الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في إثبات جواز التعبد به عقلً
ا.
ويدل على وجوه:
أحدها: أنه لو استحال ورود التعبد به، فإما أن يستحيل لذاته وهو باطل وفاقًا؛ لأن الاستحالة الذاتية منحصرة في الجمع بين المتنافيين وارتفاع النقيضين وما يجري مجراهما وما نحن فيه ليس كذلك.
وأما أن يستحيل لغيره وهو أيضًا باطل؛ لأن الشارع إذا صرح به وقال:
مهما غلب على ظنكم أن الحكم في الصورة الفلانية معلل بكذا، وغلب على ظنكم حصوله مع جميع ما يعتبر في اقتضائه الحكم فاعلموا أني أوجبت عليكم العمل به، فإنه لا يلزم منه محال ولا يقبح ذلك منه، والعلم بذلك ضروري، ولو كان مستحيلًا لما كان كذلك، وهذا الوجه ينفي استحالته مطلقًا سواء كان لذاته أو لغيره، ولأن ما يستحيل لغيره كان ممكنًا في نفسه قطعًا، وحينئذ يكون الخصم معترفًا بإمكانه ويدعي استحالته لأمر آخر، والأصل عدم ذلك الغير ولما بطل القسمان بطل أن يكون مستحيلًا.
وثانيها: أنه لو كان مستحيلًا لعرفت استحالته إما بضرورة العقل وهو باطل قطعًا، أو بنظره، وهو أيضًا باطل؛ لما أنه ليس في أدلة القائلين به ما يعول عليه ولم يوجد على استحالته سوى ما يذكرونه وعدم الوجدان وإن لم يدل على عدم الوجود لكنه لا يدل على الوجود أيضًا فلا يجوز إثبات الاستحالة بمجرد الاحتمال.
وثالثها: أن تجويز العمل بالقياس منشأ لمصلحة لا تنشأ من غيره، وهي الثواب الحاصل للمجتهد على الاجتهاد في هذا النوع؛ فإن فيه إتعاب القلب والدماغ بالفكر الذي لا يوجد في غيره من الاجتهادات ضرورة أن المقدمات فيه أكثر، والاستقراء يحققه وإتعابهما بعلمهما المختص بهما لا يتقاعد في
استحقاق الثواب عن إتعاب البدن بعلمه المختص به بل ذلك أزيد بدرجات عديدة على ما يشهد به ما ورد في فضيلة الفكر، وإذا كان منشأ للمصلحة لاسيما التي لا تحصل من غيره بالعقل لا نحيله بل نجوزه.
ولقائل أن يقول: علته ليس كل ما فيه إتعاب القلب والدماغ بالفكر فيه الثواب بل في إتعابهما بالفكر في أمر هو جائز وقربة، فعلى هذا لا يمكن إثبات كون الفكر في القياس منشأ للمصلحة إلا إذا ثبت أن القياس جائز وقربه، فإثبات كونه جائزًا وقربه به دور فكان العمل به جائزًا.
بيان الأول: أن من غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بكذا، ثم ظن أن ذلك الوصف مع جميع ما يعتبر في اقتضائه الحكم في صورة أخرى فإنه يغلب على ظنه أن حكم تلك الصورة مثل حكم الصورة الأولى، وعنده مقدمة أخرى يقينية بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن ترك العمل بذلك الحكم في تلك الصورة سبب للعقاب فثبت أن العمل بالقياس يفيد دفع الضرر المظنون.
بيان الثاني من وجهين:
أحدهما: أن العقل يقتضي ببديهته أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين، ولا يمكن الخروج عنهما بل لا بد من ترجيح أحدهما وفعله، ويقضي أيضًا ببديهته أن ترجيح ما غلب على الظن خلوه عن المضرة على ما ليس كذلك أولى من عكسه فكيف ترجيح ما غلب على الظن اشتماله على النفع على ما غلب على الظن اشتماله على المضرة ولا معنى لكون العمل بالقياس جائزًا عقلًا سوى هذا.
وثانيهما: أن العقل يقضي بجواز فعل ما ليس فيه أمارة المفسدة والمضرة وإن لم يكن فيه أمارة المصلحة والنفع وإلا لما ثبت الجواز العقلي في شيء من الصور، وإذا قضى بالجواز فيما لا مصلحة فيه ولا نفع فلأن يقضى بالجواز
فيما فيه النفع والمصلحة بالطريق الأولى.
فإن قيل: دليلكم مبني على حصول الظنون وهو ممنوع؛ وهذا لأنه يتوقف على تعليل أفعال الله تعالى والمصالح، وعلى تحقيق القول بالعلة الشرعية، وعلى عدم اختصاص الحكم بمحله، والكلام في هذا سيأتي.
سلمناه لكن متى يجوز العمل به إذا لم يكن هناك طريق يقيني أم مطلقًا؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع؛ وهذا لأن العقل لا يسوغ سلوك الطريق الذي لا يؤمن فيه من الخطأ مع التمكن من سلوك الطريق الذي يؤمن فيه من الخطأ، فعلى هذا لا يلزم جواز العمل به إلا إذا بينتم أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ولا قول إمام معصوم ما يدل على ذلك الحكم يقينًا وأنتم ما فعلتم ذلك.
سلمنا عدم الطريق اليقيني لكن متى يجوز العمل به إذا لم يكن هناك طريق آخر أرجح منه في إفادة الظن الغالب أم مطلقًا؟
والأول مسلم لكن لا نسلم حصول هذا الشرط؛ وهذا لأن أكثر البراءة الأصلية طريق إلى معرفة الحكم في الفرع، وهي أقوى دلالة على الحكم من القياس.
والثاني ممنوع؛ وهذا لأن تجويز العمل به إذ ذاك تجويز الاقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما وأنه غير جائز.
سلمنا عدم طريق آخر أقوى منه وصحة دليلكم، لكنه منقوض بما أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بقول العبيد والنسوان والصبيان والمراهقين، والواحد
العدل والاثنين في الزنا وإن حصل له ظن صدقهم، وبما أنه لا يجوز تصديق مدعي النبوة، وإن حصل ظن صدقه باستقراء صدقه، وبما أنه لا يجوز للمجتهد العمل بالمصالح المرسلة وإن أفادته ظن الحكم وبما أنه لا يجوز للمكلف العمل بالأمارات المميزة المغلبة للظن فيما إذا اختلطت أخته بأجنبيات محصورات، وفيما إذا اختلطت المذبوحة بالميتات، وبما إذا غلب على ظنه صدق مدعي الشيء من غير بينة فإن الظن الغالب قد/ (124/ أ) يحصل في هذه الصور مع أنه لا يجوز العمل به.
فإن قلت: ما ذكرتم من الظنون يجوز ورود التعبد بها عقلًا أيضًا عندنا، وإنما لم يتعبد بها في تلك الصور؛ لقيام الأدلة القاطعة أو الراجحة على عدم اعتبار تلك الأنواع من الظنون وهو غير حاصل فيما نحن فيه فلم ينتقض الدليل.
قلت: فعلى هذا الظن الناشئ من القياس إنما يعتبر إذا لم يوجد دليل على فساده فيصير عدم ما يدل على فساده جزأ من الدليل، فعليكم أن تبينوا أنه لم يوجد دليل على فساد القياس حتى يتم دليلكم ضرورة أنه لا يتم الدليل إذا أخل بجزئه وأنتم ما فعلتم ذلك ولو حاولتم ذلك لنا تيسر لكم؛ لأن عدم الوجدان لا يدل على العدم ولو تيسر لكم ذلك لاستغنيتم عن الدليل المذكور؛ لأنه يكفي ذلك في جوازه إما لأن ما لا دليل عليه وجب نفيه، أو لأن ما لا دليل عليه وإن لم يجب نفيه لكن لا يجوز إثباته؛ لأن القول بالشيء بلا دليل باطل فيكون القول باستحالته باطل فيلزم الجواز إما وحده أو في ضمن الوجوب.
سلمنا سلامته عن النقض لكنه معارض بوجوه:
أحدها: وهو حجة من منع من القياس في شرعنا خاصة وهو أن مدار القياس على أن الصورتين إذا تساويًا في المصلحة والحكمة وجب استواؤهما في الحكم، ومهما اختلفتا في ذلك اختلفتا في الحكم وهو مقتضى العقل فإن (العقل) يقضي بالتسوية بين المتماثلات في أحكامها، وبالاختلاف بين المختلفات في أحكامها فيستحيل فيه القياس عقلًا.
أما المقدمة الأولى فبينة.
وأما الثاني فبيانه بصور:
أحدها: أنه لا فرق بين الأزمنة والأمكنة في الشرف والأحكام مع استوائها في الماهية والحقيقة.
وثانيها: أنه أوجب الغسل من بول الصبية، ولم يوجب ذلك من بول الصبي بل أوجب الرش عليه.
وثالثها: أنه أوجب الغسل من المنى مع أنه طاهر، دون الرجيع مع أنه نجس وأنتن منه.
ورابعها: أنه أبطل الصوم بإنزاله عمدًا دون البول والمذي والودي مع أن الكل نجس أو أنجس منه.
وخامسها: جوز القصر في السفر في الصلاة الرباعية دون الثنائية.
وسادسها: أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أعظم قدرًا من الصوم.
وسابعها: نهانا عن إرسال السبع على مثله، وأقوى منه، ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة.
وثامنها: أنه حرم النظر إلى شعور الشوهاء، مع أنها لا تفتن الرجال الشبان البتة وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع أنها تفتن الشيخ.
وتاسعها: جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن، والمائة من الجواري الحسان لا يحصن.
وعاشرها: قطع سارق القليل، دون غاصب الكثير مع أنه أولى بالزجر.
وحادي عشرها: جلد بالقذف بالزنا، ولم يجلد بالقذف بالكفر مع أنه أعظم جريمة.
وثاني عشرها: قبل شهادة الاثنين في القتل والكفر، دون الزنا مع أن كل واحد منهما أعظم منه.
وثالث عشرها: جلد قاذف الحر الفاسق، دون قاذف العبد العفيف.
ورابع عشرها: فرق في العدة بين الطلاق والموت، مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما.
وخامس عشرها: جعل استبراء الأمة بحيضة واحدة، والحرة المطلقة بثلاث حيض مع أن حال الرحم لا يختلف بالحرية والرقية.
وسادس عشرها: يخرج الريح من موضع الغائط ولم يوجب تطهيره، وأوجب تطهير مواضع أخر بسببه مع أن تطهير ذلك الموضع أولى.
وسابع عشرها: أثبت الفراش في ملك النكاح بمجرده ولم يثبته في ملك اليمين بمجرده بل لا يثبته مع الإقرار بالوطء على رأي البعض مع أنه أقوى منه.
وثامن عشرها: جعل كفارة الظهار الإعتاق، أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا مرتبًا، وجعل كفارة اليمين مخيرًا بين الإعتاق أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن عجز عن ذلك فصيام ثلاثة أيام مع أن هتك حرمة اسم الله أعظم جريمة من العود في الظهار، وأيضًا فإن التخيير بين
الشيئين يدل على استوائهما في الحكمة والمصلحة، فالتخيير بين الإعتاق والإطعام في كفارة اليمين يدل على استوائهما في المصلحة والحكمة، والترتيب بين الإعتاق وإطعام ستين مسكينًا يدل على رجحان الإعتاق في المصلحة، فإن كان الواقع التفاوت في المصلحة والحكمة فكيف وقع التخيير بينهما؟ وإن كان الواقع التساوي فكيف الترتيب بينه وبين إطعام ستين مسكينًا؟
وكذا سوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في نهار رمضان والظهار مع أنه أعظم جريمة منهما وكل ذلك يدل على عدم رعاية المصالح والحكم في الأحكام وهو ينافي تجويز القياس.
وتاسع عشرها: أنه سوى بين قتل الصيد عمدًا وخطأ في إيجاب الضمان، مع أنه في قتله عمدًا إثمًا فكان أولى بتغليظ الإثم عليه.
العشرون: أنه سوى بين جريمة الردة والزنا حيث رتب عليهما القتل بل موجب الزنا أعظم عند بعض العلماء حيث قال: الزاني المحصن يجلد ويرجم مع أن الكفر أعظم جريمة من/ (125/ أ) الزنا فثبت بهذه الوجوه أن أحكام شرعنا قد تختلف بين المتماثلات، وقد تتفق بين المختلفات وذلك ينافي القول بتجويز القياس فيه عقلًا.
وثانيها: أن البراءة الأصلية معلومة والحكم المثبت بالقياس، إن كان على وفق البراءة الأصلية كان في البراءة الأصلية غنية عنه فلم يكن في إثبات كون القياس حجة فائدة.
وإن كان على خلافها كان القياس حينئذ معارضًا للبراءة الأصلية لكن البراءة الأصلية دليل قاطع، والقياس ليس كذلك بل هو دليل ظني، والظني
إذا عارض القاطع كان الظني متروكًا غير معمول به فكان العمل بالقياس حينئذ يكون باطلًا، وهذه وما يأتي بعدها حجج من عم المنع في كل الشرائع.
وثالثها: أن القياس في حجيته في الدوام فيما يتمسك به من المسائل يحتاج إلى أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان عليه وهو ظاهر، وحينئذ نقول: الحكم المثبت بالقياس إن كان نفيًا على وفق استصحاب كان في الاستصحاب غنية عنه، فلم يكن في إثبات حجيته فائدة بل هو عبث، وإن كان إثباتًا على خلاف حكم الاستصحاب لم يجز إثباته بالقياس؛ لأن أصل القياس يقتضي نفيه، وإذا وقع التعارض بين الأصل والفرع كان راجحًا على الفرع.
لا يقال: هذا يقتضي نصب الأدلة المختلفة على مدلول واحد لأنا لا نسلم ذلك؛ وهذا لأن ما ذكرناه من الدليل لا ينفي نصب الدليلين إذا كانا مستقلين لا يحتاج أحدهما إلى الآخر، بل إنما ينفي نصب دليلين أحدهما مستقل بالإثبات غير محتاج إلى الآخر، والآخر محتاج إليه وهو جزؤه فإن التمسك بالمحتاج تطويل من غير فائدة فكان عبثًا.
ورابعها: أن القياس الشرعي لا يتم حجة إلا إذا ثبت القول بالعلة الشرعية، لكن القول بالعلة الشرعية باطل على ما سيأتي فكان القول بالقياس باطلًا.
وخامسها: أن القياس قبيح فيقبح ورود التعبد به.
بيان المقدمة الأولى: أنه لا يفيد إلا الظن وهو ضد العلم الذي هو حسن وضد الحسن قبيح فيكون الظن قبيحًا، ومستلزم القبيح ومفيده قبيح فيكون القياس قبيحًا.
بيان الثاني ظاهر.
وسادسها: لو كان القياس حجة لكانت العلة أصلًا للحكم من حيث إنه لا يمكن إثباته إلا بها لكنها فرع الحكم ضرورة أنه لا سبيل إلى الاطلاع عليها واستنباطها إلا بعد العلم بالحكم فلا يكون القياس حجة.
وسابعها: أن القياس لا يفيد إلا الظن، والظن قد يخطئ ويصيب والأمر به لأمر بما لا يؤمن أن يكون خطأ وهو غير جائز على الحكيم.
وثامنها: أن التنصيص على الأحكام الكلية بحيث يندرج تحتها الأحكام الجزئية ممكن للشارع وهو أظهر في باب بيان الحكم من القياس، والعلم بذلك ضروري فالاقتصار على القياس دون النص اقتصار على أدون البيانين مع القدرة على أعلاهما، وهو غير جائز (لأن) في كمال البيان إزاحة عذر المكلف وقطع موانعه ودوافعه فيكون "كاللطف" واللطف واجب على ما تقدم فيكون كمال البيان واجبًا فلم يجز الاقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على الأعلى.
وبهذا القيد خرج الفتوى والشهادة وقيم المتلفات وأروش الجنايات والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح وأمور الأغذية والأدوية؛ لأن التنصيص على أحكام هذه الأمور غير ممكن فلم يكن الاكتفاء فيه بالظن اكتفاء بأدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما.
وتاسعها: أن حكم الشارع عندكم هو خطابه المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير على ما تقدم تعريفه في صدر الكتاب، والفرع مما لم يرد فيه خطاب الله تعالى؛ إذ الكلام في مثل هذا الفرع فإذا لم يخبر الله عن
حكم الفرع وجب الجزم بعدم الحكم الغير الأصلي فيه؛ لأن انتقاء الحد يوجب انتفاء المحدود.
وعاشرها: أن الحكم في الأصل غير ثابت بالعلة؛ لأن العلة مظنونة والحكم مقطوع والمقطوع لا يثبت بالمظنون، ولأن العلة مستنبطة من الحكم في الأصل ومتفرعة عليه لما سبق أنه لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد العلم بالحكم فلو كانت العلة مثبتة للحكم لزم الدور؛ لأنه حينئذ يصير الحكم فرعًا لها بل بالنص والنص غير حاصل في الفرع فامتنع إثبات ذلك الحكم فيه لانتفاء سببه، ويمتنع إثباته فيه بطريق غير طريق الأصل؛ لأنه حينئذ لم يكن فرعًا له بل هو أصل مستقل ينفسه.
وحادي عشرها: أن رعاية المصالح واجبة على الله تعالى، ولا مصلحة في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله تعالى بل يجوز إنه نقيض حكمه تعالى.
وثاني عشرها: أن القول بالقياس يقتضي ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع وهو باطل عندكم، فالقول بالقياس باطل؛ لأن مستلزم الباطل باطل.
بيان الأول هو: أن المقتضي للحكم هو الوصف المتضمن للحكمة والمصلحة المسمى بالعلة وهو حاصل قبل ورود الشرع فوجب ثبوت الحكم وإلا لزم انفكاك العلة عن المعلول وهو باطل.
وثالث عشرها: أن القياس لا بد له من علة فتلك العلة إما منصوصة، أو مستنبطة.
فإن كان الأول فنحن ربما نجوز ورود التعبد به بل نقول بوقوع التعبد به.
وإن كان الثاني فيحتمل أن لا تكون تلك المستنبطة علة؛ إما لأن ذلك الحكم غير معلل بعلة أصلًا، أو وإن كان معللًا لكنه بغيرها/ (126/ أ) ويحتمل أن يكون علة وحينئذ يحتمل أن تكون حاصلة في الفرع ويحتمل أن لا تكون حاصلة فيه، وبتقدير أن تكون حاصلة فيه فيحتمل أنه فقد شرط من شرائطها، أو وجد مانع من موانع حكمها، ويحتمل أن لا يكون كذلك وحينئذ يجوز العمل به لكن وقوع احتمال من خمس احتمالات أغلب على الظن من وقوع احتمال بعينه، فعدم جواز العمل به أغلب على الظن من جواز العمل به وما يكون كذلك لا يجوز ورود التعبد به.
ورابع عشرها: أن تصويب الناظرين فيه يقتضي اجتماع النقيضين وهو ممتنع، وتصويب أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح وهو أيضًا ممتنع، وترجيح أحدهما لا بعينه أيضًا ممتنع؛ ولأن ما لا تعين له لا وجود له فكان العمل بالقياس ممتنعًا؛ لأن ما لا ينفك عن الممتنع فهو ممتنع.
وخامس عشرها: أن تجويز العمل بالقياس يتضمن تجويز الإخبار بالظن الناشئ من الأمارات؛ لأنه إذا استنبط العلة وغلب على ظنه أنها علة الحكم أخبر أنها علة الحكم وأن الحكم متعلق بها لكن ذلك غير جائز، ألا ترى أن من ظن أن إنسانًا في الدار بالأمارات لم يجز له أن يخبر أنه في الدار مالم يقطع بتظاهر الأمارات وتوافرها.
وسادس عشرها: لو جاز عقلًا ورود التعبد بالقياس في فروع الشريعة لجاز في أصولها بجامع ظن المصلحة.
وسابع عشرها: أن أحكام الشرع من العبادات وغيرها ألطاف ومصالح
وذلك مما لا يهتدى إليه بالأمارات.
وثامن عشرها: لو جاز ورود التعبد بالقياس في حقنا لجاز ورود التعبد به في حق الرسول- عليه السلام ولجاز أن يقع به النسخ، واللازم باطل فالملزوم مثله.
وتاسع عشرها: لو جاز أن يعمل بالقياس لجاز أن يعمل به مع وجود النص وحكم العقل عند من يقول منكم أن للعقل حكمًا واللازم باطل إجماعًا فالملزوم مثله.
العشرون: القياس فعل لنا ولاشيء من الأحكام بفعل فلا شيء من القياس بحكم، ومن يرى جواز التعبد به يجعله حكمًا شرعيًا، وقد يورد على وجه آخر وهو أن القياس فعلنا ولا يجوز تعلق المصلحة بفعلنا فلا يجوز تعلق المصلحة بالقياس فلا يجوز ورود التعبد به لخلوه عن المصلحة.
الجواب
قوله: دليلكم مبني على حصول الظنون.
قلنا: نعم.
قوله: وهو ممنوع.
قلنا: الكلام في ذلك وفيما ذكرتم في سنده ما سيأتي في تلك المحال.
قوله: يجوز العمل به لكن عند عدم التمكن من سلوك الطريق اليقيني.
قلنا: يجوز العمل به مطلقًا أما عند عدم التمكن فلما سلمتم، وأما مع التمكن من سلوك الطريق اليقيني فلوجهين:
أحدهما: أنه إذا حصل له غلبة الظن بخلو أحد الطرفين من النقيضين عن المفسدة فإلى أن يحصل له العلم بذلك الطرف أو بغيره لو لم يجز العمل به لزم إما الخلو عن النقيضين، أو جواز العمل بالمرجوح، أو تكليف ما لا يطاق، واللوازم باطلة فالملزوم مثله.
وثانيهما: أنه لو لم يجز ورود التعبد بالعمل بغلبة الظن مع التمكن من سلوك الطريق اليقيني لم يجز ورود التعبد بالعمل بأخبار الآحاد، والنصوص الظنية مع إمكان النصوص القطعية في متنها ودلالتها، ومع إمكان أن يخلق الله لهم علمًا ضروريًا بالأحكام، وبهما خرج الجواب عن السؤال الثالث.
وأما ما ذكروه في سند المنع من أن العقل يمنع من سلوك الطريق الذي لا يؤمن فيه من الخطأ مع التمكن من سلوك الطريق الآمن.
فالجواب عنه: بعد تسليم الحكم بالفرق بين ما نحن فيه وبين تلك الصورة، وهو [أن] الامتناع من سلوكهما ممكن والخلو عن النقيضين غير ممكن، ولأن العلم بالطريق الآمن حاصل حال العلم بالطريق الذي لا يؤمن فيه من الخطأ بخلاف ما نحن فيه، فإن العلم بأحد الطرفين قد لا يكون
حاصلًا عند حصول غلبة الظن بأحد الطريقين وإن كان متمكنًا من تحصيل العلم به.
وأما النقوض فالجواب عنها ما سبق، ولا نسلم أن عدم ما يدل على عدم اعتبار الناشئ من القياس جزءًا من الدليل فإنه ليس كل ما يمنع وجوده من مقتضي الدليل كان عدمه جزءًا من الدليل فإن عدم المعارض كذلك وليس هو جزءًا من الدليل بالاتفاق بل هو من قبيل عدم المعارض ولا يلزم المستدل التعرض لبيان عدم المعارض وفاقًا ولو سلم وجوبه كفانا في ذلك التمسك بالعدم الأصلي وبهذا خرج الجواب عن قوله: ولو حاول ذلك لما تيسر لكم ذلك.
وأما قوله: ولو تيسر لكم ذلك لاستغنيتم عن الدليل المذكور فممنوع، وما ذكرتم من الدلالة عليه من الأصلين والأصل الأول ضعيف على ما عرف ضعفه في محله والثاني معارض بمثله ولو منع عدم دلالة الدليل على عدم الجواز بناء على ما سبق من الأدلة لصار هذا الدليل غير مستقل بل هو جزء الدليل.
وعن المعارضة الأولى: أنا لا نسلم أن ما ذكرتم يمنع من جواز ورود التعبد بالقياس في شرعنا فيما وجدت فيه شرائط القياس وارتفاع موانعه وهذا لأن في تلك الصورة إنما لم يجز القياس فيه؛ لأنه لم يوجد فيها شرائط القياس، فإن من جملة شرائط القياس أن يكون الحكم في الأصل معللًا بعلة، وأن تكون تلك العلة حاصلة في الفرع وهي غير حاصلة فيما ذكرتم من/ (127/ أ) الصور؛ إذ الحكم في أكثر تلك الصور غير معلل بعلة، وإن وجد في بعضها معنى يصلح أن يكون علة لكنه غير معلل به في نظر الشرع، فإنه ليس كل مناسب يظهر للعقل يجب أن يكون الحكم معللًا به في نظر الشرع بل لا يكون معللًا أصلًا، وأما التي يكون الحكم فيها معللًا بعلة فإنما
لم يثبت الحكم فيما ذكروه من الشبيه؛ لأنه لم توجد تلك العلة فيه كما في وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، وكما في وجوب غسل بول الصبية دون الصبي على رأي من يعلل الحكم فيه، أو وإن ثبت تلك العلة فيه لكن وجد فيه معنى آخر أولى بالاعتبار وهو يقتضي تارة عدم ذلك الحكم، وتارة ضد ذلك الحكم كما في جواز إرسال السبع على البهيمة الضعيفة دون مثله من السبع.
وأما حيث جمع بين المختلفات، فإنما جمع ولأن الحكم مضاف إلى المشترك بينهما وإن وجد الفرق بينهما فإنه ليس كل موضع وجد فيه الفرق الصالح لأن يضاف الحكم إلى ذلك المجموع أعني ما به الاشتراك وما به الافتراق أن لا يكون الحكم مضافًا إلى المشترك. نعم ذلك هو الأصل لكن قد يأتي الحكم على خلاف الأصل.
سلمنا حصول شرائط القياس فيها لكن قد يرد الحكم على خلاف القياس وهو غير قادح في القياس فورود تلك الأحكام على خلاف القياس في تلك الصور النادرة بالنسبة إلى ما يجري فيه القياس لا يقدح في جواز ورود التعبد بالقياس في شرعنا.
وعن الثانية والثالثة: النقض بجواز العمل بالنصوص الظنية في الأمور الدنيوية، ويخص الأول بمنع أن التمسك بالبراءة الأصلية يفيد القطع؛ وهذا لأن استصحاب الحال حجة ظنية لا قطعية.
وعن الرابعة: ما سيأتي من تفسير العلة الشرعية بمفهوم ملخص محصل.
وعن الخامسة: أنه مبني على التحسين والتقبيح وأنه باطل.
سلمناه لكنه منقوض بالأمور المتقدمة، ومعارض بما أنه تعالى، خالق أضداد العلم وفاقًا، فلو كانت قبيحة لما جاز ذلك منه تعالى، لأن عندهم لا يجوز أن يخلق الله تعالى القبيح.
وعن السادسة: أن العلة أصل للحكم لكن في الفرع دون الأصل، وفرعية العلة للحكم في الأصل لا يستلزم نفي أصالتها في الفرع فلا يلزم منه عدم حجية القياس.
وعن السابعة: أنا لا نسلم إمكان الخطأ فيه؛ وهذا لأن الشارع لما أوجب على المجتهد العمل بما غلب على ظنه كان عمله بظنه الغالب صوابًا قطعًا وإن كان متعلق الظن على خلافه.
سلمناه لكنه منقوض بالأمور المتقدمة.
وعن الثامنة: أنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح. وأنها باطلة عندنا.
سلمناه لكن لا نسلم أن اللطف واجب والكلام فيه ما تقدم في الإجماع، لكنه منقوض بالبيان بالنصوص الظنية مع القدرة على التنصيص على وجه لا يتطرق إليه احتمال فإنه اقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما.
وعن التاسعة من وجهين:
أحدهما: النص الذي هو [خبر عن حكم الأصل بطريق المطابقة] خبر عن حكم الفرع بطريق الالتزام.
وثانيهما: أنا لا أعمل بالقياس ما لم يدلنا قاطع من نص أو إجماع على وجوب التعبد به؛ فإن العقل لا يقضي إلا بجواز التعبد به فذلك القاطع مع القياس إخبار عن حكم الفرع.
وعن العاشرة: أن الحكم في الفرع وإن سلم أنه ثابت بطريق غير طريق الأصل، فإن الحكم في الفرع ثابت بالعلة وفي الأصل بالنص أو بالإجماع لكن لا يخرج بسبب هذا عن أن يكون فرعًا؛ وهذا لأن الحكم في الفرع فرع العلة، والعلة فرع الحكم في الأصل، وفرع الفرع فرع، فالفرع فرع الأصل، وإن ثبت حكمه بطريق غير طريق الأصل.
وعن الحادية عشرة: بمنع المتقدمين، ولو سلمنا فالنقض بما تقدم من الأمور.
وعن الثانية عشرة: أنا لا نقول: إن علل الشرع موجبة للأحكام حتى يلزم ما ذكرتم بل هي بواعث وأمارات، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور؛ لأنه يجوز أن يكون الشيء باعثًا على الشيء في وقت دون وقت، وكذلك يجوز أن يكون الشيء أمارة للشيء في وقت دون وقت.
سلمنا أنها موجبات لكن بجعل الشارع لا بذواتها، وحينئذ لا يلزم أيضًا ما ذكرتم من المجذور.
وعن الثالثة عشر: أن المعنى من كون القياس يجوز أن يكون متعبدًا به هو أن يجوز أن يقول الشارع للمجتهد: مهما غلب على ظنك أن الحكم في الأصل معلل بكذا، وغلب على ظنك حصوله في الفرع بتمامه فأعلم أنك مأمور بأن تثبت الحكم على الفرع وتعمل به، فمهما عمل بذلك عند حصول الظن المذكور كان مصيبًا وآتيًا بما تعبد به سواء كان الظن مطابقًا لمتعلقه، أو لم يكن، وحينئذ لم يكن احتمالات الخطأ فيه متعددة راجحة على احتمالات الصواب، بل احتمال الصواب بحصول هذا الظن، واحتمال الخطأ بانخرامه، وحينئذ لم يكن ما ذكرتم قادحًا في جواز ورود التعبد به؛ لأن ذلك مبني على تعدد احتمالات الخطأ المغلب على الظن وقوعه على وجه الخطأ.
وعن الرابعة عشرة: أنا لا نسلم أن تصويب الناظرين فيه يقتضب اجتماع النقيضين؛ وهذا لأن من شرط اجتماع النقيضين اتحاد النسبة وهو غير حاصل فيما نحن فيه.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون المصيب واحدًا معينًا عند الله تعالى غير معين عندنا وهو/ (128/ أ) من صادف حكم الله تعالى؟ ولا نسلم أنه يلزم منه الترجيح من غير مرجح.
سلمناه لكنه منقوض بالاجتهاد في النصوص الظنية.
وعن الخامسة عشرة: منع انتفاء اللازم؛ وهذا فإنه إذا سمع من واحد كون زيد في الدار جاز له الإخبار عن ذلك مع أن قول الواحد لم يفده علمًا وإنما أفاده الظن بذلك، فكذا إذا غلب على ظنه وجوده في الدار بالأمارة نعم لو أخبر عن ذلك على وجه القطع لم يجز لا في صورة السماع ولا في صورة الأمارة.
وعن السادسة عشر: أنا لا نسلم انتفاء اللازم؛ وهذا فإن الجواز العقلي قد يسلمه وإن كان الواقع خلافه.
سلمنا انتفاءه لكن الفرق ظاهر وهو أن المطلوب في الأصول العلم والقياس التمثيلي لا يفيده بخلاف فروع الشريعة، فإن المطلوب فيها الظن وهو يفيده.
وعن السابعة عشرة: بمنع المقدمتين، ثم بالنقض ببعض ما تقدم من الأمور.
وعن الثامنة عشرة: بمنع الملازمة، وما الدليل عليها؟
سلمناها لكن لا نسلم بطلان اللازم الأول؛ وهذا لأن الرسول- عليه السلام كان متعبدًا بالاجتهاد عندنا، وكذا بطلان اللازم الثاني بالنسبة إلى الحكم الثابت بالقياس إذا وجدت شرائط النسخ في أحد القياسين.
وأما بالنسبة إلى الحكم الثابت بالنص فإنما لم يجز؛ لأنه لم يوجد شرط قبول القياس، فإن من شرط قبول القياس أن لا يرده النص.
وعن التاسعة عشرة: أنه إن عنى بالنص النص الموافق للقياس فلا نسلم بطلان اللازم؛ فإن القياس عندنا حجة مع النص الموافق له، وإن عنى به
النص المخالف فنمنع الملازمة وسنده ما تقدم.
وأما من يقول من القائلين بالقياس بأن للعقل حكمًا فليس ذلك بلازم عليه؛ لأنه إنما يقول بذلك ما ليس فيه دليل شرعي، فإذا وجد دليل شرعي على خلاف العقل سقط حكمه عنده.
وعن العشرين: أنا لا نسلم أن القياس فعل لنا؛ وهذا لأنه ليس في القياس من تصرفنا شيء سوى الاستدلال على علية الوصف في الأصل؛ إذ الحكم والوصف والأمارات الدالة على عليته ليس شيء منه من تصرفنا، فإن كانت العلة أيضًا منصوصة سقط هذا القدر من التصرف في الأصل أيضًا وبيان وجوده في الفرع، فإن كان القياس يصير فعلًا لنا بسبب هذا القدر من التصرف وجب أن يكون النص فعلًا لنا، ضرورة أنه لا بد فيه من الاستدلال، وبيان وجه دلالته على المطلوب بل ربما يكون هذا النوع من التصرف أعنى الاستدلال في بعض النصوص أكثر من بعض الأقيسة واللازم باطل فكذا الملزوم.