الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
يشترط أن يكون الراوي مسلما، فمن لا يكون كذلك ولم يكن من أهل قبلتنا كأهل الكتاب وغيرهم فإنه لا تقبل روايته إجماعا
، سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب، أو لم يعلم، وسواء علم أنه عدل في دينه، أو لم يعلم؛ لأن قبول الرواية منصب شريف، وتكرمة عظيمة، والكافر ليس أهلا لذلك.
ومنهم من تمسك بقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق} الآية، والفاسق هو المقدم على الكبيرة، والكفر أعظم الكبائر، فوجب أن لا يقبل.
ومنهم من قاس على المسلم الفاسق وقال: إذا لم تقبل رواية المسلم الفاسق فرواية الكافر أولى، وهما ضعيفان.
أما الأول، فلأن الفاسق - في عرف الشرع - مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة.
وأما الثاني، فلأن رواية الفاسق إنما لم تقبل؛ لأن إقدامه على الفسق مع اعتقاد تحريمه يدل على جرأته على فعل المحرمات، وهو يبطل الثقة به، وهو غير حاصل في حق الكافر الذي هو عدل في دينه.
ولا يجاب عنه: بأنه لما ظهر تحريمه على وجه القطع بحيث لم يبق فيه ريب وشك جعل ذلك كاعتقاده للتحريم؛ لأن ذلك إنما يؤثر في مؤاخذته وعدم اعتبار جهله، لا أنه كاعتقاد التحريم في إبطال الثقة به.
وأما الذي لا يكون مسلما لكنه من أهل القبلة كالمجسم وغيره إذا كفرناه.
فإن علم من مذهبه جواز الكذب لنصرة مذهبه أو لغيره لم تقبل روايته أيضا وفاقا، وإن لم يعلم ذلك بل علم أنه يحترز عن الكذب وغيره من المعاصي التي تقدح في الرواية كاحتراز العدل من المسلمين عنه فهل تقبل روايته أم لا؟
اختلفوا فيه:
الأكثرون على أنه لا تقبل، وهو اختيار القاضي أبي بكر، والغزالي والقاضي عبد الجبار.
وذهب الأقلون إلى أنه تقبل، وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية وهذا الكافر فاسق؛ لأن الكفر أعظم مراتب الفسق فوجب أن لا يقبل.
وأجيب بما تقدم.
ولا يحسن ممن يعلل رد خبر الفاسق؛ لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها أن يعول على الآية [في] رد خبر الكافر الذي هو من أهل القبلة مع أنه لا يعتقد تحريم ما اعتقده بل يعتقد حقيقته.
ومن منع تخصيص الفاسق بالمسلم المقدم على الكبيرة وجب أن يقول بحجية الآية على رد خبر الكافر، سواء كان من أهل القبلة، أو لم يكن.
فأما أن يرى حجيته في الكافر من أهل القبلة دون الكافر الذي هو ليس من أهل القبلة فلا يعقل له وجه.
وثانيها: الإجماع، فإن المسلمين أجمعوا على عدم قبول رواية الكافر.
وأجيب: بمنعه مطلقا، بل هو في رواية الكافر الذي ليس هو من أهل القبلة.
[وثالثها: القياس على الكافر الذي ليس من أهل القبلة].
والجامع: أنه إنما لم يقبل ثمة؛ لأن قبول روايته تنفيذ لقوله على كل المسلمين، وهو منصب شريف، والكفر يقتضي الإذلال والإنكال، وبينهما منافاة.
وهذا المعنى بعينه حاصل فيما نحن فيه، فوجب أن لا يقبل غاية ما في الباب أن هذا الكافر جاهل بكفره، لكن هذا لا يقتضي رجحان الأصل على الفرع حتى يصلح أن يكون فارقا، بل لو صح فإنما يصلح لأن يكون الفرع راجحا على الأصل، فإنه ضم جهلا آخر إلى كفره فهو أولى بأن يسلب منه هذا المنصب الشريف.
وأجيب بأن كفر الخارج عن الملة أغلظ وأشد من كفر المنتمي إليه، لكثرة مخالفته لقواعد الإسلام أصولا وفروعا، فإنه منكر لنبوة نبينا والقرآن، وما ينبني عليهما من الأصول والفروع، وقد يكون منكرا للصانع بخلاف الكافر المنتمي إلى الملة فإنه لا ينكر وجود الصانع، ويصدق بالنبوة والقرآن، ويزعم أن ما اعتقده هو الدين الذي جاء به عليه السلام، وإذا كان ذلك الكفر أغلظ وأشد كان أولى بالإذلال والإهانة، فلا يصح إلحاق غيره به مع ظهور الفارق المناسب.
واحتج الأقلون بوجهين:
أحدهما: أن المقتضى لقبول قوله قائم، وهو ظن صدقه؛ لأن اعتقاده لحرمة الكذي يزجره عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه، والمعارض المتفق عليه وهو كفر الكافر الذي ليس هو من أهل القبلة غير حاصل والأصل عدم معارض آخر فوجب قبول قوله.
وأجيب: بمنع وجود المقتضى؛ وهذا لأن المقتضى عندنا هو ظن الصدق مع الإسلام وهو منتف.
وثانيهما: وهو ما تمسك به أبو الحسين [وهو]: أن كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار أسلافنا: كالحسن، وقتادة.
وعمرو بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم وتكفير الصائر إليه.
وأجيب: أنه لا يلزم من قبول بعضهم أن يكون مقبولا، فلعلهم يرون / (89/أ) قبول رواية المنتمي إلى الملة، ومذهبهم ليس بحجة على خصومهم.
سلمنا حصول الإجماع على قبول روايتهم، لكن لا نسلم حصول الإجماع على كفرهم؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون الذين قبلوا روايتهم وإن حكموا بكفرهم لكن يرون قبول رواية المنتمي، وأما الذين ما أنكروا عليهم؛ فإنما لم ينكروا عليهم؛ لأنهم لا يرون كفرهم وإن كانوا لا يرون قبول رواية المنتمي، وحينئذ يحصل الإجماع على قبول روايتهم من غير إجماع على قبول رواية المنتمي.