الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة
لا يقبل عندنا رواية من لم يعرف منه سوى الإسلام وعدم الفسق ظاهرا بل لا بد من خبرة باطنة بحاله، ومعرفة استقامة سيرته ودينه، أو تزكية من عرفت عدالته بالخبرة له
، وهو مذهب الأكثرين من الفقهاء والأصوليين.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه: يكفي في قبول الرواية الإسلام، والسلامة عن الفسق ظاهرا.
احتج أصحابنا بوجوه:
أحدها: أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد لقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} ، خالفناه في حق من اختبرناه بقوة الظن،
فيبقى فيما عداه على الأصل.
وهو ضعيف لما تقدم.
وثانيها: أنه مجهول الحال فلا تقبل روايته؛ دفعا لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات.
وهو أيضا ضعيف؛ لأن احتمال الكذب غير مانع من القبول وإلا لما قبلت رواية من اختبرت عدالته؛ ضرورة أن احتمال الكذب فيه أيضا.
وأما القياس على الشهادة في العقوبات لو سلم الحكم فيها فغير صحيح؛ لأن الشهادة يحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية لا سيما في العقوبات، والاختلاف في الحكم دليل على الاختلاف في الحكمة، ومع الاختلاف في الحكمة لا يصح القياس.
وثالثها: أن قول المفتي إنما يقبل لو عرف بالاختبار بلوغه رتبة الاجتهاد، فكذا الراوي إنما تقبل روايته لو عرف بالاختبار عدالته.
والجامع: أن الاجتهاد شرط قبول الفتوى، والعدالة شرط قبول الرواية.
وهو ضعيف أيضا؛ لأن الاجتهاد إنما يعتبر في المفتي؛ لأنه لا طريق إلى الإصابة في الفتوى إلا به، ولا طريق إلى حصوله إلا بالاختبار؛ إذ ليس له سبب ظاهر ليستدل بحصوله على حصوله، بخلاف العدالة في الرواية فإنها إنا تعتبر بظن الصدق، وظن الصدق حاصل بالإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا، إذ الإسلام سبب ظاهر للمنع من الإقدام على الكذب فيستدل بحصوله على الامتناع من الكذب فيحصل ظن الصدق.
ورابعها: أجمعنا على أنه لما كان الصبا والرق والكفر، وكونه محدودا في القذف مانعا من الشهادة: لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء ظاهرا فكذا الأمر في العدالة.
والجامع: الاحتراز عن المفسدة المحتملة.
وهو أيضاً ضعيف؛ لأن العلم الظاهري بالعدالة بمعنى الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا حاصل، واشتراط العدالة بمعنى آخر ممنوع.
سلمنا وجوب معرفة العدالة عن خبره في الشهادة فلم يجب في الرواية، وقياس الرواية على الشهادة غير صحيح لما تقدم ودعوى الإجماع على عدم الفصل بينهما ممنوع.
وخامسها: إجماع الصحابة على رد رواية المجهول.
رد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس وقال: "كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت". ولو كان اختبر حالها لما قال ذلك.
ورد علي رضي الله عنه خبر الأشجعي في المفوضة لما كان مجهول الحال واشتهر ذلك فيما بينهم ولم ينكره أحد فكان إجماعا.
وهو أيضا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن الرد في تنك الصورتين لجهالة حال الراوي بل للتهمة، ولهذا قال:"لا ندري أصدقت أم كذبت"، إذ لا يقال مثل هذا إلا فيما لا يغلب على الظن صدقه، ومن ظهر إسلامه مع السلامة عن الفسق ظاهرا فإنه يغلب على الظن صدقه، وكذا الكلام في الأشجعي، ولهذا وصفه بما يدل على التهمة.
والمعتمد في ذلك أن نقول: عدم الفسق في الراوي شرط لقبول روايته للآية، أو لأن كل ما يكون وجوده منافيا للشيء، كان عدمه شرطا له، فكل موضع لا يقطع بعدمه وجب أن لا يقبل؛ لأن الجهل بالشرط - يوجب الجهل
بالمشروط، ترك العمل به فيمن عرف حاله بالاختبار لقوة الظن فوجب أن / (91/أ) يبقى فيما عداه على الأصل.
واحتج الخصم بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية.
ووجه الاستدلال به: هو أنه تعالى علق الأمر بالتبين بالفسق، والمعلق عدم عند عدم المعلق عليه، فينتفي وجوب التبيين عند عدم العلم بالفسق، وعند ذلك إما يجب القبول وهو المطلوب، أو يجب صريح الرد وهو باطل؛ أما أولا: فبالاجماع.
وأما ثانيا: فلأن مستور الحال لا يكون أسوأ حالا من الفاسق، فإذا وجب التثبت والتبيين في خبره فلو وجب صريح الرد في خبر المستور لزم أن يكون أسوأ حالا منه وهو باطل قطعا.
وجوابه: أن الأمر بالتبيين غير معلق بمجيء من يعلم فسقه حتى يلزم انتفاؤه عند عدم العلم به بل هو معلق بمجيء الفاسق، فعلى هذا إنما ينتفي وجوب التبيين بطريق مفهوم الشرط عند عدم الفسق، وهو إنما يتحقق بالعلم بعدمه الذي لا سبيل إليه إلا بالاختبار والبحث عن حاله، لا بعدم العلم به، وفرق بين العلم بعدم الشيء وبين عدم العلم به.
فالحاصل في مستور الحال إنما هو عدم العلم بفسقه، لا العلم بعدم فسقه فليس في الآية دلالة بطريق المفهوم على قبول روايته بل فيها دلالة على عدم قبول روايته على الوجه الذي قررناه.
وثانيها: أن الأصل عدم الفسق فكذا الظاهر، فإن الظاهر من حال المسلم الانتهاء عن المعاصي لا سيما عن الكبائر فوجب أن تقبل روايته لقوله عليه السلام:"أحكم بالظاهر" و "نحن نحكم بالظاهر".
وجوابه: أنا لا نسلم أن الظاهر ما ذكرتم، إن كان الأصل ما ذكرتم بل الظاهر خلافه.
ودليله: الاستقراء فلاا يبقى حينئذ تعويل على الأصل [فإنا لا نسلم ترجيح الأصل على الظاهر
سلمنا تطابق الأصل] والظاهر، لكن إنما يعتبر ذلك إذا لم ين في النص إشارة إلى اعتبار ما يخالف حكمهما، فأما إذا كان فيه ذلك فلا، وهنا كذلك؛ لأنه اعتبر عدم الفسق في القبول بطريق المفهوم، واعتباره منافيا لاعتبار الأصل والظاهر.
سلمنا اعتباره مطلقا لكن خص منه الشهادة في العقوبات وشهادة الواحد مع اليمين على رأي الخصم وشهادة الواحد، فيلزم من تخصيصه ثمة تخصيصه ها هنا، والجامع: دفع مفسدة الكذب المحتمل.
سلمنا لكنه معارض بالأدلة الدالة على نفي اتباع الظنون، وعدم العلم وعند ذلك لا بد من تأويل أحد النصين، وليس تأويل تلك النصوص وإجراء ما ذكرتم من السنة على ظاهره أولى من العكس، وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون، ثم إنه معنا؛ لأن تلك النصوص متواترة المتن، وما ذكرتم ليس كذلك فكان تأويله أولى وأحرى.
وثالثها: أنه عليه السلام قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال، مع
أنه لم يعلم منه سوى الإسلام، إذ لم يظهر سوى الإسلام، فالظاهر أنه لم يعلم منه سوى ذلك، فإذا جاز ذلك في الشهادة فالرواية أولى.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه عليه السلام لم يعلم منه سوى الإسلام، ولا نسلم أنه لم يظهر منه سوى الإسلام.
ورابعها: إجماع الصحابة فإنهم قبلوا أخبار العبيد والنسوان، والأعراب المجاهيل من غير نكير فيما بينهم؛ لما ظهر من إسلامهم، ولم يظهر منهم فسق.
وجوابه: أنا لا نسلم أنهم قبلوا روايتهم من غير أن يعلموا منهم سوى الإسلام؛ فإن هذا نفس المسألة.
وخامسها: أنا أجمعنا على قبول خبر المسلم في كون اللحم لحم المذكى، وفي كون الماء في الحمام طاهرا، وفي كون الجارة المبيعة رقيقة له وهي غير
مزوجة، ولا معتدة، وفي كونه على الطهارة إذا أم بالناس، وفي غيرها من الصور فكذا ها هنا.
والجامع: ظهور الظن الناشئ من الإسلام مع عدم الفسق.
وجوابه: الفرق: وبيانه من حيث الإجمال والتفصيل.
أما من حيث الإجمال: فلأن الأخبار في تلك الصور مقبولة مع الفسق بل ومع الكفر، وذلك يدل على افتراقهما في الحكمة؛ لأن الاختلاف في الحكم يدل على الاحتلاف في الحكمة، ومعه لا يصح القياس.
وأما من حيث التفصيل، فلأن منصب الرواية عن الرسول عليه السلام أعلى رتبة من الأخبار في تلك الصور، لكونه يثبت شرعا عاما في حق كل المكلفين، بخلاف الإخبار في تلك الصور فإنه لا يثبت الحكم إلا في تلك الصورة الجزئية، فلا يلزم من قبول الأخبار في تلك الصور قبول الأخبار عن الرسول عليه السلام.
وسادسها: أن الكافر إذا أسلم وروى عقيب إسلامه من غير مهلة فإنه يقبل، فكذا ما نحن فيه بل أولى؛ لأن طول مدته في الإسلام يوجب رسوخ أصول الإسلام وفروعه في قلبه فيكون احتمال الكذب أبعد.
وجوابه: منع الحكم؛ وهذا لأنه يحتمل أن يكون كذوبا قبله فهو باق في طبعه بعد الإسلام، فلا يقبل إلا بعد الخبرة البحث عن حاله.
سلمناه لكن الفرق ظاهر، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن احتمال الفسق في مستور الحال أكثر من احتمال الفسق فيما إذا روى عقيب إسلامه؛ لأن كل فسق يحتمل في هذه الصورة فهو يحتمل في مستور الحال من غير عكس؛ لأن احتمال الفسق المتقدم الذي ترد به الرواية غير متصور فيما إذا روى عقيب الإسلام.
وثانيهما: أن في ابتداء الإسلام تكون العزيمة مصممة مؤكدة على
الإتيان بالمأمورات، والانتهاء عن المنهيات، بخلاف الدوام؛ فإن فيه تفتر العزيمة، ويتطرق الملال الكلال على ما دل عليه الاستقراء في / (92/أ) حق كل من دخل ابتداء في أمر محبوب والتزمه، فإن شدة اهتمامه به إذ ذاك أكثر، فلا يلزم من قبول روايته عقيب إسلامه لقوة الظن بصدقه بسبب عدم الفسق قبول رايته في دوامه مع عدم ذلك الظن القوي.