الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس
وإن لم يرد التعبد به عند الإمام أحمد، وجماعة من فقهائنا وفقهاء الحنفية كالكرخى وأبى بكر الرازي، وجماعة من المعتزلة كأبي الحسين البصري والقاشاني والنهربانى والنظام على ما حكي عنه الأكثرون.
وكلام الشيخ الغزالي- رحمة الله- في النقل عنه صريح في أنه يرى تعميم الحكم في جميع موارد العلة بطريق اللفظ والعموم، ولا شك في أنه مخالف لنقل الأكثرين ومناف له، فإن التعميم بطريق القياس لا يجامع التعميم بطريق اللفظ فحينئذ لا يكون ذلك أمرًا بالقياس عنده وإن كان الحكم ثابتًا عنده في غير الصورة التي نص عليها.
وذهب المحققون من أصحابنا كالأستاذ أبى إسحاق الإسفرايينى والغزالي والإمام وغيرهم وجماعة من أهل الظاهر وجماعة من المعتزلة كجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وغيرهما إلى أنه لا يفيد ذلك.
وفصل أبو عبد الله البصرى بين أن تكون العلة علة لفعل أو علة الترك:
فقال في النوع الأول لا يفيد وفي الثاني يفيد.
والمختار: أن ذلك لا يفيد ثبوت الحكم في غير الصورة التي نص عليها
لا بطريق اللفظ، ولا بطريق أنه يفيد الأمر بالقياس.
أما الأول فالدليل عليه: أنا نعلم بالضرورة من اللغة أن قوله: "حرمت الخمر لكونها مسكرة" غير موضوع لتحريم كل سكر بل هو موضوع لتحريم الخمر لعلة كونها مسكرة وحرمة ما عدا الخمر من المسكرات ليس جزءًا من هذا المفهوم، والعلم بذلك أيضًا ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون دلالته على تحريم كل مسكر لفظية، ضرورة أن الدلالة اللفظية منحصرة في هذين النوعين على رأى، وفي الدلالة المطابقية على رأي.
والذي يؤكده: أن الرجل إذا قال: أعتقت غانمًا لسواده وله عبيد أخر سود، فإنهم لا يعتقون عليه وفاقًا، ولو كانت دلالته لفظية قائمة مقام قوله: أعتقت كل عبيدي السود لما كان كذلك بل كانوا يعتقون عليه من غير اعتبار نية ولا علم بقصده.
وأما الثاني: فلأن قوله: "حرمت الخمر لكونها مسكرة" يحتمل أن تكون علة حرمته مطلق الإسكار، ويحتمل أن تكون إسكارها؛ وهذا لأن لله تعالى أن يجعل إسكار الخمر لخصوصيته علة التحريم؟ إما لأنه تعالى [علم فيه مفسدة لا توجد في غيره، أو وإن لم يكن كذلك لكن لله أن يجعله علة بالتحريم] ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الإسكار، وإذا احتمل واحتمل لم يجز التعبد به إلا بأمر مستأنف بالقياس.
فإن قيل: نحن لا ننازعكم أن قوله: حرمت الخمر لكونها مسكرة غير موضوع في أصل اللغة لتحريم كل سكر لكن لم لا يجوز أن يقال: أنه منقول في عرف الاستعمال إلى تحريم كل مسكر.
ثم الذي يدل عليه: أن الرجل إذا قال لغيره: حرمت عليك السم لكونها قاتلًا، ثم أنه أباح له قاتلًا آخر مما لا يطلق عليه السم فإنه يعد مناقضًا في ذلك، ولولا أنه متناول له لما كان كذلك، وإنما لا يعتق سائر عبيده السود إذا قال: أعتقت غانمًا لسواده وإن كانت دلالته لفظية؛ لأنه غير صريح في ذلك، وكذلك لو نوى ذلك عتقوا عليه على رأى.
سلمنا أنه لا يدل عليه بطريق المطابقة والتضمن فلم لا يجوز أن يقال: أنه يدل عليه بطريق الالتزام؟
وقوله: الدلالة اللفظية منحصرة في النوعين.
قلنا: المعنى من قولنا: أنه يدل عليه بطريق اللفظ هنا هو أنه مستفاد من اللفظ، أو من فهم معناه عند سماعه ولاشك أن الدلالة اللفظية بهذا المعنى حاصلة كقولنا: حرمت الخمر لكونها مسكرة على تحريم كل مسكر؛ إذ يفهم منه العلة ويلزم من فهم العلة تعميم الحكم أينما وجدت العلة، وليس هذا قولًا بطريقة القياس فإن القياس ليس من/ (148/ أ) الدلالة الالتزامية في شيء.
سلمنا أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ فلم لا يجوز أن يقال: إنه يدل عليه بطريق أنه يفيد الأمر بالقياس؟
قوله: يحتمل أن تكون العلة إسكار الخمر لا مطلق الإسكار.
قلنا: لا نسلم احتماله؛ وهذا لأنه لو احتمل ذلك لاحتمل مثله في العلل العقلية حتى يمكن أن يقال: النقل إنما يوجب الهوى لكونه في هذا المحل المخصوص فإذا لم يكن فيه لا يوجبه.
سلمنا احتماله في الجملة لكن العرف أسقط اعتباره؛ فإنه إذا قال الأب لابنه: لا تأكل الطعام لأنه مهلك، فهم منه المنع من تناول كل مهلك، ولو كان لخصوصية المحل مدخل لما فهم ذلك، وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت مثله في الشرع؛ إذ الأصل تطابق العرف والشرع، لقوله- عليه السلام:(ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن).
سلمنا أن العرف لم يسقطه بالكلية لكنه خلاف الغالب، وخلاف الأصل والظاهر فوجب عدم اعتباره إلحاقًا بالغالب والأصل والظاهر.
أما الأول، فلأن الغالب في العلل منصوصة كانت أو مستنبطة إنما هو التعدية بها دون الاقتصار على محالها بالاستقراء.
وأما الثاني، فلأن الأصل والظاهر في العلل أن تكون مناسبة للحكم؛ لأن العلة بمعنى الباعث والباعث هو المناسب، ولأن التعليل إنما هو لفائدة أن لا يكون الحكم متعبدًا به فيكون أدعى إلى القبول والعمل به، ولفائدة تعميم الحكم، وهاتان الفائدتان إنما تحصلان لو عدى بها الحكم [دون أن يقتصر بذلك المحل، وخصوصية الإسكار غير مناسب ولا يحصل بها تعميم الحكم] ضرورة أنها غير مشتركة بينها وبين غيرها فيكون التعليل بها على خلاف الظاهر والأصل.
سلمنا دلالة دليلكم، لكن فيما إذا قال: حرمت الخمر لكونها مسكرة، أما إذا قال: حرمت الخمر وعلة حرمة الخمر هي الإسكار، فإنا لا نسلم الدلالة فيه، وظاهر أنه لا يبقى فيه ذلك الاحتمال؛ إذ لا إضافة فيه الإسكار إلى الخمر.
سلمنا دلالة دليلكم مطلقا لكنه معارض بوجوه:
أحدها: أنه لو كان المراد منه خصوصية إسكار الخمر لم يكن في ذكر العلة فائدة؛ لأن كون الخمر مسكرة وصف لازم لها غير مفارق فكان يكفيه أن يقول: حرمت الخمر من غير تعرض لعلية.
وثانيها: أن اعتبار خصوصية المحل في العلية يقتضى امتناع القول بالقياس فكان باطلًا.
وثالثها: أن قول الشارع: حرمت الخمر لكونها مسكرة، أو ما يجرى مجراه يقتضى إضافة الحرمة إلى الإسكار، من حيث إنه رتب الحكم على الوصف وأنه مشعر بالعلية فوجب أن يترتب الحكم عليه أينما وجد.
ورابعها: أن التنبيه على العلة كما في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} يوجب إلحاق ما عداه من الأذى به فالتصريح بالعلة أولى بذلك.
واحتج أبو عبد الله البصري على ما ذهب إليه من التفصيل: بأن من ترك أكل رمانة لحموضتها فإنه يجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة.
وأما من أكل رمانة لحموضتها فإنه لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة.
الجواب
قوله: لم لا يجوز أن يقال: أنه منقول في عرف الاستعمال إلى تحريم كل مسكر.
قلنا: النقل خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه والأصل خلافه.
قوله: من حرم السم لكونه قاتلًا ثم أباح قاتلًا آخر يعد مناقضًا.
قلنا: لا نسلم.
سلمناه لكن بقرينة كون الحياة مطلوب البقاء، وكون الضرر مطلوبة الانتفاء ولا نسلم حصول مثل هذا المعنى في العلة الشرعية؛ وهذا فإن الشارع قد يحرم شيئًا ويبيح مثله، ويوجب شيئًا ويحرم مثله، كما سبق في شبه النظام، وذلك إما لأنه علم اختصاص أحد المثلين بمصلحة أو مفسدة ليس توجد في الآخر، أو لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
سلمنا انتفاء القرينة لكن ذلك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ ونحن في هذا المقام في دلالته من جهة اللفظ لا في دلالته من جهة المعنى.
قوله: لو نوى عتق جميع السودان عتقوا عليه على رأى.
قلنا: هذا المذهب باطل فلا يمكن التخريج عليه.
قوله: لم لا يجوز أن يقال: أنه يدل بطريق الالتزام؟
قلنا: قد ذكرنا أنه يحتمل أن تكون العلة إنما هي إسكار الخمر لا مطلق
الإسكار، ومن المعلوم أن تحريم كل مسكر غير لازم لهذا المعنى لا قطعًا ولا ظاهرًا، فلا يصح أن يدل عليه بطريق الالتزام حينئذ، نعم لو ثبت أن العلة إنما هي مطلق الإسكار لا إسكار الخمر بخصوصه يصح ذلك لكنه ممنوع.
قوله: لا نسلم احتماله.
قلنا: الدليل عليه: أنه لو صرح بإرادة هذا الاحتمال من ذلك اللفظ لم يخطئه العارف/ (149/ أ) باللسان، ولولا أنه محتمل للفظ لخطئ فيه.
قوله: لو احتمل ذلك في العلة الشرعية لاحتمل مثله في العلة العقلية كما في النقل.
قلنا: إن فسرت العلة العقلية بما يتأتى فيه هذا الاحتمال [فلا نسلم امتناعه فيه من حيث هو ذلك الاحتمال] ومن حيث هو ذلك التفسير.
وإن فسرت بما لا يتأتى فيه الاحتمال المذكور كما يقال في المثال المذكور:
النقل معنى يقتضي الهوى فإنه حينئذ يستحيل فرضه بدون الهوى ظهر الفرق.
قوله: العرف أسقط هذا الاحتمال.
قلنا: مطلقًا أم ما فيه القرينة كما فيما ذكرتم من المثال؟ والأول ممنوع، والثاني مسلم.
قوله: أنه خلاف الغالب والظاهر والأصل.
قلنا: مسلم لكن الإلحاق حينئذ بدليل وجوب التعبد بالقياس لا بالتنصيص، وذلك لأنه إنما يجب العمل بالغالب والظاهر والأصل لكون كل واحد منها مما يفيد الظن الغالب ويكون العمل به واجبًا.
وهذا الدليل بعينه يوجب العمل بالقياس فيكون التنصيص على العلة لا يقتضى الإلحاق إلا بالدليل على وجوب التعبد بالقياس وهو ما ادعيناه.
قوله: لا يتأتى ما ذكرتم من الاحتمال فيما رذا قال: علة حرمة الخمر الإسكار.
قلنا: نحن نسلم أن في هذه الصورة أينما حصل الإسكار حصلت الحرمة، لكن لا بطريق القياس بل بطريق الاستدلال من النص من حيث إنه جعل مطلق الإسكار علة تحريم الخمر وهو حاصل في كل مسكر، فيلزم ثبوت الحرمة في كل مسكر.
قوله: لو كان المراد منه خصوصية الإسكار لم يكن في ذكر العلة فائدة.
قلنا: لا نسلم بل فيه فائدة وهى ما تقدم من أنه يفيد زوال الحكم عند زوال العلة، فإن كان لخصوصية المحل مناسبة في موضع ما فيكون فيه فائدة أخرى وهى: كون الحكم معقول المعنى فيكون أدعى إلى القبول والعمل به.
قوله: إن اعتبار خصوصية المحل في العلية يوجب القول بامتناع القياس.
قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه حيث دل دليل على أنه لا اعتبار لخصوصية المحل يكون القياس جاريًا فيه.
قوله: رتب الحكم على الوصف وأنه مشعر بالعلية.
قلنا: مسلم لكن لا نسلم أنه رتب على مطلق الإسكار حتى يعم الحكم بعمومه بل هو عندنا مرتب على إسكار الخمر فلم قلتم أنه ليس كذلك؟
فإن قلت خصوصية المحل غير مناسب.
قلت: لا نسلم اشتراطه في إشعار العلية فيما نحن فيه.
سلمناه لكنه دليل خارجي غير التنصيص.
قوله: التنبيه على العلة يقتضى الإلحاق بالتصريح بذلك أولى.
قلنا: التعميم مستفاد بكون التنبيه وقع على العلة العامة فإن فرض أنه وقع التنبيه على العلة على وجه يحتمل أن تكون مخصوصة بمحل خاص فلا نسلم أن يقتضى الإلحاق إذ ذاك.
وعن وجه التفصيل بمنع قوله: أنه يجب عليه ترك أكل كل رمانة حامضة؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون الداعي إلى الترك حموضة تلك الرمانة لا مطلق الحموضة.
فإن قيل: الداعية إلى الفعل أو الترك لا يكون إلا لغرض ولا غرض في ترك أكل رمانة لحموضتها المخصوصة.
قلنا: لو سلم لكم ذلك فإنما يتأتى ذلك في حق من أفعاله معللة بتحصيل المصالح، ودفع المفاسد، فأما بالنسبة إلى أفعال الله سبحانه وتعالى فلا نسلم ذلك؛ فإن أفعاله تعالى عندنا غير معللة بالأغراض.
سلمناه لكنه لأمر آخر غير التنصيص، ولا نزاع فيه وإنما النزاع أن مجرد التنصيص هل يدل عليه أم لا؟
سلمنا المقدمة الأولى لكن لا نسلم الفرق بين الفعل والترك.
قوله: إن أكل رمانة حامضة فإنه لا يجب عليه أكل كل رمانة حامضة.
قلنا: لا نسلم ذلك لكن إنما لا يجب عليه ذلك؛ لأن شرائط العلة منقودة؛ وهذا فإن حموضتها وإن كانت علة أكلها لكن بشرط الاشتهاء الصادق، وخلو المعدة عن الرمان، وعلمه أو ظنه تضرره بأكلها وهذه الشرائط بأسرها غير حاصلة بالنسبة إلى أكل الرمانة الثانية فلذلك لم يجب أكلها.