الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
ذهب أصحابنا وأكثر الأثمة إلى: أنه يجوز إثبات الحدود/ (161/ أ) والكفارات، والرخص، والتقديرات بالأقيسة خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله تعالى
-.
لنا: ما تقدم من أدلة القياس، فإنه يدل على جواز القياس في الأحكام الشرعية مطلقًا من غير فصل بين باب وباب، فالتخصيص بباب دون باب خلاف لإطلاق تلك الأدلة فكان باطلًا.
ويخص المسألة ما روى أن الصحابة اجتهدوا في حد شارب الخمر فقال على - رضى الله عنه -: "أراه ثمانين، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون" ولا شك في أنه قياس؛ إذ ليس هو من قبيل الاجتهاد في النص، والبراءة الأصلية، ولا هو إجماع فهو إذن قياس، ثم إن أحدًا منهم لم ينكر عليه في أنه كيف يثبت الحد بالقياس بل ارتضوه وعملوا به فكان ذلك إجماعًا منهم على جواز القياس في الحدود.
فإن قيل: تدعى أن تلك الأدلة تدل على جريان القياس في الأحكام الشرعية مطلقًا سواء وجدت أركان القياس وشرائطه أو لم توجد، أو تدعى أن دلالتها عليه إنما هي عند حصول الأركان والشرائط، والأول ظاهر ولا يقوله عاقل، والثاني مسلم، لكن لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه.
سلمناه لكن لا نسلم حصولها فيما نحن فيه؛ وهذا لأن الحدود والكفارات، والتقديرات أمور مقدرة لا يهتدى العقل إلى تعقل المعنى الموجب لتقديرها فلا تعقل فيها العلة، وحينئذ لا يمكن أن يجرى القياس فيها.
وأما الرخص فهي منح من الله تعالى فلا يتعدى بها عن مواردها، وحينئذ يمتنع أن يقاس عليها، ثم ما ذكرتم معارض بوجهين:
أحدهما: أن القياس لا يفيد القطع بل يفيد الظن، فيحتمل أن يكون الأمر على خلاف ما اقتضاه وذلك شبهة وهى مسقطة للحد بعد ثبوت سببه للحديث، والإجماع فكيف يجوز إثبات سببه بالشبهة؟
وثانيهما: أن مدار القياس على الجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، على ما تبين ذلك من قبل، وشرعية الكفارات والحدود على خلاف هذا، فإن القاف بالزنا يوجد الحد، والقذف بالكفر مع أنه أعظم جريمة من الزنا لا يوجبه، والسرقة توجب القطع، ومكاتبة الكفار بما يطلع على عورات المسلمين مع أنها أعظم جريمة من السرقة لا توجبه، والقتل يوجب الكفارة، والكفر مع أنه أعظم جريمة منه لا يوجبها، والظهار لكونه منكرًا من القول وزورًا يوجب الكفارة، والشهادة بالزور في حقوق الله تعالى او في حقوق العباد مع حصول ما ذكر من العلة فيها لا يوجبها فيمتنع جريان القياس فيها.
الجواب
عن الأول هو: أنا ندعى جريان القياس فيها عند حصول الأركان والشرائط.
قوله: إمكان حصول ذلك فيها ممنوع.
قلنا: الدليل عليه هو: أن صريح العقل حاكم بأنه لا متناع في أن يشرع الشارع الحد أو الكفارة في صورة لأمر مناسب، ثم أنه يوجد ذلك المناسب في صورة اخرى، فليس وضع الحد والكفارة منافيًا لهذا المعنى حتى يمتنع لأجله.
قوله: هب أنه ممكن لكنه غير حاصل.
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه حينئذ ارتفع النزاع الأصولي؛ فإنا لا نجوز القياس في شيء من الأحكام الشرعية بدون حصول الشرائط والأركان بل عند حصولهما، فإن جوزتم فيها القياس عند حصول شرائطه وأركانه فحينئذ حصل الوفاق، فإما ادعاؤكم بعد هذا أنه غير حاصل فيها، فذلك إنما ثبت بعد البحث والاستقراء أن عن كل واحدة من مسائلها، فإن وجدت العلة صح القياس فيها، وإلا فلا كغيرها من المسائل، فلا فرق حينئذ بين مسائل هذا الباب وبين غيره من هذا الوجه فيجب التسوية بينها وبين غيرها في جريان القياس.
وثانيهما: أن نبين [معنى] مناسب في الصور التي ورد النص فيها بوجوب الكفارة أو الحد ولا معنى لعلة الحكم إلا المعنى المخيل الذى يغلب
على الظن أنه ما شرع الحكم إلا لأجله، ثم نبين وجوده في صورة النزاع فيلزم ثبوت وجوب الكفارة أو الحد في صورة النزاع كما في سائر الأحكام.
مثاله: أن نقول: الحد إنما وجب في شرب الخمر لكونه مزيلًا للعقل الذى هو مناط التكليف، ووازع الإنسان عن فعل القبائح والمناهي والتسبب إلى إزالة هذا الأمر الشريف مناسب للزجر والمناسبة مع الاقتران يفيد ظن العلية، فيلزم أن يكون هذا هو العلة في وجوب الحد، ثم أن هذا المعنى حاصل في شرب النبيذ فوجب أن يجب فيه الحد أيضًا.
وعند هذا ظهر أن حصول أركان القياس وشرائطه في هذا الباب كما هو في سائر الأبواب فلا معنى للتفرقة بينهما ومنع حصولهما فيما نحن فيه.
قوله: الرخص منح من الله فلا يقاس عليها.
قلنا: شرعية الشرائع بأسرها منح من الله تعالى فكان ينبغي أن لا يجري القياس في شيء من أحكامها.
وعن المعارضة الأولى: النقض بخبر الواحد فإنه لا يفيد القطع ويحتمل أن يكون الأمر على خلافه مع أنه يجوز إثبات الحدود والكفارات/ (162/ 1) به عندكم أيضًا، والنقض بالقصاص أيضًا، فإنه يجوز إثباته بالقياس عندكم مع أنه يدرأ بالشبهات.
سلمنا سلامته عن النقض لكن وجوب العمل بالقياس لما كان معلومًا بالقاطع لم يحتمل أن يكون ذلك خطأ.
وعن الثانية ما تقدم في جواب شبهة النظام
ثم [أعلم] أن الشافعي- رضى الله عنه- ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال: "أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى تعدوها إلى الاستحسان، فإنهم زعموا في شهود الزوايا أن المشهود عليه يجب رجمه إن كان محصنًا وإلا فالجلد استحسانًا مع أنه خلاف العقل- فلأن يعمل بما يوافق العقل كان أولى.
واعلم ان هذا يصير نقضًا عليهم لو فسروا الاستحسان بالقياس أو يقولون أنه وإن كان مغايرًا له لكنه أضعف منه، فأما إذا لم يفسروا به ولا يثبتونه مدركًا أضعف من القياس فلا يتم.
وأما في " الكفارات" فقد قاسوا الإفطار بالأكل والشرب، على الإفطار بالوقاع، وقاسوا قتل الصيد ناسيًا على قتله عمدًا مع تقيد النص به في قوله تعالى:{ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم} وهذا نقض عليهم بحسب ما هو الواقع في نفس الأمر فإن الحق [أن] هذا النوع من الإلحاق أعنى به ما يكون بإلغاء الفارق قياس في نفس الأمر وإن لم
يعتقده القوم ذلك [ولا يسمونه به] بل يسمونه استدلالًا؛ لأنه لا معنى للقياس إلا إلحاق المسكوت بالمنطوق به لعلة شاملة لهما سواء علمت العلة أو ظنت بالمناسبة أو بالدوران أو إلغاء الغير بطريق السبر والتقسيم وليس لهم أن يقولوا: إن القياس فيما ذكرتم من الصورتين يقيني ونحن إنما نمنع من جريان القياس فيما نحن فيه، فأما اليقيني فإنه جار في جميع الأحكام؛ لأن من المعلوم أن القياس فيهما ليس يقينيًا، فإن لخصوصية كونه إفطارًا بالجماع، وكونه قتلًا متعمدًا مناسبة ظاهرة لإيجاب الكفارة والجزاء من حيث إن الامتناع عن الجماع عند هيجان شهوته أشق على النفس من الامتناع عن الأكل والشرب عند اشتهائهما، فربما لا تنزجر النفس عنه بمجرد وازع الدين فيحتاج معه إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل والشرب، فإنه لكون الاصطبار عنهما لا يشق على النفس تلك المشقة اكتفى فيهما بمجرد وازع الدين، ومن حيث إن الجناية مع التعمد أعظم جريمة من الجناية خطأ بدليل حصول الإثم في الأولى دون الثانية، فلا يلزم من وجوب البدل والجزاء في أعظم الجنايتين وجوبه في أصغرهما ومع ظهور هذا الفارق المناسب كيف يمكن ادعاء أن هذا القياس يقيني.
وأما المقدرات، فهو كتقدير النصاب والزكاة والمواقيت في الصلاة فقد قاسوا فيها أيضًا كما في تقديراتهم في "الدلو والبئر" فإن ذلك ليس عن
نص ولا إجماع ولا عن أثر فيكون عن قياس ولو صح في البعض منها أثر كما يزعمه القوم فلا شك في أن ذلك لم يصح في جميع مسائلها فيكون القول بذلك في البعض الآخر بالقياس.
وأما المعدول عن القياس، فقد قاسوا فيه أيضًا، فإن الوضوء بنبيذ التمر ورد على خلاف القياس، ولهذا لم يلحقوا نبيذ الزبيب به مع إيماء اللفظ إلى العلة الموجودة فيه وهو قوله عليه السلام:(ثمرة طيبة وماء طيب)
وقد ألحقوا به الغسل.
وكون القهقهة حدثًا في الصلاة أيضًا على خلاف قياس الأحداث ولهذا لم يقيسوا عليه صلاة الجنازة ثم أنهم ألحقوا النفل بالفرائض وليس ذلك إلا بطريق القياس.
وأما الرخص، فقد قاسوا فيها أيضًا، فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص، ثم أنهم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت، أو معتادة، وانتهوا فيها إلى نفى إيجاب استعمال الأحجار وجعلوه أصلًا لغير ذلك المحل حتى قالوا: يعفى بقدره من النجاسة في أي عضو كان.
وأما إثباتهم الرخصة في سفر المعصية، فليس ذلك من قبيل القياس حتى يرد عليهم أن يقال: أنهم قاسوا في الرخص وأثبتوا به الرخصة حيث يقتضى القياس نفيها؛ فإن القياس يقتضى أن لا يترخص العاصي بسفره من حيث إن
القصر والفطر في السفر إعانة، والمعصية لا تناسب الإعانة، بل هو من قبل الاستدلال بإطلاق النصوص المثبتة لتلك الرخص.