الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى
في حقيقة الخبر وحده
الخبر حقيقة في القول المخصوص فقط عند نفاة الكلام النفساني.
وحقيقة فيهما بالاشتراك اللفظي عند الأكثرين من مثبتيه.
وحقيقة في الثاني فقط مجاز في الأول عند بعضهم كإمام الحرمين.
والكلام فيه نفيًا وإثباتًا على نهج ما تقدم من الكلام في الكلام فليقاس عليه.
واتفق الكل على أن إطلاقه على ما ينبئ عن شيء من الإشارات الآلية والقرائن الحالية، والدلائل المعنوية، كما في قول الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تخبر أن المانوية تكذب
وكما في قول الآخر:
تخبرني العينان ما القلب كاتم.
وكما في قولهم: "الغراب يخبر بكذا" مجاز، لأنه لا يفهم عند الإطلاق، بل إنما يفهم عند تقييد الاستعمال بها والقرائن، وهو دليل التجوز.
وأما حده: فاختلفوا فيه:
فزعم الإمام أنه غنى عن التحديد لضرورته.
واستدل على ضرورته بوجهين:
أحدهما: أم كل أحد يعلم - بالضرورة - معنى قول القائل: أنا موجود، أنا لست بمعدوم، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودًا ومعدومًا، ومطلق الخبر جزءٌ من الخبر الخاص، والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء، فلو كان تصور ما هية مطلق الخبر موقوفًا على الاكتساب، لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك، فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريًا، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه ضروري.
وثانيهما:/ (50/ أ): أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر، ولولا أن هذه الحقائق متصوة تصورًا ضروريًا، وإلا لم يكن الأمر كذلك.
ثم سأل نفسه وقال: "الخبر نوع من أنواع الألفاظ، وأنواع الألفاظ كيف
تكون ضرورية؟ لأنها تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، والضروري لا يكون كذلك".
أجاب عنه: بأنه إن عنى بالخبر: الحكم الذهني فلا استبعاد في ادعاء بداهته، [وهو ظاهر] فإن ذلك لا يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة والأشخاص.
وإن عنى به: اللفظ الدال على هذا المعنى فالإشكال زائل أيضًا، لأن هذا المعنى لما كان بدهىّ التصور كان مطلق اللفظ الدال عليه أيضًا بدهىّ التصور.
والدليلان ضعيفان، والسؤال قوي، والجواب ضغيف، أما الأول، فلأنا لا نسلم بداهته من حيث خصوص الخبرية، بل من حيث الحصول والانتفاء لا غير، ولا يلزم منه تصوره، فإنه لا يلزم من حصول أمر تصوره.
سلمناه لكن من حيث عموم يشبه الحصول والانتفاء، لا من حيث خصوص الخبرية وهو غيره، بدليل أنه يمكننا تعقله مع الذهول عن خصوص ماهية الخبرية.
ثم الذي يؤكد هذا: أن العقلاء اختلفوا في أن الوجود هل هو عين الماهية أم لا؟
فلو كان تعقل تلك القضية بديهيًا من حيث لوجب أن يعلم بالبديهة كونه غير الماهية، ضرورة أن تعقل الخبرية يتوقف على تعقل المخبر عنه، والمخبر به، والنسبة بينهما.
سلمنا ذلك لكن لا يلزم من بداهته من حيث خصوصية خبريته بداهة مطلق الخبرية، لأن أجزاء البديهية لا يجب أن تكون بدهية، لاحتمال أن تكون بداهة تلك بعد تعقل ذلك الجزء ولو بالكسب، وهو غير قادح في بداهتها كما تقدم في التصور.
وبهذا عرف ضعف الوجه الثاني؛ فإن ذلك التمييز الضروري إنما هو بعد معرفتهما لا مطلقًا، فلا يدل ذلك على أن معرفته بديهية، وإلا لزم أن تكون معرفة الأمر أيضًا بديهية، وهو خلاف الإجماع، فإن الإمام رحمه الله ساعدنا على أن الأمر يحد ولهذا حده هو أيضًا.
وأما قوة السؤال فلا يخفى.
وأما ضعف الجواب: فهو أنه إنما يستقيم أن لو علم بالبديهية أن لكل معنى، أو لكل معنى تمس الحاجة إلى التعبير عنه لفظ موضوع له دال عليه، ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن القسم الثاني لو صح أن يكون له لفظ دال عليه لا محالة فإنما يعلم صحته بالنظر لا بالبديهة.
ومنهم من زعم أنه وأن لم يكن ضروريًا لكنه لا يحد لعسره.
والأكثرون على أنه يحد، وهؤلاء اختلفوا في حده، وذكروا في حده عبارات:
الأولى: وهي التي ذكرها أكثر المعتزلة نحو الجبائيين، والقاضي عبد الجبار وأستاذه: الخبر هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب.
وقريب منه ما قيل فيه أيضًا هو: ما يدخله التصديق والتكذيب.
وأورد عليه من وجوه:
أحدها: وهو المنقدح جدا وهو: أن الصدق والكذب نوعا الخبر؛ لأن مطلق الخبر ينقسم إليهما فقط كما هو رأي الأكثرية، أو إليهما وإلى غيرهما كما هو رأي الجاحظ. وعلى التقديرين فهما نوعا الخبر فلا يمكن معرفتهما إلا بعد معرفة مطلق الخبر، ضرورة أنه لا يمكن معرفة النوع إلا بعد معرفة الجنس فلو عرف مطلق الخبر بهما لزم الدور.
وهو بعينه وارد على العبارة الثانية أيضا، ويختص بزائد؛ لأن التصديق والتكذيب عبارة: عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذبا، فقولنا: الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى قولنا: الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون ذلك تعريفا للخبر بالإخبار الذي لا يعرف إلا بعد موافقة الخبر وبالصدق والكذب.
وثانيهما: أنه مشعر بحصول الصدق والكذب معا في خبر واحد وهو محال.
وأجيب عنه: أن المراد من الواو: أو وهو التردد بين الأمرين، فاعترض عليه بأنه للإبهام، والحد للإيضاح، والجمع بينهما متناقض. وبأن خبر الله وخبر رسوله غير متردد بينهما بل هو متعين للصدق.
فأجيب عن الأول: بأن المراد منه: أن ما يدخله أحدهما فهو خير جزما، وهذا لا تردد فيه، وإنما التردد في إتصافه بأحدهما عينا، وهو غير مأخوذ في الحد، وإنما المأخوذ هو الاعتبار الأول، لا غير فلا منافاة بينهما.
وأجيب عن الثاني: أن عدم التردد وتعين الصدق لأمر خارج عن الخبرية ومتقضى وضعه، وإلا فهو من حيث الخبرية متردد بينهما؛ ولهذا فإن من لا يعرف ذلك الدليل الخارجي جوز تردده بينهما.
وثالثها: أن من قال: محمد ومسيلمة صادقان في ادعاء النبوة، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق، وإلا كان مسيلمة صادقا، وليس بكذب وإلا لكان محمد عليه السلام كاذبا.
ومثله قول من كذب في جميع أخباره: كل أخباري كذب، فإن هذا ليس بصدق، وإلا لكان هذا الخبر كذبا، ضرورة أنه من جملة أخباره، وحينئذ يلزم اجتماع الصدق والكذب في خبر واحد وهو محال وليس بكذب وإلا كان جميع أخباره وهذا الخبر كذبا، أما الأول للفرض، وأما الثاني فللتقدير وحينئذ يلزم أن يكون صادقا في هذا الخبر، لأن جميع أخباره حينئذ تكون كذبا.
وأجيب عن الأول: بأنه خبران في المعنى أحدهما صدق، والآخر كذب، وهو اختيار أبي هاشم.
وقال الجبائي: إنا وإن سلمنا أنه خبر واحد لكنه كذب، لأنه مثبت للصدق لهما / (51/أ) وهو كذب وهو منقدح جدا.
وعن الثاني: أنا لا نسلم أنه ليس بصدق بل هو صدق، وأما قوله: فيلزم أنه كذب، لأنه من جملة أخباره ممنوع، وهذا إنما يلزم ذلك أن لو كان هذا الخبر من جملة المخبر عنه بهذا الخبر وهو ممنوع، وهذا لأنه حينئذ يلزم اتحاد الخبر والمخبر عنه وهو محال، بل المخبر عنه بهذا الخبر كل ما عدا هذا الخبر من أخباره وهو كذب فيصدق هذا.
سلمنا لزوم اجتماع الصدق والكذب فيه لكن لا نسلم امتناعه، وهذا لأن اتصافه بالصدق والكذب حينئذ باعتبارين مختلفين، لأن صدقه من حيث إنه خبر، وكذبه من حيث إنه مخبر عنه ولا امتناع في عود الصدق والكذب إلى خبر واحد باعتبارين مختلفين.
سلمنا امتناع كونه صدقا فلم لا يجوز أن يكون كذبا؟.
قوله: يلزم أن يكون صدقا أيضا حينئذ. قلنا: نعم لكن باعتبارين مختلفين كما سبق.
العبارة الثانية، وهي ما ذكره بعضهم فرارا من بعض ما يرد على الأولى: الخبر ما دخله الصدق أو الكذب.
وقريب منه ما يقال: ما دخله التصديق أو التكذيب.
ولا يخفى عليك ما يرد عليه ويندفع عنه مما سبق من الإشكالات.
العبارة الثالثة: وهي ما ذكره أبو الحسين البصري: "أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور، إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتا".
واحترز بقوله: "بنفسه" عن الأمر، فإنه وإن أفاد وجوب الفعل لكن لا بنفسه، بل بواسطة استدعاء الأمر الفعل، لأن ماهية الأمر: استدعاء الفعل لا غير والصيغة لا تدل إلا على هذا القدر. ثم إنها تفيد وجوب الفعل بواسطة ذلك الاستدعاء تحصيلا لمقصود الحكم كما سبق تقريره في بعض مسالك أن الأمر للوجوب، وكذا القول في دلالة النهي على قبح المنهي عنه.
ويمكن أن يقال: إنه احترز بقوله "بنفسه" عن مثل قائم؛ فإنه وإن أفاد نسبة أمر إلى أمر لكن لا بنفسه بل بواسطة الموضوع له، ولا يدفع هذا بأنه خرج بقوله "كلام" ضرورة أنه ليس بكلام فلا حاجة إلى قيد آخر يخرجه، لأن مثل هذه الكلمة عنده كلام فلا يخرج به.
واعترض عليه بوجوه:
أحدها: بالنسبة التقييدية نحو قولك: "الحيوان الناطق" حين لم يجعل الناطق خبرا، فإنه يفيد نسبة أمر إلى أمر مع أنه ليس بخبر، وإن أريد به أنه بحث يحسن معه السكوت، فهو إضمار في الحد وهو غير جائز، وإن صرح به كان الحد صحيحا، والإشكال مندفع.
وثانيها: أنه غير جامع، لأن قولك "السواد. موجود" خبر مع أنه ليس فيه نسبة أمر إلى أمر آخى، إذ الوجود عند أبي الحسين عين الماهية.
لا يقال: إنه لم يقل "نسبة أمر إلى أمر آخر" حتى يرد ذلك بل قال "نسبة أمر إلى أمر"، وأنه أعم مما ذكرتم، لانقسامه إليه، والى نسبة أمر إلى أمر وهو نفسه، لأن نسبة الشيء إلى نفسه غير معقولة فهي تدل على المغايرة لا محالة، وهذا الإشكال مختص بأبي الحسين غير داخل على من لم يقل إن الوجود عين الماهية.
ويمكن أن يجاب عنه على رأيه: بأن النسبة وإن دلت على المغايرة، لكنها حاصلة هنا، فإن التغاير اللفظي حاصل فيما أورده من الإشكال، ومطلق التغاير أعم من التغاير في اللفظ أو في المعنى.
وثالثها: أن قوله: "نفيا أو إثباتا" يقتضي الدور، لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشيء، والإثبات هو الإخبار عن وجوده، فتتوقف معرفتها على معرفة الإخبار المتوقف على معرفة الخبر فتعريف الخبر بهما دور.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن قوله: "نفيا أو إثباتا"، يقتضي تحقق إضافة أمر إلى أمر أو نفيها لا الإخبار عن ثبوتها، أو نفيها، وحينئذ يندفع الدور المذكور، فإن ذلك إنما يلزم أن توقف معرفة النفي أو الإثبات على معرفة الإخبار، وأما إذا لم تتوقف عليه، وفرق بين معرفة الإخبار عن عدم الشيء، وبين معرفة عدم الشيء والدور إنما يلزم أن لو توقف معرفة النفي مثلا على الأول فأما إذا توقف على الثاني فقط فلا.
والأولى في ذلك أن يقال: الخبر هو الكلام الذي يفيد نسبة معلوم إلى معلوم آخر محكوم عليه نفيا أو إثباتا مع قصد المتكلم الدلالة عليها.
والمراد من الكلام: ما هو المعنى منه عند النحاة دون الأصوليين.
وإنما قلنا: "نسبة معلوم إلى معلوم"، ليتناول النسب التي بين الموجودات والمعدومات.
وإنما وصفنا المعلوم الثاني بآخر، تحقيقا لمعنى النسبة، فإن النسبة لا تعقل إلا بين اثنين.
وإنما قلنا: "محكوم عليه" احترازا عن مثل قم، فإنه وإن أفاد نسبة معلوم إلى معلوم آخر لكنه لم يفد تحققها بالنسبة إلى محكوم آخر.