المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة / (76/أ) الرابعةالقائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في ورود التعبد به - نهاية الوصول في دراية الأصول - جـ ٧

[الصفي الهندي]

فهرس الكتاب

- ‌النوع الثالث عشرالكلام في الأخبار

- ‌ المقدمة

- ‌المسألة الأولىفي حقيقة الخبر وحده

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثةذهب الجماهير إلى أن الخبر لا يخلو عن كونه صدقا، أو كذبا

- ‌الفصل الأول"في الخبر الذي يقطع بصدقه

- ‌القسم الأولفي التواتر

- ‌المسألة الأولىفي معنى التواتر لغة واصطلاحا:

- ‌المسألة الثانيةالأكثرون على أن الخبر المتواتر بفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية والبراهمة

- ‌المسألة الثالثةالقائلون بأن التواتر يفيد العلم، اختلفوا في أن ذلك العلم ضروري أو نظري [

- ‌المسألة الرابعةاستدل على أن خبر أهل التواتر صدق: بأن أهل التواتر إذا أخبروا عن شيء، فإما أن يكونوا قد أخبروا به مع علمهم بكونه صدقا، أو مع علمهم بكونه كذبا، أو لا مع علمهم بالصدق ولا بالكذب بل أخبروا به رجما بالغيب، والقسمان الأخيران باطلان فيتعين

- ‌المسألة الخامسةفي شروط الخبر المتواتر

- ‌المسألة السادسةقد ذكرنا أن من شروطه أن يكون المخبرون عددا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فهذا القدر متفق عليه، لكن اختلفوا بعد ذلك في أنه هل له عدد معين أم لا

- ‌المسألة السابعةلا يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد

- ‌المسألة الثامنةلا يشترط فيهم أن يكونوا مختلفي الأديان، والأنساب، والأوطان

- ‌المسألة التاسعةلا يشترط أن يكون فيهم معصوم خلافا للشيعة ولابن الراوندي

- ‌المسألة العاشرةلا يشترط في السامعين أن لا يكونوا على اعتقاد نفي موجب الخبر لشبهة، أو تقليد

- ‌المسألة الحادية عشرةفي أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالنسبة إلى سائر الأشخاص بإخبار عدد التواتر الذي حصل العلم بخبرهم عن واقعة بالنسبة إلى شخص أم لا

- ‌المسألة الثانية عشرةفي التواتر المعنوي

- ‌القسم الثاني من هذا الفصل

- ‌المسألة الأولىاختلفوا في أن القرائن إذا احتفت بخبر الواحد، هل تدل على صدقه أم لا

- ‌المسألة الثانيةإذا أخبر واحد بحضرة جماعة كثيرة عن شيء محسوس بحيث لا يخفى عن مثلهم، وسكتوا عن تكذيبه كان ذلك دليلا على صدقه عند قوم، وخالف فيه آخرون

- ‌المسألة الثالثةإذا أخبر واحد بين يدي الرسول عليه السلام، وسكت الرسول عليه السلام عن تكذيبه، وعلم عدم ذهوله عليه السلام عما يقوله فهل يدل ذلك على صدقه أو لا

- ‌المسألة الرابعةاجماع الأمة على موجب خبر لا يدل على القطع بصدقه

- ‌المسألة الخامسةقال بعض الشيعة:بقاء النقل، مع توافر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعا

- ‌المسألة السادسةاختلفوا في أن شطر الأمة إذا قبل الحديث وعمل بمقتضاه، أو احتج به في مسألة علمية، والشطر الآخر اشتغل بتأويله هل يدل ذلك على صحته على وجه القطع

- ‌الفصل / (69/أ) الثانيمن كتاب الأخبار

- ‌المسألة الأولىالخبر الذي يكون على خلاف ما علم وجوده بالضرورة

- ‌المسألة الثانيةالواحد إذا انفرد بنقل ما لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله؛ إما لتعلق الدين به: كأصول الشرع، أو لغرابته: كسقوط المؤذن من المنارة بمشهد الجمع العظيم والجم الغفير، أولهما جميعا: كالمعجزات، ولم ينقله الباقون فهو أيضا مما يقطع بكذبه عند الج

- ‌المسألة الثالثةالخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار، فلم يوجد بعد الفحص والتفتيش في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة ولا يعرفه أحد من النقلة بوجه من الوجوه: علم قطعا أنه كذب

- ‌المسألة الرابعةفي أن الأخبار المروية عنه عليه السلام بالآحاد قد وقع فيها ما يقطع بكذبه

- ‌الفصل الثالثفي الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد

- ‌القسم الأول

- ‌المسألة الأولىفي حقيقة خبر الواحد:

- ‌المسألة/ الثانية: (73/أ)خبر الواحد العدل المتجرد عن القرائن لا يفيد العلم عند جماهير العلماء خلافا لبعض أصحاب الحديث

- ‌المسألة الثالثةذهب الأكثرون في أنه يجوز ورود التعبد بخبر الواحد عقلا، خلافا لجماعة من المتكلمين

- ‌المسألة / (76/أ) الرابعةالقائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في ورود التعبد به

- ‌القسم الثانيفي شرائط وجوب العمل بخبر الواحد

- ‌الصنف الأول"في الشرائط المتفق عليها

- ‌المسألة الأولىيشترط أن يكون الراوي مكلفا

- ‌المسألة الثانيةإذا كان صبيا عند التحمل، بالغا عند الرواية، متصفا بالشرائط المعتبرة في غيره عند الرواية فإنها تقبل

- ‌المسألة الثالثةيشترط أن يكون الراوي مسلما، فمن لا يكون كذلك ولم يكن من أهل قبلتنا كأهل الكتاب وغيرهم فإنه لا تقبل روايته إجماعا

- ‌المسألة الرابعةيشترط أن يكون الراوي عدلا

- ‌المسألة الخامسةالفاسق الذي ترد روايته وفاقا إنما هو الفاسق الذي يعلم فسقه، فأما الذي لا يعلم فسقه: فإن كان فسقه مظنونا قبلت روايته

- ‌المسألة السادسةيشترط أن يكون الراوي ضابطا لما سمعه، فرواية المغفل الذي لا يضبط حالة السماع، والذي يضبط فيها لكن يغلب عليه السهو والنسيان بعدها، والذي يتساوى فيه احتمال الذكر والسهو والنسيان غير مقبولة

- ‌المسألة السابعةلا يقبل عندنا رواية من لم يعرف منه سوى الإسلام وعدم الفسق ظاهرا بل لا بد من خبرة باطنة بحاله، ومعرفة استقامة سيرته ودينه، أو تزكية من عرفت عدالته بالخبرة له

- ‌خاتمة لهذا الصنف

- ‌المسألة الأولى"اختلفوا في اعتبار العدد في المزكى والجارح على ثلاثة أقوال:

- ‌المسألة الثانيةاختلفوا في أنه هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل في قبولهما أم لا

- ‌المسألة الثالثةفي أن الجرح هل يقدم على التعديل أم لا

- ‌المسألة الرابعةفي مراتب التعديل

- ‌المسألة الخامسةترك الحكم بشهادته، وترك العمل بروايته ليس جرحا، أي: ليس دليلا على الفسق، وإن كان دليلا على عدم اعتبار شهادته وروايته

- ‌المسألة السادسةفي تعديل الصحابة

- ‌الصنف الثاني

- ‌المسألة الأولىمذهب الأكثرين أنه لا يشترط العدد في الراوي بل يقبل خبر الواحد العدل

- ‌المسألة الثانيةلا يشترط في الراوي أن يكون معروف النسب

- ‌المسألة الثالثةلا يشترط/ كون الراوي فقيها

- ‌المسألة الرابعةالراوي إذا عرف منه التساهل في حديث الرسول فلا خلاف في أنه لا تقبل روايته

- ‌المسألة الخامسةلا يشترط أن يكون عالما بالعربية، وبمعنى الخبر

- ‌المسألة السادسةليس من شرط الراوي أن يكون مكثرا لسماع الحديث، ومكثرا للرواية ومشهورا بمجالسة المحدثين ومخالطتهم

- ‌المسألة السابعةراوي الأصل إذا لم يقبل الحديث وأنكر الرواية [عنه] هل يقدح ذلك في رواية الفرع أم لا

- ‌القسم الثالث"فيما اختلف فيه في رد خبر الواحد

- ‌المسألة الأولىاعلم أن خبر الواحد إذا ورد مخالفا لدليل آخر، فإما أن يكون ذلك الدليل مقطوعا به، أو مظنونا

- ‌المسألة الثانيةإذا روي عن الرسول عليه السلام: أنه فعل فعلا يخالف موجب خبر الواحد:فإن لم يكن لفظ الخبر متناولا له عليه السلام، ولا قامت الدلالة على أن حكمه وحكمنا فيه سواء لم يكن بينهما تناف فلا يرد به الخبر

- ‌المسألة الثالثةعمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده

- ‌المسألة الرابعةإذا انفرد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة، هل يوجب ذلك رد الزيادة [أم لا]

- ‌المسألة الخامسةإذا وجد خبر الواحد مخصصا أو مقيدا لعموم الكتاب، أو السنة المتواترة أو إطلاقه، ولم يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه هل يقبل أم لا

- ‌المسألة السادسةالراوي إذا خالف ظاهر الحديث لم يقدح ذلك في وجوب الأخذ بظاهر الحديث عندنا وعند كثير من العلماء، وهو اختيار الكرخي

- ‌المسألة السابعةإذا اقتضى خبر الواحد علما، وكان في الأدلة القاطعة ما يدل عليه لم يرد بل يجب قبوله

- ‌المسألة الثامنةيجوز للراوي أن ينقل الخبر بالمعنى

- ‌المسألة التاسعةالراوي إذا أراد نقل بعض الخبر وترك البعض الآخر، هل يجوز له ذلك أم لا

- ‌المسألة العاشرةالمرسل هل هو مقبول أم لا

- ‌المسألة الحادية عشرةفي التدليس

- ‌القسم الرابع"في مسند الراوي وكيفية روايته

- ‌النوع الرابع عشرالكلام في القياس

- ‌ المقدمة

- ‌المسألة الأولىفي تحقيق معنى القياس بحسب اللغة، وبحسب الاصطلاح

- ‌المسألة الثانيةفي تعريف الأصل والفرع

- ‌المسألة الثالثةاعلم أنا إذا علمنا أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا، وعلمنا حصول ذلك الوصف مع جميع ما يعتبر في اقتضائه لذلك الحكم في صورة النزاع علمنا حصول مثل ذلك الحكم في صورة النزاع، فهذا النوع من القياس مما لا نزاع فيه بين العقلاء بل الكل أطبقوا

- ‌الباب الأولفي بيان أن القياس حجة في الشرعيات

- ‌المسألة الثانيةفي إثبات جواز التعبد به عقلً

- ‌المسألة الثالثةفي أنه لا يجب وقوع التعبد بالقياس عقلًا

- ‌المسالة الرابعةفي أن التعبد بالقياس واقع سمعًا

- ‌المسألة الرابعةالنص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس

- ‌المسألة الخامسةالمسكوت عنه قد يكون أولى بالحكم من المنصوص عليه

- ‌الباب الثانيفي الركن الأول من أركان القياس وهو الأصل

- ‌المسألة الأولىفي شرائط الأصل

- ‌المسألة الثانيةلا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه

- ‌المسألة الثالثةلا يشترط في الأصل أن يكون قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل

- ‌الباب الثالثفي الركن الثاني وهو الحكم

- ‌المسألة الأولىفي شرطه

- ‌المسألة الثانيةاختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس أم لا

- ‌المسألة الثالثةذهب أصحابنا إلى أن القياس يجري في أسباب الأحكام كما يجري في الأحكام خلافًا للحنفية

- ‌المسألة الرابعةذهب أصحابنا وأكثر الأثمة إلى: أنه يجوز إثبات الحدود/ (161/ أ) والكفارات، والرخص، والتقديرات بالأقيسة خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله تعالى

- ‌المسألة الخامسةذهب أصحابنا إلى أنه يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس خلافًا للحنفية والجبائي من المعتزلة

- ‌المسألة السادسةالأمور العادية والخلقية: كأقل الحيض وأكثره، وأقل مدة الحمل وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس

- ‌المسألة السابعةيجوز أن تثبت الأحكام الشرعية بأسرها بالنصوص

- ‌المسألة الثامنةقد عرفت مما سبق من أدلة القياس أن القياس مأمور به، فهو إذن إما واجب، أو مندوب

الفصل: ‌المسألة / (76/أ) الرابعةالقائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في ورود التعبد به

نبوته إذ خبر الواحد لا يفيد القطع فلا جرم لم يجز ورود التكليف به؛ لعدم تحقق شرطه إذ ذاك بخلاف الفرعيات، فإنه لا يعتب في الدال عليها القطع لا في متنه ولا في دلالته عندنا، فإن قال الخصم أيضا به ظهر الفرق إجماعا وإلا فيصلح دفعا لنا.

وسادسها: لو جاز ورود التعبد بمظنون كلام الرسول لجاز ورود التعبد بمظنون كلام الله تعالى والجامع دفع ضرر مظنون، وفيه تجويز إثبات كلام الله تعالى بنقل الآحاد وهو ممتنع.

وجوابه: لا نسلم امتناع ذلك؛ وهذا لأن لام الله تعالى من حيث هو كلامه يجوز أن يثبت بنقل الآحاد، وإنما يمتنع إثبات القرآن بنقل الآحاد لخصوص كونه معجزا، فإن المعجز يجب أن ينقل متواترا لا لعموم كونه كلام الله تعالى.

‌المسألة / (76/أ) الرابعة

القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في ورود التعبد به

.

فمنهم من قال: لم يرد التعبد به، لكن منهم من قال بذلك؛ لأنه لم يوجد في السمع ما يدل على ورود التعبد به فوجب نفيه؛ إذ لا يجوز إثبات الحكم الشرعي إلا بدليل شرعي، وليس هو من قبيل أن ما لا يوجد عليه دليل فإنه لا يجب نفيه، ومنهم من قال بذلك؛ لأنه وجد في السمع ما يدل على المنع من اتباعه، وهؤلاء قالوا بتحريم اتباعه كالقاشاني، وجماعة

ص: 2812

من القدرية وجماعة من أهل الظاهر.

ومنهم من قال بورود التعبد به، وهؤلاء اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه.

واختلفوا في أن الدليل العقلي هل دل عليه أم لا؟

فذهب الأكثرون منا، ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى نفيه، وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية.

وذهب الأقلون من الفريقين كابن سريج.

ص: 2813

والقفال منا وأبي الحسين البصري من المعتزلة إلى أن الدليل العقلي دل عليه أيضا، وهو قول الإمام احمد بن حنبل.

هذا كله في في أخبار الآحاد التي يثبت بها شرع عام، فأما ما ليس كذلك.

كالإخبار عن الأمور الدنيوية، نحو الإخبار عن الأرباح، والأغذية، والأدوية، وفي الفتوى والشهادات فاتفق الكل على جواز العمل بها فيها.

لنا: النص، والسنة المتواترة، والإجماع، والقياس، والمعقول.

أما النص فآيات:

ص: 2814

أحدها: قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعو إليهم لعلهم يحذرون} .

ووجه الاحتجاج بها: إنه تعالى أوجب الحذر على القوم بإنذار الطائفة لهم، والطائفة هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم، والإنذار هو: الإخبار المخوف، ومتى كان كذلك لزم أن يكون خبر الواحد حجة.

وإنما قلنا: أنه تعالى أوجب الحذر على القوم بإنذار الطائفة لهم لوجهين:

أحدهما: أن المفسرين أطبقوا على أن كلمة "لعل" من الله للتحقيق؛ لأن الترجي في حقه محال.

ثم إنه إن دخل على ما هو مضاف إلى الله تعالى حمل على التحقيق كما

ص: 2815

في قوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} .

وإن دخل على ما هو مضاف إلى المكلفين حمل على سبب التحقيق وهو الوجوب؛ ضرورة أنه لا يمكن حمله على نفس التحقيق، إذ قد لا يتحقق ذلك الشيء منهم، وذلك نحو قوله تعالى:{لعلهم يتقون} و {لعلكم بلقاء ربكم توقنون} .

وثانيهما: أن قوله: {لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} يدل على طلب الحذر؛ لأن كلمة "لعل" للترجي، وهي في حق الله تعالى محال، والطلب لازم له؛ لأن من ترجى شيئا طلبه لا محالة، وإذا تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على المجاز الملازم له، وذلك الطلب إما يكون بمعنى ميل النفس وهو في حقه محال، فيكون بمعنى الطلب الذي هو الاستدعاء، وهو إما مع المنع من تركه، أولا مع المنع منه، والثاني باطل؛ لأن أحدا من الأمة لم يذهب إليه؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة أن العمل بخبر الواحد مندوب، وليس بواجب بل القائل فيه قائلان: أحدهما بالوجوب، والآخر بعدم الجواز، وإذا بطل الثاني تعين الأول وهو المطلوب.

وإنما قلنا: أن الطائفة هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم لوجوه:

ص: 2816

أحدها: أن الله تعالى طلب أن ينفر [من] كل فرقة طائفة، والثلاثة فرقة لوجهين:

أحدهما: النقل عن أئمة اللغة، فإنهم قالوا: الفرقة: طائفة من الناس، ومعلوم أن الطائفة من الناس يصدق على الثلاثة.

وثانيهما: أن الفرقة من فرق أو من فرق كالقطعة من قطع أو من قطع والكسرة من كسر أو كسر فكل شيء حصلت الفرقة أو التفريق فيه كان فرقة كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه كان قطعة، وكل ما حصل الكسر أو التكسير فيه كان كسرة، مقتضى هذا أن يكون الواحد والاثنان فرقة؛ لأنه يمكن أن يحصل فيه الفرقة حين يكون مع الآخر، ترك مقتضى هذا في هذه الآية أو مطلقا إن ثبت عنهم أنهم لا يطلقون على الواحد والإثنين فرقة للضرورة، فوجب أن يبقى فيما عداه معمولا به على الأصل، والطائفة من الثلاثة إما واحد أو الإثنان، وقد سبق أن قول الواحد والإثنين لا يفيد العلم فثبت أن المراد من الطائفة هنا قول من لا يفيد قوله العلم.

وثانيها: أن الطائقة قد استعملت فيمن لا يفيد قولهم العلم كالثلاثة والأربعة، وفيمن يفيد قولهم العلم، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والتجوز، وهو إما أقل العدد، أو ما هو جزء منه.

وثالثها: أنه لو كان المراد من الطائفة في الآية: العدد الذي يفيد قولهم العلم لوجب على الفرقة التي هم عدد التواتر، أو أزيد منه أن يخرجوا بأسرهم، أو العدد الذي يفيد قولهم العلم، لكن ذلك باطل بالإجماع؛ فإن أحدا من الأمة لم يقل بوجوب خروج أهل القرية بأسرهم للتفقه إذا كان بدونهم لم يحصل عدد التواتر، ولا بوجوب خروج أهل التواتر من بلد كبير إذا كان يكفيهم أن يتفقه لهم واحد أو اثنان.

ص: 2817

وإنما قلنا: أن الإنذار هو الخبر المخوف فبالنقل والاستعمال، وكلاهما ظاهران.

وإنما قلنا: أنه متى كان كذل لزم أن يكون خبر الواحد حجة؛ لأنه إذا روى الراوي خبرا مخوفا مقرونا بالوعيد، إما على فعل الشيء أو على تركه. فإن لم يجب الحذر عنه كان ذلك مخالفة للآية.

وإن وجب لزم وجوب العمل بالخبر / (77/أ) في سائر الصور سواء كان مخوفا، أو لم يكن مخوفا؛ لئلا يلزم قول ثالث خلاف الإجماع، فإن الفرق بين الخبر المخوف، وبين الخبر الغير المخوف في وجوب العمل، وعدم وجود العمل قول لم يقل به أحد من الأمة، وإذا ثبت وجوب العمل بالخبر في سائر الصور لزم أن يكون خبر الواحد حجة؛ إذ لا نعني بكونه حجة سوى هذا.

ولا يحتاج في تقدير دلالة هذا المسلك على المطلوب إلى إثبات وجوب الإنذار على المتفقه كما زعمه بعضهم إذ ذكره وهو مشعر باعتقاده وجوب ذكره وإلا لكان مستدركا، فإن المطلوب حاصل على تقدير وجوب الحذر عند الإنذار سواء وجب الإنذار أو لم يجب.

فإن قلت: لا نسلم أن الآية تقتضي وجوب الحذر.

وأما قولكم: لما تعذر حمل قوله تعالى: {لعلهم يحذرون} على حقيقته حمل على التحقيق، أو على سبب التحقيق، أو على الطلب الملازم للترجي فمبني على عدم مجاز آخر أولى مما ذكرتم وهو ممنوع.

ص: 2818

سلمناه، لكن لا نسلم أن المراد من الطائفة هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم.

أما ما ذكرتم من الوجه الأول من الدلالة عليه فمبني على أن كل ثلاثة فرقة وهو ممنوع، وما ذكرتم من الدلالة عليه فالوجه الأول منه ليس فيه دلالة؛ وهذا لأنا لا نسلم أن الطائفة من الناس يصدق على الثلاثة، ولو سلمنا لكم ذلك لسلمنا لكم المطلوب من غير حاجة إلى الاستدلال بأن كل ثلاثة فرقة.

سلمناه لكن لعل مرادهم طائفة مخصوصة من الناس، ولا كل ما صدق عليه اسم الطائفة.

وأما الثاني، فمعارض بما يقال: أن الشافعية فرقة واحدة، والحنفية فرقة واحدة لا فرق، ولو كان كل ثلاثة فرقة لما صح هذا النفي والإثبات.

وأما الوجه الثاني فهو: أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل، لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الدليلين، فإن ما يدل على أن قول الواحد والإثنين لا يجوز العمل به، يدل على أن الطائفة ليست حقيقة في الواحد والإثنين.

وأما الثالث، فمعارض أيضا: بأنه لو كان كل ثلاثة فرقة لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد للتفقه وهو خلاف الإجماع.

سلمنا أن الطائفة [تصدق في أصل الوضع على] عدد لا يفيد قولهم العلم، لكن ليس هو المراد منها هنا؛ لأن قوله:{لينذروا} ضمير جمع وأقله ثلاثة، والطائفة من الفرقة واحد أو اثنان على ما ذكرتم، فيمتنع عود الضمير إليه فيجب حمله على مجموع الطوائف ولعلهم يبلغوا عدد التواتر.

سلمناه لكن ما المراد من الإنذار في الآية؟ مطلق الإنذار، أو الإنذار المرتب على التفقه.

ص: 2819

والأول ممنوع؛ وهذا فإن اللفظ وإن أن ظاهرا فيه من حيث الوضع لكن سياق الآية يدل على أن المراد منه الإنذار المرتب على التفقه؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، والإنذار المرتب على التفقه إنما هو الفتوى لا الرواية؛ لأن رواية غير الفقيه مقبولة بالاتفاق.

والثاني مسلم ونحن نحمله على الإنذار الحاصل من الفتوى، وقول الواحد فيه مقبول بالاتفاق فإن قلت: الحمل على الفتوى يوجب تخصيص القوم بالعوام؛ إذ ليس لغيرهم العمل بفتوى الغير، والتخصيص خلاف الأصل فلا يصار إليه من غير دليل.

قلت: الحمل على الرواية يوجب تخصيص القوم بالمجتهدين أيضا فلا يجوز لغيرهم العمل بالحديث المروي عنه عليه السلام فإن وظيفتهم التقليد فالتخصيص إن لزم فهو لازم على المذهبين، فلم قلتم أن تخصيصكم أولى وعليكم الترجيح؟ ثم أنه معنا؛ لأن التخصيص كلما كان أقل كان أولى وأوفق للأصل ولا شك أن المجتهد أقل من غيره، فإخراجه من إرادة اللفظ أولى من إخراج غيره.

سلمنا أن المراد منه مطلق الإنذار، لكن لا شك أن مطلق الإنذار قدر مشترك بين الإنذار بالفتوى، وبين الإنذار بالرواية بدليل صحة تقسيمه إليهما، ولأن من أتى بفعل محرم، فروى له إنسان خبرا بأن فاعله في النار فقد يقال أنذره؛ لأنه أتاه بخبر مخوف، والأمر بالماهية الكلية المشتركة بين جزئيات كثيرة ليس أمرا بتلك الجزئيات بأسرها، ولا بشيء من جزئياتها عينا بل هو أمر بإدخال الماهية في الوجود، ويكفي في ذلك الإتيان بجزئي واحد من جزئياتها؛ لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك في الوجود، والقدر المشترك حاصل في كل جزئي من جزئياته، فإذا أدخله في الوجود فقد حصل المطلوب ونحن إذا قلنا بكون الفتوى حجة كان ذلك كاف في العمل بمقتضى النص فلا يبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية.

سلمنا أن المراد من الإنذار: الرواية إما وحدها فقط، أو مع الفتوى لكن

ص: 2820

لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإنذار من فعل شيء، أو تركه بناء على ما علم فيه من المصلحة والمفسدة العقليتين، أو الشرعيتين بناء على دليل آخر لا على هذا الخبر؟

سلمنا امتناعه، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه رواية أخبار الأولين، وما فعل الله تعالى بالمكذبين لأنبيائهم، ولأهل المعاصي للاتعاظ بها على ما قال الله تعالى:{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} .

سلمنا أن المراد منه رواية الأخبار الشرعية، لكن لا نسلم أن وجوب الحذر بسبب رواية تلك الأخبار يوجب / (78/أ) العمل بها؛ وهذا لأنه لا يجوز أن يحذر عن ذلك الفعل إذ ذاك للاحتياط حتى إن كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى المفتي، وإن كان غيره نظر في سائر الأدلة فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك الفعل امتنع منه وإلا عاد إليه.

قلت: الجواب عن الأول: أما كون الآية تقتضي وجوب الحذر فلما سبق.

قوله: ذلك مبني على عدم مجاز آخر أولى منه وهو ممنوع.

قلنا: الأصل عدم مجاز آخر، ولو سلم أن هناك مجازا آخر لكن ما ذكرناه أولى؛ إذ الأصل عدم ملازم آخر له.

سلمنا أنها لا تقتضي وجوب الحذر، لكن لا يستراتب في أن قوله: {لعلهم

ص: 2821

يحذرون} يقتضي حسن الحذر، وذلك يقتضي جواز العمل بخبر الواحد، وإذا لزم ذلك لزم وجوب العمل به، لئلا يلزم قول ثالث خلاف الإجماع، فإن منهم من يقول بوجوب العمل به، ومنهم من يقول بعدم جواز العمل به، فأما الجواز بلا وجوب فقول لم يقل به أحد.

وأيضا: إن قوله: {لعلهم يحذرون} يقتضي إمكان تحقق الحذر.

والحذر هو: التوقي عن المضرة، والمضرة إما عاجلية، أو آجلية. وليس المراد من الحذر: الحضر عن المرة العاجلية، لأن الفعل الذي يمنع خبر الواحد عنه قد لا يكون مضرا في الدنيا، فيتعين أن يكون المراد منه الحذر عن المضرة الآجلية، وإلا لزم أن لا يكون الحذر ممكنا، لأنه يلزم من انتفاد تحقق المضرة: انتفاء تحقق الحذر، والمضرة الآجلية هي العقاب، وإذا كان الفعل بحال يحذر عنه، فلا بد وأن يكون بحال يترتب العقاب على فعله ولا نعني بقولنا:"خير الواحد حجة" إلا أن الفعل الذي يمنع عنه خبر الواحد يكون فعله سببا للعقاب في الآخرة.

وعن الثاني: أما المنع فمندفع لما تقدم من الدلالة.

قوله: الوجه الأول: منه مبني على أن كل ثلاثة فرقة.

قلنا: نعم.

قوله: الوجه الأول من وجهي الدلالة على أن كل ثلاثة فرقة ليس فيه دلالة، لأنا لا نسلم أن الطائقة من الناس تصدق على الثلاثة.

قلنا: الدليل عليه النقل والاستعمال: أما النقل فقال أئمة اللغة: "الطائفة من الشيء قطعة منه".

ص: 2822

ومعلوم أن الثلاثة بل الواحد قطعة من الناس.

وأما الاستعمال فقال الله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} .

قال ابن عباس رضي الله عنه "الواحد فما فوقه طائفة".

وهذا يصلح أن يكون دليلا ابتداء على أن الطائفة من الناس تصدق على ما دون عدد التواتر كصدقها على عدد التواتر من غير رد إلى بيان أن كل ثلاثة فرقة.

قوله: سلمناه لكن لعل مرادهم: طائفة مخصوصة من الناس، لا كل ما تصدق عليه الطائفة.

قلنا: الأصل في الإطلاق هو الحقيقة، والتخصيص والتقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه بمجرد الاحتمال.

قوله: الوجه الثاني معارض بما يقال: إن الشافعية الحنفية فرقة واحدة قلنا: ذاك باعتبار المذهب الذي به امتازوا عن غيرهم، كما ورد في الحديث "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" فجعل صاحب مذهب واحد فرقة واحدة باعتبار المذهب، وأما بحسب الأشخاص فهم فرق عديدة.

قوله على الوجه الثاني: أن المجاز وإن كان خلاف الأصل، لكنه يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، والجمع بين الدليلين مما يوجب المصير إليه.

قلنا سنجيب عما تزعمون دليلا على أن قول الواحد أو الإثنين غير مقبول فلا يتحقق الجمع بين الدليلين.

ص: 2823

قوله على الوجه الثالث: إنه معارض بما ذكرتم.

قلنا: ترك العمل به في حق ما ذكرتم من الحكم فيبقى معمولا به في الباقي.

فإن قلت: هذا يتأتى لنا أيضا بالنسبة إلى دلالتكم.

قلنا: لا نسلم، وهذا لأنه إنما يتأتى لكم هذا أن لو دللتم على أن الطائفة لا تصدق على ما دون عدد التواتر، وسلم لكم ذلك الدليل حتى يمكنكم أن تقولوا: ترك العمل بمقتضاه بالنسبة إلى هذا الحكم فوجب أن يبقى معمولا به في الباقي.

قوله: الطائقة وإن كان في أصل الوضع تصدق على ما دون عدد التواتر، لكن ليس ذاك هو المراد.

قلنا: الأصل إرادة الحقيقة، وهو ما صدق عليه الطائفة، والتخصيص بعدد التواتر بخلاف الأصل.

قوله: تعذر الحمل عليه، لأن قوله:{لينذروا} ضمير جمع.

قلنا: لا نسلم أن ذلك مما يوجب امتناع الحمل عليه؛ وهذا لأن الضمير في قوله: {لينذروا} إنما يرجع إلى مجموع الطوائف وإذا قوبل مجموع الطوائف بمجموع الأقوام يقتضي [مقابلة كل واحد من الطائفة لكل واحد من الأقوام، لأن مقابلة الجمع بالجمع] يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فكون مجموع الطوائف عدد التواتر لا يضرنا، لأن الطائفة المنذرة لقومها إنما هي الطائفة [التي خرج منها، وهي دون عدد التواتر لما سبق لا مجموع الطوائف] التي تبلغ عدد التواتر بدليل قوله: {لينذروا قومهم إذا رجعوا

ص: 2824

إليهم}، فإنه لا يقال حقيقة: فلان رجع إلى قومه إلا إذا كان فيهم أولا وهم منهم، فلا يكون مجموع الطوائف هو المنذر لكل قوم قوم من تلك الأقوام.

وعن الثالث: أن التفقه في الزمان الأول ليس إلا سماع القرآن والأخبار وروايتها، ولهذا كان أكثرهم حفظا أكثرهم فقها، ولأنه ليس في ذلك العصر فروع مدونة حتى يكون طلبها وتعلمها تفقها، بل ليس إلا نصوص الكتاب والسنة.

سلمنا أن التفقه ليس منحصرا فيه لكن لا شك أنه من التفقه. / (79/أ) سلمنا أنه ليس منه لكن الحمل على الفتوى متعذر للتخصيص المذكور.

قوله: التخصيص لازم على المذهبين.

قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن الخبر كما يروى للمجتهد، فقد يروى لغيره، وإن كان لا يجوز له العمل بمقتضاه، لكن ليست فائدة الرواية منحصرة في العمل حتى يلزم من امتناعه امتناع الرواية له، فإنه قد يروى له لينزجر عن الفعل في الحال، ويصير ذلك داعيا له إلى الرجوع إلى المفتي في ثاني الحال، ولتقوية ظنه بحقية ما أفتاه، ولكونه يروي لغيره وهذا الأخير وإن كان ليس فيه إنذار لكنه من جملة فوائد الرواية لغير المجتهد.

وعن الرابع من وجوه:

أحدها: أن الأمر إذا كان بالقدر المشترك، والقدر المشترك في كل واحد من الجزئيات الداخلة تحته حاصل على السواء كان الإتيان بكل واحد منها جائزا نظرا إلى ذلك الدليل، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح فيكون العمل بخبر الواحد جائزا، ومتى لزم ذلك لزم أن يجب العمل به عينا؛ ضرورة أنه لا قائل بالفصل كما تقدم.

ص: 2825

وثانيها: أن قبل ورود هذه الآية، إن كان الأمر بالفتوى واردا لم يجز حمل هذه الآية عليه؛ لأنه تكرار من غير فائدة. ولو جاز لفائدة التأكيد على بعد فإن تأكيد الخاص بالعام بعيد، لكن الحمل على غيره أولى؛ ضرورة أن الفائدة على هذا التقدير فائدة تأسيسية، وعلى التقدير الأول تأكيدية وإن لم يكن واردا وجب حمل الأمر على الصورتين، دفعا للإجمال وتكثيرا للفائدة.

وثالثها: أنه رتب وجوب الحذر أو حسنه أو تجويزه على مسمى الإنذار الذي هو قدر مشترك بين الفتوى والإخبار فوجب أن يكون علة له لما ستعرف، وإذا كان علة له وجب أن يثبت الحكم أينما ثبتت العلة، وبهذا خرج الجواب عن الخامس والسادس.

وعن السابع: أن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل إلا بعد أن يعلم جواز ذلك الفعل؛ إما بتطابق المسلمين على فعله، وإما بالاستغناء من جهة المفتي، وحينئذ لم يجب عليه الرجوع إلى المفتي ثانيا، وأما المجتهد فإنه لا يجب عليه التوقف عما يظنه جائزا بدليل حتى بالبراءة الأصلية عند سماع ما ليس بدليل بالإجماع، فلو وجب التوقف عند سماع خبر الواحد فإنما يكون لكونه دليلا وهو المطلوب.

وثانيها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} .

ووجه الاستدلال به من وجوه:

أحدها: أن كون خبر الواحد خبر واحد وصف لازم له لا يمكن انفكاكه عنه، فلو اقتضى ذلك أن لا يكون مقبولا لم يجز تعليل عدم قبوله بكون راويه فاسقا؛ لأن كون راويه فاسقا وصف غير لازم له بل عرضي مفارق،

ص: 2826

والوصف اللازم للشيء، إذا كان مستقلا باقتضاء الحكم له لم يجز تعليله بوصف عارض مفارق له شرعا، وعقلا، وعرفا:

أما الأول؛ فلأنه لما لم يثبت القرآن بنقل الآحاد لم يجز تعليل ذلك بكون ناقله فاسقا.

وأما الثاني، فلأنه لو علل به، فإما أن يعلل عين الحاصل باللام أو مثله، والأول تحصيل الحاصل، والثاني جمع بين المثلين.

وأما الثالث؛ فلأنه يقبح أن يقال في العرف: "الميت لا يكتب، لعدم الدواة والقرطاس عنده" لكنه معلل به للآية، فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية لا سيما إذا كان مناسبا، ولأنه لو لم يكن علة لعدم القبول بل إنما لم يقبل رواية غير الواحد لكان الحكم الثابت في رواية الفاسق كالحكم في رواية غيره فإن من لا يقبل رواية الواحد الفاسق، ورواية غيره مجزوم بالرد فرواية الفاسق أيضا كذلك. وذلك خلاف صريح قوله تعالى:{فتبينوا} فدل على أنه علة له.

وثانيها: أنا بينا أن مفهوم الشرط والصفة حجة، وذلك يدل على [أن] رواية العدل لا يجب فيها التبيين، ثم عدم التبيين إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله والأول باطل، وإلا لكان خبر العدل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهو خلاف الإجماع، وإذا بطل الأول تعين الثاني وهو المطلوب.

واعترض على هذا وعلى أكثر هذا النوع من الاستدلال: بأن دلالته ظنية، والمسألة علمية فلا يجوز الاستدلال عليها بما لا يفيد القطع.

وجوابه: أنه [إن] قيل: المسألة ظنية على ما هو رأي بعض الأصوليين في هذه المسألة وأمثالها فقد سقط هذا السؤال بالكلية.

ص: 2827

وإن قيل: بأنها علمية على ما هو رأي أكثر المتقدمين فجوابه: أن المطلوب إفادة القطع من مجموع الأدلة الظنية التي نذكرها، لا القطع بكل واحد منها ولا امتناع في ذلك.

واعترض عليه أيضا: بأن ما ذكرتم وإن دل على أن عدم القبول معلل يكون الراوي فاسقا لكن قوله تعالى: {أن تصيبوا قوما بجهالة} يدل على أنه معلل بعدم إفادته العلم؛ إذ الجهالة هنا عبارة عن عدم القطع بالشيء لا القطع بالشيء مع أنه ليس كذلك، فإن خبر الفاسق لا يفيد ذلك حتى يحسن أن يقال: أن تصيبوا قوما بجهالة، بل إنما يفيد النوع الأول، وخبر الواحد العدل يشاركه في ذلك فوجب أن لا يقبل.

وجوابه: أن الظن كثيرا ما يطلق على العلم، والعلم على الظن.

قال الله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} أي علموا.

وقال: {وظنوا أنه واقع بهم} {وظنوا أنهم أحيط بهم} .

وقال: {فإن علمتوهن مؤمنات} / (80/أ) أي ظننتموهن.

ص: 2828

فالجهالة والجهل يستعمل فيما يقابل هذين المعنيين.

فالمعنى من الجهالة هنا: ضد العلم الذي بمعنى الظن، فيكون عبارة عن عدم الظن، فالمعمل بخبر الفاسق عمل بجهالة؛ لأنه ليس فيه علم أي ظن.

أما العلم بخبر الواحد العدل ليس عملا بجهالة؛ ضرورة أنه يفيد الظن فليس فيه جهالة بمعنى عدم الظن.

وثالثها: وهو ما روي في نزول هذه الآية، وهو أن النبي عليه السلام بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا فرجع إليه، وأخبر أن الذين بعثه إليهم ارتدوا، وأرادوا قتله، فعزم عليه السلام على قتالهم وغزوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبره أنه ليس بعدل، فلو لم يجز العمل بناء على أخبار الآحاد لما جاز للنبي عليه السلام أن يعزم على قتالهم بناء على خبر.

وما يقال: بأنا لا نسلم أنه عليه السلام عزم على قتالهم، فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الولي إليهم، وأمره بالتثبت في أمرهم، فانطلق حتى آتاهم ليلا فبعث عيونه، فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام، وأنهم سمعوا أذانهم فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى منهم ما يعجبه، فرجع إلى النبي عليه السلام وأخبره بذلك فليس بقادح.

ص: 2829

يوضحه: بأنه ما بعثه إلا ليبني على أخباره ما ينبغي أن يعمل، وبإخباره وبإخبار من معه من الاثنين أو الثلاثة ليس يصير ذلك الخبر متواترا، فلو لم يجز العمل بناء على أخبار الآحاد لم يكن في بعثه فائدة، وبالجملة كون النبي عليه السلام يعمل في الغزوات والأسفار بناء على أخبار الآحاد كالمعلوم بالضرورة بعد استقراء سيره وأحوال أسفاره.

وبهذا يعرف اندفاع ما يقال عليه: أن بتقدير أن يصح ذلك فإنه من باب أخبار الآحاد، فإثبات حجبيته بناء عليه إثبات للشيء بنفسه.

وثالثها: قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية.

ووجه الاستدلال بها: أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى فيكون كتمان الهدى محرما، فيكون الإظهار واجبا، ولا شك أن ما سمعه الواحد من النبي عليه السلام من أحكام الدين من جملة الهدي فيكون إظهاره واجبا، وإنما يكون إظهاره واجبا أن لو وجب علينا قبوله، وإلا لم يكن في إظهاره فائدة؛ فإن وجوده كعدمه حينئذ فلا يجب.

فإن قيل: لعل المراد منه: التواعد للعدد الذين يفيد قولهم القطع، وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على المطلوب.

سلمناه لكن المراد منه: ما أنزل من البينات والهدي مما يتلى من كتاب دون ما يوحى إليه من غير المتلو؛ لأنه المتبادر إلى الفهم من قوله: {ما أنزلنا} وحينئذ لا يكون فيه دلالة على المطلوب.

ص: 2830

سلمنا أن المراد منه عموم ما أنزل إليه سواء كان متلوا أو لم يكن، لكن لا نسلم أنه يلزم من وجوب الإظهار وجوب القبول، ولا نسلم أنه لا فائدة سوى القبول بل إنما أوجب ذلك لكي يشتهر ويتواتر نقله فتقوم به الحجة فإنه لو لم يوجب إظهاره ربما يتوانى في فعله، فيؤدي إلى أن لا ينقل نقلا متواترا فتبطل حجيته، ثم الذي يدل على أنه لا يجب من وجوب الإظهار وجوب القبول، أنه يجب على الفاسق وجوب إظهار ما سمعه من الرسول ومن غيره، مع أنه لا يجب على السامع قبوله.

قلنا: الجواب عن الأول: أنه خلاف الأصل؛ لأنه تقييد بما لا إشعار للفظ به؛ فإن اللفظ ظاهر في التوعد للجمع، ولا إشعار له بعدد التواتر فيكون تقييده بعدد التواتر خلاف الأصل، وبه خرج الجواب عن الثاني، فإنه تخصيص وتقييد.

وأما قوله: لأنه وجد ما يوجب المصير إليه وهو التبادر فممنوع؛ وهذا لأنا وإن سلمنا أن الكتاب العزيز هو المتبادر من مطلق الإنزال والمنزل، لكن لا نسلم تبادره من قوله:{ما أنزلنا من البينات والهدى} ثم الذي يؤكد على أنه غير مختص بالكتاب العزيز، أن العلماء في كل الأعصار يستدلون بهذه الآية على حرمة كتمان العلم، ولو كان ذلك مختصا بالكتاب لما صح ذلك، ولأن حمل كلام الشارع على ما هو أعم أولى؛ لأنه أكثر فائدة.

وعن الثالث: أنه إن لم يكن فيه فائدة سوى وجوب القبول فقد حصل الغرض، وإن كان فيه فائدة أخرى فلا شك أن ما ذكرناه فائدة أيضا بل هو المقصود بالذات والاشتهار والتواتر بالغرض، وحينئذ نقول: إنه يجب حمله على الفوائد بأسرها دفعا للإجمال، وتكثيراً للفوائد.

ص: 2831

وأما قوله: يجب على الفاسق الإظهار مع أنه لا يجب القبول ففيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن كان عند غيره علم منه لم يجب أيضا الإظهار لأنه إذا لم تقم الحجة بقوله فلا فائدة في وجوب الإظهار عليه.

سلمناه: لكن ذلك لمانع من وجوب القبول، وتخلف الحكم عن المقتضى لمانع لا يقدح فيه.

وأما السنة المتواترة: فهي ما روي أنه عليه السلام كان يبعث رسله آحادا إلى البلاد والنواحي الشاسعة لتعليم الأحكام وتبليغ الأخبار، والناسخ والمنسوخ والمخصص والمخصوص، مثل ما بعث عليا ومعاذا، وعمر بن حزم إلى اليمن وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة، وعتاب بن أسيد إلى مكة، وكان يبعث سعاته في جباية الصدقات، وإعلام أرباب الأموال

ص: 2832

بما يجب عليهم من الزكاة، مع علمنا بأنهم كانوا مكلفين بالطاعة والانقياد / (81/أ) لقبول قول المبعوث إليهم آحادا والعمل بمقتضى قوله، ولو كان خبر الواحد غير مقبول لما بعث إليهم آحادا، ولما أوجب عليهم قبول قولهم، ولما بطل اللازم بطل الملزوم.

واعترض عليه: بأنا لا نسلم أنه كان يبعثهم لذلك، لكن للقضاء والفتوى، فأما لرواية الأخبار فممنوع، أو في غاية القلة، فلا تمس الحاجة إلى بعث من يروي الأخبار للاحتجاج والاستنباط، بخلاف العوام المحتاجين إلى الفتيا والقضاء فإنهم الجم الغفير، فكانت الحاجة ماسة إلى بعث المفتي والقاضي كيف وقد جاء ذلك مصرحا به في بعض الروايات كما في بعث علي ومعاذ إلى اليمن.

سلمناه، لكنه إنما كان يبعث لكي يتواتر ما بعث به ذلك الواحد بإبلاغه وإبلاغ الآخرين بعده واحدا بعد واحد، فإن بعث عدد التواتر دفعة واحدة متعذر، أو متعسر، وبعد تواتره يكونون مكلفين به فأما قبله فلا.

سلمنا دلالته على ما ذكرتم لكنه منقوض، بأنه عليه السلام كان يبعث رسله آحادا إلى الكفار أيضا، يدعوهم إلى الإيمان والإسلام، مثل ما روي أنه بعث إلى كسرى عبد الله بن حذاقة السهمي. والى الحبشة عمرو بن

ص: 2833

أمية الضمري، وغيرهما إلى الشام ومصر، ولا يمكن أن يكون ذلك ذلك لتعريف الأحكام والأخبار المتضمنة لفروع الإسلام والإيمان فقط؛ لأنه لا يمكنهم الإتيان بها إلا بعد الإتيان بالإيمان، فتكليفهم بها دون إتيان الإيمان والإسلام تكليف بالمحال، فيكون لأصول الدين كالتوحيد وإثبات النبوة، وقد أجمعنا على أن خبر الواحد غير مقبول في أصول الدين، فما هو جوابكم في هذه الصورة فهو جوابنا في المتنازع فيه.

ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن الإفتاء في الزمان الأول في الأغلب إنما هو برواية الأخبار، لاشتراكهم في العلم بما يتوقف عليه استبناط الأحكام من النصوص كالعلم باللغات، والنحو، والتصريف؛ ولهذا كانوا يسألون عند وقوع الواقعة من سمع منكم في هذه الواقعة من النبي عليه السلام شيئا، ويفزعون إلى رواية الخبر عند ذكر الحكم، ولو كان ذلك بطريق الإفتاء لما كان ذلك.

وعن الثاني: أنه لو كان كما ذكرتم لكان ينبغي أن ينكر عليهم عدم الامتثال ما لم يتواتر، لكن ذلك خلاف المعلوم منه عليه السلام ومن المبعوث.

وعن الثالث: أن دعوته المكلفين إلى التصديق بوجود الصانع ووحدانيته

ص: 2834

وتصديق نفسه، وقد انتشر وتواتر من الواردين على المبعوث إليهم، بحيث كلهم علموا أنه ظهر بالحجاز من يدعي الرسالة لنفسه، ويدعو إلى الاعتراف بوجود الصانع، ووحدانيته، وبالبعث والنشور وتصديق نفسه، فهذا القدر كان معلوما لهم، وما كان الغرض من بعض الرسول إليهم آحادا تبليغ هذا القدر، ولا إثبات ما أمكن إثباته من هذا بالنقل كالبعث والنشور بقوله، لأن المطلوب فيه القطع والعلم، وقول الواحد غير مفيد وفاقا. وإنما كان يبعث إليهم المنبه على الأدلة العقلية على المطالب التي يستفاد منها، ويطلب المصير منهم إلى ذلك، وإعلامهم بما يلحقهم من الخزي والنكال في الدنيا والآخرة على تقدير استمرارهم على الكفر، وإنكارهم لما جاء به، ثم ليعلمهم أحكام ما جاء به إن اعترفوا به وليكون على بصيرة من حالهم أنهم آمنوا، أو لم يؤمنوا، ولا يمكن هذا الجواب فيما بعث لتعليم الأحكام برواية الأخبار؛ إذ لا يمكن ادعاء التواتر فيها، وليس فيها أدلة عقلية لينبههم عليها.

وأما الإجماع: فهو أن أكثر الصحابة عملوا بخبر الواحد، ولم يصدر من الباقين في ذلك إنكار فكان إجماعا.

أما الأول: فيدل عليه ما نقل عنهم بروايات مختلفة في الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والإحصاء أنهم عملوا بخبر الواحد، وكانوا يفزعون إليه في الوقائع، ويتركون لأجله البراءة الأصلية، والقياس، ويرون العمل به، فمن ذلك:

ص: 2835

ما روي عن الصديق رضي الله عنه أنه احتج على الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير، ومنكم أمير بقوله: الأئمة من قريش مع أنه كان في واقعة عظيمة وربما يعتقد أنه لا يقبل في مثله إلا المتواتر أو المشهور، وهذه الرواية تكاد أن تكون متواترة.

ومنه ما روي أنهم رجعوا في دفنه عليه السلام إلى ما رواه الصديق عنه وهو قوله: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون".

ومنه ما روي عنه رضي الله عنه أنه رد فاطمة رضي الله عنها عما كان تطلب من الميراث، بما روي عن النبي عليه السلام أنه [قال: نحن] معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"، مع أنه مخصص لقوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} .

ومنه ما روي أنهم رجعوا في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها، ومقادير الديات إلى كتابه عليه السلام حتى روي أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية، ويفصل بينها، ويجعل في الإبهام خمسة عشر، وفي

ص: 2836

السبابة والوسطى عشرة عشرة، وفي البنصر تسعة، وفي الخنصر ستة، فلما / (8/أ) روي له في كتاب عمرو بن حزم "أن في كل إصبع عشرة" رجع عن رأيه.

ومنه ما روي: أن أبا بكر قبل خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في توريث الجدة السدس.

ص: 2837

وعنه أيضاً أنه قضى بقضية بين اثنين، فأخبره بلال: أنه عليه السلام قضى فيها بخلاف قضائه فنقضه.

ومنها: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما أدري ما الذي أصنع في أمر المجوس، فإنهم ما أهل الكتاب، ولا هم عبدة الأصنام والأوثان، حتى روى له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قضى فيه بغرة، فقال عمر رضي الله عنه:"لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره".

ص: 2838

وروي عنه رواية أخرى أنه قال: "لو لم نسمع هذا كدنا نقضي فيه برأينا".

وعنه أيضا: أنه كان يرى أن الدية للعاقلة، ولا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فأخبره الضحاك بن سفيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عن رأيه إليه.

وعنه أيضا: أنه ترك رأيه في بلاد الطاعون لخبر عبد الرحمن بن عوف.

ومنه ما روي عن عثمان وعلي أنهما عملا بخبر فريعة بنت مالك حين روت لهما.

ص: 2839

فقالت: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة، فقال عليه السلام:"امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك" ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء، فقالا: المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا، وتخرج نهارا إنه لم يكن لها من يقوم بأحوالها.

ومنه رجوع جماهير الصحابة إلى قول عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل التقاء الختانين.

ومنه رجوع ابن عباس عن قوله: إن الربا منحصر في النسيئة إلى خبر أبي سعيد الخدري حين عابه أسامة بن زيد.

ص: 2840

ومنه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى فيه بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه السلام عن المخابرة فانتهينا عنها.

ومنه ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله تعالى بما شاء أن ينفعني منه، فإذا حدثني غيره عنه حلفته فإذا حلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر فصدقته من غير حلف".

ومنه ما روي عنه رضي الله عنه: أنه قبل رواية المقداد في حكم المذي.

ص: 2841

ومنه ما روي: أنه عمل زيد بن ثابت بحديث امرأة من الأنصار أن النبي عليه السلام قال: "الحائض تنفر بلا وداع".

ومنه ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة،

ص: 2842

وأبا طلحة، وأبي بن كعب، شرابا إذ أتانا آت فقال: حرمت الخمر، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقتمت فكسرتها.

ومنه عمل أهل قباء في التحويل عن القبلة بخبر الواحد الذي قال لهم: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة.

ص: 2843

ومنه ما روي عن ابن عباس لما قيل له: "إن فلانا يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل أنه قال: "كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب فقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر" فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل، وسماه عدو الله، وفيه نظر، فإن المسألة علمية لا يقبل فيها خبر الواحد، فلعل ذلك لقرائن احتفت به.

ومنه ما روي عن أبي الدرداء أنه قال لمعاوية لما باع شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر من وزنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، فقال له معاوية: لا أرى به بأسا، فقال له الدرداء: من يعذرني بمعاوية أخبره عن الرسول عليه السلام، وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أبدا، فهذه الأخبار وأمثالها.

ص: 2844

مما لا تعد ولا تحصى تدل على أنهم عملوا بأخبار الآحاد، وكما أن الصحابة انقرضوا على ذلك، فكذا التابعون ومن بعدهم.

قال الشافعي رضي الله عنه: وجدنا علي بن الحسين يعول على أخبار الآحاد وكذلك محمد بن علي، وجبير بن مطعم، ونافع بن جبير، وخارجة بن زيد، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن

ص: 2845

يسار، وعطاء بن يسار، وكذلك كان حال طاوس، ومجاهد، وسعيد ابن المسيب، وفقهاء الأمصار في جميع الأعصار إلى زمان ظهور المخالف.

ص: 2846

وأما الثاني، وهو: أنه لم يصدر عن الباقين في ذلك إنكار، فلأنه لو صدر لنقل، ولو نقل لاشتهر وتواتر، فما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يصدر، وأما أنه حينئذ يكون إجماعا فلما تقدم.

فإن قيل: إن ادعيتم العلم الضروري بسبب هذه الروايات فممنوعة.

قال المرتضى: "إن الضرورة لا يختص بها البعض دون البعض، مع المشاركة في طريقها، والمخالفون نحو الإمامية، وشيوخ المعتزلة كالنظام وغيره، منكرون حصول هذا العلم الضروري مع اختلاطهم بأهل الأخبار، ومطالعة كتبهم، ويحلفون على ذلك، بل على عدم الظن بذلك أيضا، فإن كذبتموهم فعلتم ما لا يحسن وعورضتم بمثله، وإن ادعيتم العلم النظري، بالاستدلال بها، فلا نسلم أن الاستدلال بها يفيد ذلك، فإنكم ما بينتم وجه الاستدلال بها حتى / (83/أ) نعلم أنه هل تفيد ذلك أم لا؟

وإن ادعيتم الظن فهذا لو سلم يلزم منه الدور؛ لأن تلك الإخبارات حينئذ تكون أخبار آحاد، فالاستدلال بها على كون أخبار الآحاد حجة، يتوقف على كون أخبار الآحاد حجة، فلو أثبتت حجية أخبار الآحاد بها لزم الدور.

سلمناه، لكن لا نسلم أنهم عملوا بها وهي أخبار آحاد مفيدة للظن فلعلهم عملوا بغيرها من الأدلة نحو النصوص المتواترة، والأقيسة الموافقة لها، يذكرونها عند سماع تلك الإخبارات أو بها وهي متواترة عندهم، ثم فتر نقلها فصارت آحادا عندنا، أو وإن كانت آحادا لكنها كانت تفيد القطع بسبب القرائن المحتفة بها من الحالية، أو المقالية.

سلمناه لكن عمل بها بعضهم أو كلهم.

والأول مسلم، ولا حجة فيه، والثاني ممنوع ولا يمكن دعواه.

قوله: "عمل بها بعضهم وسكت الباقون عن الإنكار فكان حجة".

قلنا: لا نسلم سكوت الباقين عنه.

ص: 2847

قوله: لو وجد لنقل واشتهر.

قلنا: لا نسلم أنه أنه لم ينقل ولم يشتهر؛ وهذا لأنه نقل عن بعضهم رده: روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه رد خبر المغيرة في توريث الجدة حتى أخبره بذلك أيضا محمد بن مسلمة.

ورد هو وعمر رضي الله عنهما خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن العاص حتى طالباه بمن يشهد له به.

ص: 2848

ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان، وقال له: هات من يشهد لك به، وإلا أوجعت ظهرك حتى أتى بأبي سعيد الخدري وشهد له به.

ورد هو أيضا خبر فاطمة بنت قيس وقال: "لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت" وهذا الاحتمال يثبت في جميع أخبار الآحاد.

ورد على خبر أبي سنان الأشجعي في بروع بنت واشق وهي كانت

ص: 2849

مفوضة وهو أنه قضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر المثل حين مات عنها زوجها قبل الدخول وقبل المفرض.

وأيضا اشتهر منه أنه كان لا يقبل رواية أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر لما ثبت عنده من القرائن الحالية صدقه فيما يخبره لا لمجرد كونه واحدا عدلا، وإلا لقبل قول غيره من العدول كما قبل قوله، وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله.

ص: 2850

فهذا الرد منهم يدل على أنهم لم يروا العمل بخبر الواحد وإلا لما ردوه.

سلمنا أنهم سكتوا عن الإنكار، لكن لا نسلم أن السكوت يدل على الرضا وهذا لأن السكوت يحتمل وجوها أخر غير الرضا كما تقدم ذكره.

سلمنا أنه يدل على الرضا، وهو يدل على انعقاد الإجماع، لكن على النوع الذي قبلوه وعملوا به، أو على سائر أنواعه.

والأول مسلم، لكن لا يلزم منه حجية سائر أنواعه؛ لاحتمال أن يأمر الشارع بالعمل بذلك النوع دون سائر الأنواع، أو لأن اتفاقهم على قبوله يدل على صحته نفيا للخطأ عنهم، وهذا المعنى غير حاصل في سائر أنواعه فلم يلزم منه حجية سائر أنواعه.

والثاني ممنوع، ولا يمكن دعواه؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنهم لم يعلموا بجميع أنواع الخبر، وحينئذ نقول: ذلك النوع غير معلوم لنا بعينه، فإذن لا نوع من أنواع الخبر الواحد إلا ويحتمل أن يكون ذلك النوع، ويحتمل أن لا يكون وحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من أنواعه حجة لوقوع التردد في حجيته.

سلمنا أن النوع الذي عملوا به، وأجمعوا عليه معلوم لنا، لكن لا يلزم من جواز العمل لهم بذلك النوع، جواز العمل به لنا؛ وهذا لأنهم شاهدوا الرسول عليه السلام، وعرفوا مجاري كلماته، ومناهج رموزه وإشاراته، وعرفوا أحوال أولئك الرواة في العدالة وعدمها، وعرفوا قرائن صدقهم

ص: 2851

فيما رووه من الأخبار، وإذا كان كذلك كان عملهم بذلك الأخبار إما بناء على القطع بصدقهم وإما بناء على الظن الأقوى بصدقهم، وعلى التقديرين لا يلزم منه وجوب العمل به أو جوازه لنا.

لا يقال: من قال بحجية نوع منها في زمان ما قال بحجية كل أنواعه في كل الزمان، ومن لم يقل به لم يقل بذلك، فالقول بالفصل قول لم يقل به أحد.

لأنا نقول: لا نسلم أنه قول لم يقل به أحد، ومن أين لنا طريق إلى حصول العلم أو الظن به؟

وهذا لأن العلماء تفرقوا في مشارق الأرض ومغاربها، فمن أين يحصل العلم بأنه قول لم يقل به أحد؟ وإنما يمكن حصول العلم بمثل هذا في زمان الصحابة رضي الله عنهم، فأما بعدهم فلا.

سلمناه لكنه إجماع ظني، والمسلك على ما تزعمونه قطعي، فلا يجوز إثبات مقدماته به.

الجواب عن الأول: أنا ندعي العلم الضروري به؛ وهذا فإن من خالط أهل الأخبار، وطالع كتبها اضطر إلى العلم به، كما سمع الأخبار الواردة في شجاعة علي، وسخاوة حاتم، فإنه يضطر إلى العلم به، وإن كان كل واحد من تلك الأخبار أحادا لا تفيد القطع، إلا أن القدر المشترك بينها متواتر من جهة المعنى فكذا ها هنا، فإنا نسلم أن كل واحد مما رويناه وغيره من هذا الباب، وإن كان آحادا لكن القدر المشترك بينها متواتر من جهة المعنى.

قوله: "الضرورة لا يختص بها قوم دون قوم مع المشاركة في طريقها.

قلنا: نعم، لكن لا نسلم أن الخصوم بأسرهم أنكروا ذلك، فإن منهم من اعترف بذلك، لكن زعم أن الإجماع ليس بحجة كالنظام، [وأما] الإمامية فليسوا بأسرهم مخالفين في هذه المسألة، فإن أبا جعفر الطوسي من الأصوليين،

ص: 2852

وأتباعه / (84/أ) منهم وافقونا في ذلك، وأما الأخباريون منهم مع أن كثرة الشيعة منهم، يعولون في أصولهم على الأخبار المروية بالآحاد عن أئمتهم، فضلا عن الفروع، فلم يبق منكر لهذا العلم الضروري إلا شرذمة قليلة منهم نحو المرتضى وأتباعه، ولا يقدح في الضروريات إنكار الجمع القليل لها، كما في البديهيات والمحسوسات، فإن جحد المخالفين لا يقدح فيها.

سلمنا أنه ليس بضروري، لكنه استدلال قطعي، فإنا وإن لم نقطع بصدق كل واحد من هذه الأخبار، لكن نعلم قطعا أن كلها ليس بكذب، بل نقطع أن فيها ما هو صحيح، وأي واحد منها صح، ثبت جواز عمل بعضهم به، والتقدير حينئذ كما سبق على تقدير صحة الكل.

وعن الثاني: أن كون العمل إنما كان بتلك الأخبار لا بغيرها مصرح به في بعضها، كما في دية الجنين، فإنه قال:"لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره".

وكما في دية الأصابع فإنه نقل أنه ترك رأيه لما سمع ما في كتاب عمرو بن حزم، وكما في حديث المخابرة، وفي حديث التقاء الختانين، ومستدل عليه بأمر يختص في بعضها، كما في حديث المغيرة فإن أبا بكر رضي الله عنه طلب منه من يشهد له، ولو كان ذلك بناء على دليل يذكر إذ ذاك، لما كان لذلك الطلب معنى، وكما في حديث الاستئذان، وبأمر عام في كلها، وهو: أنه لو كان ذلك بناء على دليل آخر لوجب ظهور ذلك الدليل، فإن الدين والعادة يوجبان ذلك.

أما الدين: فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل عند سماع الخبر والعمل بموجبه يوهم إيهاما ظاهرا بل ظنا ظاهرا أنهم عملوا لأجله، كما هو في المقطوع، ولا شك أن ذلك غير جائز شرعا.

وأما العادة: فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس عليهم،

ص: 2853

لا سيما مدة طويلة، ثم زال عنهم ذلك اللبس لدليل يذكروه، أو لسماحة الخاطر برأي قادح فيه من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر به لا سيما عندما يكون عدم إظهاره موهما للباطل، ولا سيما من الجمع العظيم، والعلم به بعد الاستقراء ضروري، وأما كون العمل بها لقرائن احتفت بها، أو لكونها كانت متواترة عندهم والأصل ينفيه؛ إذ الأصل عدم القرينة، والأصل عدم التغيير.

وعن الثالث من وجهين:

أحدهما: أنا لا نسلم أن ذلك رد لخبر الواحد من حيث أنه خبر واحد، فإنهم وإن لم يقبلوا في بعض الصور خبر الواحد، لكنهم قبلوا خبر الاثنين، وقبلوا الخبر مع الحلف، وبهذا لا يخرج ذلك عن كونه خبر واحد بالتعريف الذي تقدم ذكره، وحيث لم يقبلوا أصلا كما في خبر فاطمة بنت قيس، وخبر أبي سنان الأشجعي، فإنما لم يقبلوه للتهمة.

وأما قوله: الاحتمال المذكور في رد خبر فاطمة بنت قيس قائم في كل خبر واحد.

قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن مثل هذا لا يستعمل إلا فيما لا يغلب ظن الصدق، وأما الذي يغلب ظن الصدق لا يقال فيه ذلك، ونحن إنما نجوز العمل به إذا كان ظن صدقه راجحا على كونه كذبا، أو نقول: إن ذلك لخصوص كونه مخصصا لكتاب الله، أو ناسخا له، لا لعموم كونه خبر واحد ولعل عمر رضي الله عنه لا يرى تخصيص كتاب الله بخبر الواحد، فأما النسخ به فغير جائز عند الأكثرين.

وثانيهما: أنا وإن سلمنا أنهم لم يعملوا به، لكن نقول: إن الذين نقلتم عنهم أنهم لم يعملوا به، هم الذين نقلنا عنهم أنهم عملوا به، فلا بد

ص: 2854

من التوفيق بين النقلين صونا للتناقض، وما ذاك إلا أن القبول والعمل به محمول على ما وجد شرائط القبول والعمل به، والرد محمول على ما إذا لم يوجد ذلك.

وعن الرابع ما تقدم في الإجماع.

وعن الخامس: أنه يدل على قبول خبر الواحد العدل، وليس هناك شيء يمكن ضبط النوع المقبول به نحو كونه واردا في العبادات، أو في المعاملات، أو في الجنايات أو غيرها؛ لأنه وجد في كل نوع منها، ولا يمكن ضبطه بأنه النوع الذي قبلوه وعملوا به؛ لأن ذلك وصف يحصل له بعد القبول، فلا يجوز أن يكون ذلك ضابطا للقبول؛ ضرورة أن ضابط القبول يجب أن يكون متقدما على القبول. ومن هذا يعرف فساد قوله: أو لأن اتفاقهم على القبول يدل على صحته نفيا للخطأ عنهم؛ لأن ذلك إنما يعرف بعد القبول فلا يجوز أن يكون ذلك علة القبول.

وعن السادس: هو ما سبق أنه لا قائل بالفصل.

قوله: لا سبيل إلى العلم أو الظن به.

قلنا: لا نسلم، وهذا لأن العلم به حاصل ظاهرا بعد استقراء الكتب المصنفة في هذا الباب، وعدم السماع من النقلة، فإنه لو قال به أحد لدونه في الكتب أو لتحدث به لتلامذته وأصحابه.

وعن السابع: أنا لا نقول: إن المسلك قطعي، وكيف نقول ذلك مع قولنا: إن الإجماع السكوتي حجة ظنية وهو أحد مقدماته؟

وأما القياس: فهو أن الخبر الواحد - الذي لا يقطع بصحته بل يغلب على الظن صدقه - مقبول في الفتوى والشهادات والأمور الدنيوية، كالأرباح والأغذية، والأدوية، فوجب أن يكون مقبولا في الروايات. والجامع / (85/أ) تحصيل

ص: 2855

المصلحة المظنونة، أو دفع المفسدة المظنونة، بل الرواية أولى بالقبول من الفتوى والشهادة.

أما من الفتوى: فلأن كل ما يفرض من الاحتمالات الموجبة لعدم قبول خبر الواحد نحو كذب الراوي عمدا أو خطأ، وغلطه وعدم ضبطه، فهو بعينه حاصل في المفتى مع احتمالات أخر موجبة لعدم قبول الفتوى، نحو احتمال جهله بالأمور التي يتوقف عليها معرفة كيفية الاستدلال، وغلطه في وجه الاستدلال، فإن العارف بشرائط الاجتهاد قد يعرض له الغلط، ولا شك أن احتمال الخطأ في الفتوى بسبب الأمور التي يمتاز بها عن الرواية أكثر؛ لأنها صعبة الحصول يغلط فيها الأكثرون، فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد مع تطرق الخطأ إليه من وجوه عديدة فبأن تكون الرواية مقبولة مع أن تطرق الخطأ إليها أقل أولى.

وأما من الشهادة؛ فلأن الشهادة لكونها تتضمن إثبات الحق على معين يحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية على تقدير القبول؛ لأن الاختلاف في الحكمة يدل على الاختلاف في الحكم، وذلك يدل على أن الشهادة أضيق بابا من الرواية، فإذا قبل فيها خبر من لا يفيد خبره العلم، فبأن يقبل في الرواية خبر من لا يفيد خبره العلم أولى وأحرى.

فإن قلت الفرق بين الفتوى والشهادة، ورواية الواحد من وجهين:

أحدهما: أن العمل بالفتوى والشهادة ضروري؛ لأنه لا يمكن تكليف كل واحد من المكلفين بتحصيل رتبة الاجتهاد؛ لأنه يؤدي إلى اختلال نظام العالم ولا طريق إلى تمييز المحق عن المبطل إلا بالشهادة؛ إذ التنصيص فيه من الشارع ممتنع، فيتعين أن يكون بالشهادة، ويتعذر أو يتعسر إشهاد الجمع الكثير الذين يفيد

ص: 2856

خبرهم العلم في كل واقعة، فيكون بالفتوى والشهادة المظنونة ضروريا.

وأما العمل بخبر الواحد فغير ضروري؛ لأنه إن وجد في الواقعة نص قاطع عمل به، وإلا رجع إلى البراءة الأصلية، ولا يلزم من جواز العمل بالظن الذي يحتمل الخطأ والغلط عند الضرورة أو الحاجة الماسة جواز العمل به عند عدمها.

وثانيهما: أن قبول خبر الواحد يقتضي ثبوت الحكم في حق عامة المكلفين وقبول الفتوى والشهادة ليس كذلك، بل يقتضي ثبوته في حق جزئي معين، ولا يلزم من جواز العمل بالظن فيما فيه المفسدة القليلة جواز العمل به فيما فيه المفسدة الكثيرة.

قلت: الجواب عن الأول: أنه لا ضرورة في الفتوى والشهادة أيضا لأنه إن وجد المفتون والشهود بحيث يفيد خبرهم العلم بفتواهم وشهادتهم، وإلا رجع إلى البراءة الأصلية، هذا ما قيل، وفيه نظر؛ لأن الرجوع إلى البراءة الأصلية إذ ذاك يقتضي إنسداد باب المعاملة، وعدم إثبات الحقوق، ضرورة أن شهادة الجمع الكثير الذي يفيد خبرهم العلم متعذر أو متعسر، وفيه اختلال نظام العالم.

وعن الثاني: أن الفتوى والشهادة وإن أثبت كل واحد منهما الحكم في جزئي معين، لكن الحكم بشرعيتهما في حق كل شخص يقتضي ضرورة ذلك أيضا شرعا عاما فلا فرق.

وأما المعقول فمن وجوه:

أحدها: أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون؛ لأن الراوي العدل إذا أخبر عن الرسول عليه السلام أنه أمر بهذا الفعل حصل ظن أنه وجد هذا الأمر، وعندنا مقدمة يقينية وهي: أن مخالفة أمر الرسول سبب

ص: 2857

لاستحقاق العقاب، فحينئذ يحصل من مجموع هاتين المقدمتين، ظن أنا لو تركنا الأمر الذي أخبر عنه العدل لصرنا مستحقين للعقاب، فوجب أن يجب العمل به؛ لأنه إذا حصل الظن الراجح، والتجويز المرجوح لم يجز العمل بالمرجوح؛ لأنه ترجيح للمرجوح على الراجح وهو باطل بضرورة العقل فيتعين العمل بالراجح؛ إذ القسمان الباقيان ممتنعان؛ لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما.

قلت: متى يجب ترجيح الظن الراجح على المرجوح، إذا لم يمكن تحصيل العلم به، أو مطلقا؟

والأول مسلم، لكن لا نسلم أنه لا يمكن تحصيل العلم بذلك الحكم المطنون الذي دل عليه خبر الواحد حتى يلزم العمل به؛ وهذا فإن الرجوع فيه إلى الكتاب، أو السنة المتواترة، أو القياس اليقيني أو البراءة الأصلية يفيد العلم به.

والثاني ممنوع؛ وهذا فإن تجويز العمل به إذ ذاك تجويز العمل بما لا يؤمن أن يكون خطأ مع إمكان الاحتراز عنه، والعقل يأباه، فإذا أبى العقل تجويز العمل به، فكيف ظنك بوجوب العمل به؟

سلمنا أنه لا يمكن تحصيل العلم بهن لكن متى يجب العمل به إذا لم يمكن تحصيل ظن أقوى منه أو مطلقا؟

والأول مسلم، فلم قلت: أنه لا يمكن تحصيل ظن أقوى منه مما تقدم من المدارك حتى يلزم العمل به؟

والثاني ممنوع؛ وهذا فإن الاكتفاء بالأدنى مع القدرة على الأعلى مما يأباه العقل أيضا.

سلمنا دليلكم لكنه منقوض بما أنه لا يجب على القاضي العمل بقول

ص: 2858

الشاهد الواحد إذا غلب على ظنه صدقه، وكذا بقول الشاهدين في الزنا إذا غلب على ظنه صدقهما، وبما إذا غلب على الظن صدق مدعي النبوة، وبما / (86/أ) إذا غلب على الظن صدق الشاهدين وهما فاسقان، والراوي الفاسق من غير توبة من الفسق، بل لا يجوز العمل به في هذه الصورة كلها، ومنقوض أيضا بما إذا غلب على ظن الدهري واليهودي والنصراني قبح هذه الأعمال الشرعية، فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصورة مع أنه لا يجوز العمل به.

فإن قلت: الظن إنما يعتبر حيث لم يقم الدليل على فساده، وفيما ذكرتم من الصور إنما لم يعتبر لقيام الدلالة على فساده فلا ينتقض ما ذكرنا.

قلت فعلى هذا التقدير لا يتم دليلكم إلا إذا بينتم أنه لا قاطع يدل على فساد الظن الحاصل من خبر الواحد، فيصير نفي ما يدل على فساده جزءا من المقتضى، أو شرطا لاعتباره، وعلى التقديرين يجب عليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على فساده وأنتم ما فعلتم ذلك، كيف وقد وجد من العمومات ما يدل على عدم اعتبار الظن مطلقا.

قلت: الجواب عن الأول: أنه يجب ترجيح الظن الراجح على المرجوح مطلقا؛ لأنه لو كان متوقفا عليه فقبله إلى أن يحصل مرتبة العلم إن لم يعمل به لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، أو ترجيح المرجوح على الراجح، وكل ذلك باطل، فما يفضى إليه أيضا كذلك، فالتوقف عليه باطل.

وأما قوله: تجويز العمل به إذ ذاك تجويز العمل بما لا يؤمن أن يكون خطأ

ص: 2859

مع إمكان الاحتراز عنه فممنوع أولا.

سلمناه لكن لا نسلم أن العقل مما يأباه؛ وهذا لأن العقلاء لا يزالون يقدمون على الاحتمالات الراجحة المفضية إلى المصالح مع إمكان أن لا يكون كذلك، ومع إمكان أن يبنوا الأمر فيه على اليقين. وبه خرج الجواب عن الثاني أيضا.

وعن الثالث: أن الأصل عدم ما يدل على فساده، وسنجيب عن العمومات الدالة على عدم اعتبار الظن، كيف وقد وجد ما يدل على اعتبار الظن الحاصل به وهو ما ذكرناه من الأدلة.

وثانيها: وهو ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وغيره وهو: أن العقلاء يعلمون وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات، بدليل أنهم يذمون المريض إذا ترك شرب الدواء المر الذي أخبر عنه الطبيب بأنه نافع له، وكذا يذمون المسافر إذا سلك طريقا أخبر الثقة بأنها مخوفة، وإن كانت في القرب والحسن خيرا من غيرها، ولا يعلمون وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ولا علة لوجوبه سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل فإنه قد علم من حيث الجملة وجوب التحرز من المضار، وحسن اجتلاب المنافع، فإذا أخبرهم الثقة بحصول المضرة في شيء فإنهم يرون وجوب الاحتراز عنه؛ لأنهم ظنوا تفصيل ما علموه جملة، وكذا لو أخبرهم بحصول النفع في شيء، فإنهم يرون حسن اجتلابه، ولا ذاك إلا بما ذكرناه بدليل الدوران؛ فإن الحكم المذكور دار معه وجودا وعدما أما وجودا ففي الصور التي ذكرناها، وأما عدما حيث لم يعلموا من حيث الجملة، أو لم يظنوا من حيث التفصيل، وهذا المعنى بعينه حاصل في خبر الواحد؛ لأنه قد علم من حيث الجملة أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب فإذا أخبر الثقة بأنه عليه السلام أمر بهذا الفعل، حصل ظن تفصيلي أن تركه سبب لاستحقاق العقاب فوجب أن يجب العمل به.

ص: 2860

وثالثها: طريقة الاحتياط، وتقريرها: أن صدق الراوي أغلب على الظن، فكان أقل احتمالا للخطأ فيجب المصير إليه، لقوله عليه السلام:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

ورابعها: أن صدق الراوي ظاهر، فكان الحكم به واجبا، لقوله عليه السلام:"أقضى بالظاهر".

وخامسها: أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب، وسنة متواترة وإجماع، وقياس قطعي ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت أكثر الوقائع عن الحكم الشرعي؛ ضرورة أنه لم يوجد في أكثر الوقائع الأدلة الشرعية القاطعة وهو ممتنع.

وسادسها: أنه عليه السلام كان مبعوثا إلى الخلائق كلها. فلو لم يقبل خبر الواحد لتعذر إبلاغ الشرائع إلى الخلائق بأسرهم؛ ضرورة أنه يتعذر أن يخاطب الجميع بالمشافهة، وأن يبعث إليهم عدد التواتر، ولما بطل اللازم بطل الملزوم.

ص: 2861

ولا يخفى عليك ضعف بعض هذه الوجوه، وما هو منها مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، وما هو غير مبني عليها، وبهذه الوجوه إنما يتمسك من يقول: إن الدليل العقلي دل أيضا على ورود التعبد بخبر الواحد دون من لم يقل به.

واحتج المنكرون لوقوعه بالكتاب، والسنة، والمعقول: -

أما الكتاب: فالآيات التي ذم فيها إتباع الظن وعدم العلم، وقد تقدم ذكرها وأجوبتها في المسألة المتقدمة.

وأما السنة: فما روي أنه عليه السلام توقف في خبر ذي اليدين إلى أن شهد له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وجوابه: أنه عليه السلام إنما توقف للتهمة، حيث انفرد بذلك مع حضور

ص: 2862

غيره؛ فإن ذلك مما يوهم الغلط والسهو، فلما انتفت هذه التهمة بشهادتهما له قبل، ولو كان ذلك لكونه خبر واحد لما قبل عند شهادتهما له أيضا؛ لأنه لم يخرج خبره عند انضمام أخبارهما إليه عن أن يكون خبر واحد.

وأما المعقول: فما تقدم من الوجوه العقلية في المسألة المتقدمة، وقد تقدم أجوبتها أيضا، والذي نزيده هنا وجهين:

أحدهما: أن البراءة الأصلية يقينية، وخبر الواحد ظني، وترك اليقيني بالظني ترجيح للمرجوح / (87/أ) على الراجح وهو ممتنع بالبديهة.

وجوابه: منع أن البراءة الأصلية يقينية بعد ورود التكاليف، بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل، فرفعها بخبر الواحد ليس رفعا لليقيني بالظني، بل رفعا للظني بالظني، وأنه غير ممتنع عقلا.

وثانيهما: أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد فلا يجوز ذلك للمجتهد؛ للآيات الدالة على ذم التقليد، وكما لا يجوز له تقليد مجتهد آخر.

وجوابه: منع أنه تقليد له؛ وهذا لأن قبول الخبر تقليد لصاحب الخبر لا للراوي.

سلمناه لكن لا نسلم أنه لا يجوز. أما الآيات فمحمولة على التقليد في الأصول دون الفروع. وأما الحكم في المقيس عليه فممنوع.

سلمناه لكن ذلك لتساويهما، وأما ما نحن فيه فليس كذلك، فإن المروي له ليس يساوي الراوي في العلم أو الظن بذلك الخبر.

ص: 2863