الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوابه: أنا لا نسلم أن كونها يحتاط فيها ومتأيدة بالبراءة الأصلية يقتضي عدم جواز إثباتها بالظنى؛ وهذا لأنه ليس معنى قولنا يحتاط فيها لأنه لا تثبت إلا بالعلم، بل إنه يراعى فيها ما لا يراعى في غيره فيحتاج فيه إلى مزيد ظن بالنسبة إلى غيره.
ورابعها: لو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم لما كان الخبر الواحد المتواتر مفيدا له؛ لأنه إذا لم يحصل العلم بقول الأول منهم لم يحصل بقول الثاني والثالث وهكذا جميع أعداده واللازم باطل فالملزوم مثله.
وجوابه: منع اللازم وما ذكره دلالة عليه فغير لازم؛ لأنه جاز أن لا يحصل بقول الأول والثاني، ولكن يحصل بقول المجموع، فإن حكم المجموع لا يجب أن يكون متساويا لحكم آحاده من كل الوجوه والعلم بذلك ضروري.
المسألة الثالثة
ذهب الأكثرون في أنه يجوز ورود التعبد بخبر الواحد عقلا، خلافا لجماعة من المتكلمين
.
لنا وجوه:
أحدها: أنه لو استحال فإما أن يستحيل لذاته، وهو باطل؛ لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرا إلى ذاته وهو ظاهر، أو لغيره وهو أيضا باطل.
أما أولا: فلأنه لو فرضنا تصريح الشارع بذلك بأن يقول: مهما ظننتم صدق الخبر المروي عنه فاعلموا أني أوجبت عليكم العمل بمقتضاه لم يلزم منه لا لذاته، ولا لأمر خارجي محال.
وأما ثانيا: فلأنه لو استحال لذلك فإنما هو لحصول المفسدة على تقدير كونه كذبا؛ لأن القول باستحالته لغيره بغير هذا المعنى باطل بالإجماع، لكن ذلك باطل أيضا.
أما أولا: فلأن القول بالتحسين والتقبيح باطل، والتعليل بحصول المصالح والمفاسد العقلية في الشرع بدونه محال.
واما ثانيا: فلأنه ورد الشرع بوجوب العمل على مقتضى الظن من غير اعتبار مطابقته لما هو الواقع في نفس الأمر كما فيما إذا ظن صدق الشاهد والمفتي، وظن جهة القبلة وظن الأسير دخول شهر رمضان، وظن دخول وقت الصلاة في يوم الغيم، ووجوب ركوب البحر، ودخول البراري، إذا ظن السلامة، والمداواة إذا ظن أنه لم يفض إلى الهلاك فلو كان احتمال الخطأ على تقدير كذبه مانعا من الوجوب والجواز لما ثبت الوجوب والجواز فيما ذكرنا من الصور، وحيث ورد دل على أنه غير مانع منه.
وثانيها: أنه إذا رتب وجوب العمل على ظن صدق خبر الواحد، فها هنا مدرك الوجوب هو ظن صدقه لا صدقه، وظن صدقه معلوم قطعا فكان مدرك الوجوب معلوم قطعا فلا يحتمل الغلط والخطأ فكان جائزا، كما إذا رتب وجوب العمل على العلم بصدق الخبر في المتواتر وغيره، وهذا هو المعنى من قول الأصوليين:"إن الحكم معلوم قطعا، والظن وقع في طريقه".
وثالثها: أنا سنبين أنه وقع التكليف بالعمل بمقتضى خبر الواحد وذلك يدل على الجواز وزيادة.
احتجوا بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ، وقوله:{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ، وقوله:{إن الظن لا يغني من الحق شيئا} .
وجوابه ما سبق من الوجهين، ويخصه وجهان آخران:
أحدهما: أنها لا تدل على عدم جواز ورود التعبد بالظن وهو الذي فيه النزاع بل لو دلت فإنما تدل على عدم الوقوع، ولا يلزم من عدم الوقوع عدم الجواز.
وثانيهما: أنه لازم عليكم أيضا، فإن حكمكم بعدم جواز ورود التكليف بخبر الواحد اتباع للظن أيضا، إذ ليس عليه دليل قاطع فكان يجب أن لا يجوز وأما ادعاء أن عليه دليلا قاطعا مع أن ما يذكرونه لا يفيد الظن فضلا عن العلم مكابرة محضة.
وثانيها: أن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد، وإلا لزم العبث وهو منفي عن الحكيم، وتجويز الأمر باتباع خبر الواحد مع احتمال كونه كذبا مفضيا إلى سفك دم معصوم، واستحلال بضع محرم تجويز للأمر باتباع المفاسد وأنه ينفي البناء على المصالح ودفع المفاسد؛ ولهذا لم يجز ورود التكليف بالعلم بخبر الفاسق والصبي في الأحكام الشرعية وفاقا.
ولا ينقض هذا بالشهادة، فإنه أيضا محتملة للكذب مع ورود التكليف / (75/أ) باتباعها؛ لأن الفرق بينهما حاصل من وجهين:
أحدهما: أن الخبر يثبت شرعا عاما في حق الكل بخلاف الشهادة فإنها لا تثبت، بل هي شرط للإثبات لا في حق كل بل في أشخاص جزئية.
وثانيهما: أن اتباع الشهادة من قبيل الضرورات التي لا يمكن الانفكاك عنها في الدين؛ إذ لا سبيل إلى إثبات الحقوق الجزئية المتعلقة بالأشخاص الجزئية إلى طريق قاطع، إذ التنصيص على ذلك من الشارع متعذر حتى يمكن أن يقال أنه كان يجب على الشارع تبليغ تلك النصوص إلى عدد التواتر، وكذا إشهاد الجمع العظيم الذي يحصل التواتر بقولهم؛ لأن ذلك لا يتهيأ في كل وقت وفي كل شخص وفي كل واقعة، ولأن اجتماعهم على تحمل الشهادة وأدائها مما يوهم بالتواطؤ على الكذب فربما لا يحصل العلم بقولهم فيفضي إلى ضياع الحقوق، بخلاف اتباع خبر الواحد فإنه ليس من الضرورات؛ إذ يمكن للشارع أن يبلغه إلى عدد التواتر، وبتقدير أن لا يجب عليه ذلك فلم يبلغه إليهم، أو وإن بلغه لكن ربما لم يبق متواترا فيما بعد كان يوجب علينا العمل بالبراءة الأصلية اليقينية وبالأقيسة اليقينية فلم يلزم من جواز ورود التعبد بالشهادة جواز ورود التعبد بخبر الواحد.
ولا ينقض أيضا بورود التكليف باتباع قول المفتي مع أنه لا يفيد إلا الظن؛ لأن ذلك أيضا من قبيل الضرورات؛ إذ لا يمكن تكليف الخلق كلهم بتحصيل رتبة الاجتهاد لما فيه من اختلال مصالح العالم، ولعدم صلاحية الكل لذلك.
وجوابه: [أنه] عنى بقوله: إن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد أنها مبنية عليها عقلا فممنوع؛ وهذا لأنه قد تقدم القول ببطلان التحسين والتقبيح العقلي.
وإن عنى بها: أنها مبنية عليها شرعا فمسلم، لكنه لا يفيد لكون النزاع في جوازه واستحالته إنما هو من جهة العقل لا من جهة الشرع.
سلمنا لكن لما أوجب علينا العمل بما يغلب على الظن صدقه وإن كذب الخبر في نفسه لم يكن ذلك أمرا باتباع ما يجوز أن يكون مفسدة؛ لأن المأمور به هو اتباع ظن الصدق وهو معلوم قطعا يجده المجتهد من نفسه وعند وجوده من نفسه يوجب عليه العمل بمقتضاه وإلا لم يلزمه ذلك لاتباع صدق الخبر الذي هو محتمل فلم يلزم منه تجويز الأمر بالمفسدة.
لا يقال: إن الفعل إذا لم يكن منشأ للمصلحة لم يصر بسبب كونه مظنونا منشأ للمصلحة؛ لأن الظن لا يصير ما ليس بمصلحة؛ لأنا نمنع ذلك، وكيف لا ومدارك الأحكام معرفات ولا امتناع في أن يجعل الظن معرفا لذلك.
أما تجويز الأمر بالعمل بخبر الفاسق والصبي فلا نسلم امتناعه عقلا بل يجوز.
سلمنا أنه لا يجوز، لكن لا نسلم لأجل احتمال كونه كذبا، بل لأنه لم يغلب على الظن صدقه.
وثالثها: لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الأحكام الشرعية الفرعية، لجاز في الأصول بجامع حصول غلبة الظن بصدقه، واللازم باطل فالملزوم مثله.
وجوابه: منع الملازمة؛ وهذا لأن المطلوب في الأصول هو العلم واليقين وخبر الواحد لا يفيده كما تقدم، بخلاف الفروع فإنه يكفي فيها الظن وخبر الواحد يفيده، ومع اختلاف المناط لا يصح القياس.
ورابعها: أن أخبار الآحاد قد تتعارض بحيث يمتنع ترجيح أحدها على الآخر، فلو جاز ورود التكليف بها لجاز ورود التكليف بما لا يمكن العمل به، ضرورة أنه لا يمكن العمل بها عند التعارض وعدم الترجيح.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يمكن العمل بها عند التعارض وعدم الترجيح وهذا لأنه يتخير المجتهد فيه فيعمل بأيهما شاء.
سلمنا امتناعه لكن امتناع العمل بالشيء في بعض موارده لعلة تخصه لا يقتضي امتناع ورود التكليف بالعمل به حيث لا يمتنع العمل به.
وخامسها: لو جاز أن يقول الله تعالى: (مهما غلب على ظنكم صدق راوي الخبر الواحد فاعلموا أني أوجبت عليكم العمل بمقتضاه) لجاز أن يقول: "مهما غلب ظنكم صدق مدعي النبوة فاعلموا أني أوجبت عليكم قبول قوله وشرعه"؛ لأنا في كلتا الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظن الذي هو أمر وجداني يجده كل عاقل من نفسه، واللازم باطل فالملزوم مثله.
وجوابه: منع امتناع اللازم إذ ذاك، سلمناه لكن إنما كان كذلك؛ لأنه يعتبر أن يكون الدال على النبوة قاطعا بالإجماع، وفيما ذكرتم من الصورة وإن وجد القطع في الدال على وجوب الأخذ بقوله، لكنه لم يوجد في الدال على