الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة
راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث وأنكر الرواية [عنه] هل يقدح ذلك في رواية الفرع أم لا
؟
اختلفوا فيه:
فذهب أكثر الحنفية نحو الكرخي وغيره إلى أن ذلك يقدح في رواية الفرع مطلقا، سواء كان الإنكار إنكارا على وجه الجحود والتكذيب، أو على وجه التوقف والنسيان.
ولأجل هذا لم يقبلوا حديث الزهري عن عروة عن عائشة وهو قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت نفسه بغير إذن وليها فنكاحها باطل".
لأن الزهري قال: لا أعرفه، وحديث القضاء بالشاهد واليمين، فإنه روى ذلك عن سهيل بن أبي صالح وهو أنكر ذلك أيضا فقال: لا أعرفه.
وذهب الشافعي ومالك وأكثر المتكلمين نحو القاضي أبو بكر وغيره إلى التفصيل وقالوا: إن كان الإنكار إنكار جحود وتكذيب لم يقبل، وإلا قبل وهو المختار، وهو رواية عن أحمد، وفي الرواية الأخرى عنه يوافق الحنفية.
فحصل الإجماع على عدم القبول إن كان راوي الأصل مكذبا للفرع جازما بغلطه في الرواية عنه، سواء كان الفرع جازما بالرواية عنه، أو لم يكن؛ وذلك لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، فلا بد وأن يكون أحدهما كاذبا إذ لا يمكن تصديقهما وذلك الواحد إما الأصل، أو الفرع، وعلى التقديرين يجب أن لا يقبل الحديث.
وأما إذا كان [ذلك] الواحد هو الأصل، فلأن المروي عنه ليس أهلا للرواية عنه، وأما إذا كان هو الراوي، فلأن الراوي ليس أهلا للرواية لكن لا يصير بذلك واحد منهما بعينه مجروحا، وإن كان لا بعينه يصير مجروحا كالبينتين المتكاذبتين، وكما إذا حلف شخصان وقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فامرأته طالق، وقال الآخر عكسه، وأبهم الأمر ولم يتبين فإنه يجوز لكل واحد منهما غشيان امرأته، وإن كنا نقطع أن واحدا منهما طلقت امرأته لا بعينه [فإن الثابت في الأصل لا يرتفع بالشك.
وأما الثاني فلأنا نقطع أن واحدا منهما كاذب، وفائدته تظهر في قبول روايته] كل واحد منهما / (98/أ) وشهادته إذا انفرد، وعدم قبول روايته وشهادته مهما اجتمعا ولو كان في غير ذلك الحديث.
وإنما الخلاف فيما إذا لم يكن راوي الأصل جازما بالتكذيب والغلط بل قال: لا أذكر أني حدثتك، أو أشك في ذلك، أو الأغلب على الظن أني ما حدثتك والفرع جازم بالرواية عنه، فأما إذا لم يكن الفرع جازما بالرواية عنه بل هو ظان به فإنه إذا لم يكن جازما به لم تقبل روايته وإن كان الشيخ مصدقا له؛ لفقد شرط الرواية، فإن من شرطها أن يكون الراوي جازما بها أو ظانا، وذلك بأن يقول: أظن أني سمعته منك، أو الأغلب على الظن أني سمعته منك، فإن كان راوي الأصل شاكا في ذلك بأن يقول: أشك في ذلك، أو أني لا أذكر ذلك فالأشبه أنه من جملة صور الخلاف.
وأما إذا كان هو أيضا ظانا بعدم الرواية عنه بأن يقول: أظن أني ما حدثتك بذلك، أو الأغلب على الظن أني ما حدثتك فالأشبه أنه من جملة صور الوفاق على عدم القبول.
والضابط فيه: أنه مهما يكون قول الأصل معادلا لقول الفرع فإنه من جملة صور الاتفاق، ومهما كان قول الفرع راجحا على قول الأصل فإنه من جملة صور الخلاف.
ثم الدليل على ما ذهب إليه الجماهير وجوه:
أحدها: الإجماع، فإن التابعين أجمعوا على قبول رواية الفرع مع
إنكار الأصل إنكار نسيان وتوقف؛ إذ روى أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد، ثم نسيه سهيل، فكان يقول إذا روى هذا الحديث: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وان هذا شائعا فيما بينهم، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا.
وفي هذا الإجماع نظر؛ من حيث أن ابا حنيفة رضي الله عنه مخالف في هذه المسألة، لأن تفاريعه تدل عليه ظاهرا، وهو تابعي فكيف ينعقد الإجماع مع مخالفته؟ اللهم إلا أن يثبتوا إجماع من قبله من التابعين فتكون حجيته وعدم حجيته [مخرجه على اشتراط انقراض العصر في الإجماع، وعدم اشتراطه] على أن إثباته كالمتعذر.
وثانيها: وهو المعتمد في ذلك: أن المقتضى لقبول قول راوي الفرع موجود، وهو عدالته، وكون قوله مظنون الصدق، والمعارض الموجود وهو عدم معرفة راوي الأصل لذلك، وعدم تذكره له لا يصلح معارضا له؛ لأنه يمكن أن سمعه منه لكن نسيه وشذ عنه، فإن النسيان غالب على الإنسان ومن الذي يذكر جميع ما ذكر للناس طول عمره، وإذا كان كذلك وجب المصير إلى قبول قوله عملا بالمقتضى.
وثالثها: أنكم إما أن تقولوا: إن تصديق الأصل شرط لقبول رواية الفرع، أو لا تقولوا بذلك.
فإن قلتم بذلك وجب أن لا تقبلوا الرواية عن الميت، والذي جن بعد أن روى الحديث؛ ضرورة أنه لم يوجد تصديقهما للفرع، لكنه باطل بالإجماع فالمستلزم له وهو اشتراطه أيضا كذلك، وإن لم تقولوا بذلك وجب أن تقبلوا رواية الفرع حيث يقول الأصل؛ لا أذكره ولا أعرفه؛ لأنه لم يخل ذلك إلا بتصديقه؛ إذ ليس في ذلك تكذيب له بدليل إمكان جمع التصديق والصدق معه، فإنه يصح منه أن يقول: ربما صدقت لكني لا أعرفه، أو لا أذكره، واستحالة اجتماع التصديق والصدق مع التكذيب.
واحتجوا بوجوه:
أحدها: بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الإبل فأجنبت فتمعكت في التراب، ثم سألت النبي - صلى الله عيه وسلم - فقال: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك" فلم يقبل عمر من عمار ما رواه مع أنه عدل عنده لما لم يتذكر ما ذكر إياه.
لا يقال: إن هذا ليس من قبيل ما نحن فيه، فإن عمارا لم يرو ذلك الخبر عن عمر رضي الله عنهما بل عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيه دلالة على صورة النزاع؛ لأنا نقول: هب أنه كذلك، لكنا نقول: إذا لم يقبل هذا مع أنه لم يحصل فيه إنكار الأصل، فلأن لا يقبل ما أنكره الأصل بطريق الأولى؛ لأن اهتمام المستمع بما استمع أكثر من السامع الذي هو ليس من عهده الحديث في شيء، فإذا لم يتذكر هو مع التذكير مع شدة اهتمامه به كان ذلك أدل على عدم صحة الحديث من عدم تذكر السامع له، فإذا لم يقبل في هذه الصورة مع أن دلالته على عدم الصحة أقل، فلأن لا يقبل فيما إذا أن دلالته على عدم الصحة أكثر بطريق الأولى.
وجوابه: أنه فرق بين أن لا يقبل الحديث أصلا، وبين أن لا يقبله من حصل له فيه شك وريب، ولعل عمر رضي الله عنه إنما لم يقبله؛ لأنه أن مشككا فيه من حيث إنه لم يتذكر مع التذكير ولا يلزم من عدم قبوله له لهذا الشك عدم قبول غيره له مع أنه لم يحصل له الشك، ونحن لا ننازعكم أن الشيخ إذا حصل له الشك في رواية الفرع من حيث إنه لم يتذكر مع التذكير لم يجز له الأخذ بروايته، وليس له العمل به، لكن لم قلتم: أن غيره لم يحصل له هذا الشك لم يجز له الأخذ به والعمل به فإن فيه النزاع.
وثانيها / (99/): أن الدليل ينفي جواز الأخذ بخبر الواحد كما تقدم غير مرة، ترك العمل به فيما إذا لو يوجد فيه إنكار الأصل؛ لأن الظن بصدقه هناك أقوى فيبقى فيما عداه على الأصل.
وجوابه ما تقدم.
وثالثها: قياس الرواية على الشهادة، فإن شاهد الأصل إذا أنكر شهادة الفرع عليه فقال: لا أذكرها ولا أعرفها فإنه لا يقبل وفاقا، فكذا في الرواية، والجامع بينهما: اختلال ظن الصدق الناشئ من تطرق التهمة إليهما بالإنكار.
وجوابه: الفرق، وهو أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية، بدليل أنه يعتبر فيها من الشروط ما لا يعتبر في الرواية، فلا يلزم من اعتبار ذلك القدر من التهمة فيها اعتباره في الرواية مع أن بابها أوسع منها.
ورابعها: أنه ليس للشيخ أن يعمل به، والراوي عنه فرعه فليس له أن يعمل به وإذا لم يعمل به الراوي لم يعمل به غيره بطريق الأولى.
وجوابه: أنا لا نسلم أن الشيخ ليس له أن يعمل به، فإنه إذا حصل له ظن صدق الفرع فله أن يعمل به؛ ولهذا كثير من المحدثين يروون عمن روى عنهم إذا نسوا وغلب على ظنهم صدقهم، نعم ليس له أن يعمل به إذا لم يحصل له الظن بصدقه كما تقدم، لكن لا يلزم من هذا أن لا يعمل الراوي به ولا غيره إذا لم يحصل له هذا الشك والريب الذي حصل له.
القسم الثالث
"فيما اختلف فيه في رد خبر الواحد"
وفيه مسائل: