكذا قطعية، والثانية أعني تحققها في صورة النزاع ظنية فإنه ليس من صور المختلف فيه بين القائسين.
وأما الاجتهاد في تنقيح مناط الحكم، فهو: الاجتهاد والنظر في تعيين السبب الذي ناط الشارع الحكم به بخلاف غيره من الأوصاف عن درجة الاعتبار.
مثاله: أن الشارع أوجب على الأعرابي الذي أفطر في نهار رمضان بالوقاع مع أهله الكفارة، فينظر المجتهد في أن سبب وجوب الكفارة إما
الوقاع الخاص المحتف بخصوصيات شخصية لا توجد في غيره نحو كونه وقاع ذلك الشخص مع تلك المرأة في ذلك اليوم من رمضان تلك السنة فيحذف كل ذلك عن درجة الاعتبار بأدلة لائحة قطعية، أو الوقاع الخاص المحتف بخصوصيات نوعية، نحو كونه أعرابيًا، وكونه في رمضان مخصوص، وكونه مع المنكوحة فيحذف كل ذلك أيضًا حتى يتعدى الحكم إلى العجمي والتركي وإلى من أفطر في رمضان آخر وإلى من أفطر بالوقاع مع الأمة ومع الأجنبية، وهذا النوع من الحذف أيضًا لائح قطعي، أو مطلق الوقاع كونه وقاعًا أو بعموم كونه إفطارًا حتى لا يتعدى إلى الفطر بالأكل والشرب على الاحتمال الأول، ويتعدى إليه على الاحتمال الثاني.
وهذا النوع من الحذف ظني لا قطعي وهو في محل الخلاف وكل هذا يسمى تنقيح المناط أعني ما إذا كان حذف غيره عن درجة الاعتبار قطعيًا أو ظنيًا، وحاصله يرجع إلى أن تصرف المجتهد فيه إنما هو في تعيين السبب الذي ناط الشارع الحكم دون استنباطه وتخريجه قال: وقد أقر به أكثر منكري القياس.
وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه: بجريانه في الحدود والكفارة مع أن القياس لا يجري عنده فيما وسماه استدلالًا فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأهل الظاهر لم يخف فساد كلامهم".
وهذا ظاهر فيما إذا كان حذف ما عداه من الاعتبار قطعيًا، فأما إذا كان ظنيًا فلا؛ إذ لا يظهر بينه وبين القياس المختلف فيه فرق قادح يعول عليه.
وأما الاجتهاد في تخريج المناط، فهو: الاجتهاد والنظر في إثبات أصل علة الحكم الذي دل النص والإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته لا بالصراحة ولا الإيماء، نحو تحريم الخمر، وتحريم الربا في البر والشعير،
فإنه ليس في قوله- عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر ولا الشعير بالشعير إلا سواء بسواء يدًا بيد" ما يدل على أن علة تحريم الربا فيهما الطعام وإن كان قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواًء بسواء" إيماء إليه لكن على هذا لا يتصور قياس مطعوم بمطعوم لاندراج الكل تحت النص، أو الكيل أو الوزن، أو القوت أو صلاحية الادخار، لكن المجتهدين نظروا واجتهدوا في استنباط علته بالطرق العقلية من المناسبة وغيرها فاستنبطوا علته، وقال كل واحد منهم بعلية مما أدى إليه اجتهاده، وكذلك الخمر فإنه ليس فيما يدل على تحريمها التعرض لعلته لكن استنبطوا علته بالاجتهاد والنظر فمن أدى اجتهاده إلى أن علة حرمتها كونها مسكرة حرم النبيذ، ومن أدى اجتهاده إلى اعتبار أمر آخر معه لم يحرم النبيذ، ضرورة أن ذلك المجموع غير حاصل فيه، وهذا النوع من الاجتهاد هو القياس المختلف فيه بين الناس على ما سيأتي من تفصيله.
وإن كان طريق استنباط العلة السبر والتقسيم الذي يرجع حاصل تنقيح المناط إليه، لكن إذا كان ظنيًا، أما إذا كان قطعيًا فليس هو من قبيل القياس المختلف فيه.
فالحاصل من كلامه أن المقدمة الأولى إذا كانت قطعية- وهو كون الحكم معللًا بالعلة الفلانية والظن إنما هو في الثانية، فليس هو من قبيل القياس المختلف فيه، وكلام الإمام يقتضي أن الكل في محل الخلاف.
تنبيه
أعلم أنه [إن] أريد تحقيق المناط ما كان المناط معلومًا فيه من غير نظر من المجتهد، وإنما نظر المجتهد فيه في تحققه في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها على ما أشعر به ظاهر كلامه فليس نتصور وجوده في تنقيح المناط وتخريجه؛ ضرورة أن للمجتهد نظرًا في نفس المناط فيهما إما بتعيينه أو تخريجه.
وإن أريد به ما يكون النظر في تحققه في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها سواء كان المناط معلومًا من غير نظر من المجتهد كما في تحقيق المناط على التفسير الأول.
أو لا يكون معلومًا كذلك بل بالنظر والاستدلال كما في تنقيح المناط، أو مظنونًا كما في تخريج المناط فهو من لوازمهما لا يتم كل واحد منهما بدونه.
وكذلك إن أريد بتنقيح المناط ما يكون السبب معلومًا بالنص، أو بإيمائه، أو إجماع، وإنما نظر المجتهد فيه في تعيينه بحذف غيره من العوارض المختلفة بطريق قطعي فهو أيضًا مباين لهما، وإن أريد به ما يكون النظر فيه في تعيين السبب سواء كان السبب مستنبطًا أو لم يكن وسواء كان الحذف بطريق قطعي أو لم يكن بطريق قطعي فهو لازم لتخريج المناط وتحقيقه على التفسير الثاني، أما تخريج المناط فغير لازم لهما لأن الخاص لا يلزم العام، فهذا تمام الكلام في المقدمة.
الباب الأول
في بيان أن القياس حجة في الشرعيات