الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
الأكثرون على أن الخبر المتواتر بفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية والبراهمة
.
ومنهم من فصل بين التواتر الذي يكون عن الأمور الموجودة حال تواترها كالإخبار عن البلدان النائية والحوادث الموجودة في زماننا، وبين التواتر عن الأمور الماضية المنقضية كالإخبار عن القرون السالفة فقال بإفادة النوع الأول، دون الثاني.
لنا: أنا نجد أنفسنا جازمة مطمئنة بوجود البلاد النائية، والأشخاص الماضية من السلوك والعلماء والحكماء كوجود بختنصر، ووجود الشافعي.
وأبي حنيفة - رحمهما الله - ووجود بقراط، وسقراط جزما خاليا عن التردد والتشكك، كجزمنا بالمشاهدات، فيكون المنكر له كالمنكر للمشاهدات، فلا تباحث ولا تناظر إلا ما يناظر به منكر المشاهد من الحرق بالنار وما يجري مجراه.
فإن قلت: تدعون جزم الأنفس وطمأنينتها بالمتوترات بالنسبة إلى من يعتقد أن التواتر يفيد العلم اليقيني، أو بالنسبة إلى الكل سواء اعتقد ذلك أو لم يعتقد؟
والأول مسلم، لكنه لا يفيد؛ لأن وجد أن الخصم من نفسه حكم ما يعتقد سببيته له لا يكون حجة على خصمه / (54/أ)، ولأنه معارض بمثله أبدا. والثاني ممنوع؛ وهذا فإنا لا نجد من أنفسنا وعند هذا نقول ليس الاستدلال بوجدان البعض على كونه ضروريا أولى من الاستدلال بعدم وجدان البعض الآخر على عدم كونه ضروريا، بل هذا أولى، لأنه لا يجوز أن يختلف العقلاء في الضروريات بعد الاشتراك في إثباتها.
سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن الجزم به كالجزم بالمشاهد، وهذا لأن القائلين بأنه يفيد العلم اختلفوا في أنه ضروري، أو نظري: ولو كان الجزم فيه كالجزم في المشاهد لما وقع هذا الاختلاف كما في المشاهد.
سلمنا دلالة على ما ذكرتم على ما ذكرتم لكنه معارض بوجوه:
أحدها: أنه لو أفاد العلم، فأما أن يفيد العلم الضروري أو النظري، والقسمان باطلان فبطل أن يفيد العلم، أما الملازمة فبينة، إذ لا يخلو العلم عن هذين النوعين، لأنه إن احتاج في حصوله إلى وسط يستلزمه فهو النظري، وإلا فهو الضروري، ومعلوم أنه لا واسطة بين النفي والإثبات.
وأما بطلان اللازم فسيعرف من أدلة الفريقين الذين اختلفوا في أن العلم الحاصل عقيب التواتر نظري أو ضروري.
[وثانيها: أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين] وعرضنا على عقولنا وجود جالينوس وجدنا [الجزم] الأول أقوى وأكمل من الجزم الثاني، وذلك يدل على تطرق احتمال في نقيضه وهو قادح في يقينيته.
وثالثها: أن جزمنا بالمتواترات ليس أقوى من جزمنا بأن ما نشاهده اليوم من الأولاد والعبيد والزوجات هم الذين شاهدناهم بالأمس، ثم إنه ليس بيقيني، لاحتمال أن يوجد أشخاص مساوية لأولئك في الشكل والصورة من كل الوجوه: إما للقادر المختار على ما هو مذهب المليين، أو للأشكال الفلكية الغريبة على ما هو رأي من ينكر القادر المختار، فثبت أن هذا الجزم ليس بيقيني، وإذا لم يكن هذا الجزم يقينيا فما هو مثله أو أضعف منه يجب أن لا يكون يقينيا أيضا أو ضروري. أولى أن لا يكون يقينيا.
ورابعها: أن خبر كل واحد منهم لا يفيد العلم بل يحتمل أن يكون كاذبا فكذا خبر الكل، لأن كل واحد من الزنج لما كان أسوك كان الكل أيضا كذلك.
وخامسها: لو جاز أن يخبر جماعة بما يفيد العلم، فلو أخبر جماعة أخرى مثلهم بنقيضه، فإن لم يفد العلم قولهم مع أنهم مثل الأولين لزم الترجيح من غير مرجح، وإن أفاد قولهم العلم كقول الأولين لزم اجتماع النقيضين.
وسادسها: أنا نرى جمعا كثيرا متفرقين في شرق البلاد وغربها كاليهود، والنصارى، والمجوس، ينقلون أمروا على وجه التواتر يقطع ببطلانها، فلو كان خبر التواتر مفيدا للعلم لاستحال القطع ببطلانها بل وجب القطع بصحتها.
لا يقال: إن ذلك لفقد شرط التواتر فيها نحو استواء الطرفين والواسطة؛ فإن اليهود لم يوجد فيهم استواء الواسطة، والنصارى لم يوجد فيهم استواء الطرفين؛ فإنهم كانوا قليلين في الابتداء وكذا المجوس؛ لأنا نقول: القوم يدعون صحة التواتر فيها، كادعاء غيرهم في أخبارهم المتواترة؛ لأن
الطريق إلى تصحيح التواتر للفرق ليس إلا أن أهل التواتر في كل زمان يخبرون عن الذين ينقلون منهم الخبر أنهم متصفون بصفات أهل التواتر، وأن كل ما ظهر بعد خفاء، وقوي بعد ضعف فلا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه ووقت حدوثه كسائر المذاهب المحدثة فلو كان ذلك الخبر كذبا موضوعا لاشتهر وضعه، ووقت وضعه ولما لم يظهر شيء من ذلك علمنا صحته، والقوم يدعون صحة تواترهم في تلك الأمور بهذين الطريقتين وتطرق الطعن والكذب إلى أحدهما يوجب تطرقه إلى الآخر.
وما يقال: من أن اليهود قد قلوا في زمان بختنصر إلى أن لم يبق منهم عدد التواتر فضعيف؛ لأن فناء الأمم المتفرقة في شرق البلاد وغربها إلى هذا الحد بعيد جدا، ولأن شرع موسى عليه السلام كان منقولا بالتواتر إلى زمان عيسى عليه السلام ولهذا كان الناس مكلفين به، فلو لم يبق عددهم إلى عدد التواتر لما كان الأمر كذلك، وكذلك ما يقال في النصارى: أنهم كانوا قليلين في ابتداء الأمر لأن الناس أجمعوا على أن الناس كانوا مكلفين بشرع عيسى عليه السلام إلى زمان محمد عليه السلام فلو لم يكن شرعه منقولا ابتداء لما قام به الحجة فيما لا يقبل فيه غير المفيد لليقين كأصول الديانات، ولما كان الناس مخاطبين بأصوله وفروعه إلى زمان نبينا عليه السلام علمنا فساد ما ذكروه.
وسابعها: لو حصل العلم عقيب التواتر المستجمع لشرائطه، فإما أن يكون الحصول بصفة الإمكان أو بصفة الوجوب، القسمان باطلان فبطل القول بالحصول وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن يحصل بصفة الإمكان لوجهين:
أحدهما: أن ترجح حصوله حيث حصل على لا حصوله حينئذ ترجح لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال.
وثانيهما: أنه حينئذ لا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم لا محالة بل يجري حصوله عقيبه مجرى الأمور الاتفاقية، وما يكون كذلك امتنع الحكم عليه بكونه مفيدا، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحصل بصفة الوجوب؛ لأن المستلزم له حينئذ إما: قول كل واحد منهم أو قول المجموع، والأول باطل.
أما أولا: فبالاتفاق، لأن قول الواحد لا يفيد العلم عند الخصم أيضا من الأفراد المتعاقبة لزم ما تقدم من المحذور وزيادة وهي قيام الصفة الموجودة.
وأما ثانيا: فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد الغير المعصوم الذي لم تحتف به قرينة لا يفيد العلم.
وأما ثالثا: فلأن تلك الإخبارات إن وجدت دفعة واحدة لزم اجتماع المؤثرات الكبيرة على الأثر الواحد / (55/أ) وهو ممتنع، وإن وجدت على التعاقب لزم نقض العلة العقلية وهو محال؛ لأنه إذا حصل العلم بالسابق استحال حصول ذلك العلم بعينه باللاحق لاستحالة إيجاد الموجود، واستحال أيضا وجود مثله به؛ لاستحالة الجمع بين المثلين، وحينئذ يلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن الاستلزام وهو المطلوب، والثاني أيضا باطل؛ أما أولا: فلأنه إن اشترط في ذلك حصول تلك الإخبارات دفعة واحدة لزم خلاف الإجماع؛ لأن كل من يقول الخبر المتواتر يفيد العلم لا يفرق بين أن يوجد دفعة واحدة أو على التعاقب بل الغالب فيه التعاقب، فالقول بأنه يفيد العلم ويشترط في إفادته العلم حصوله دفعة واحدة قول لم يقل به أحد، وإن لم يشترط فيه ذلك لزم جواز إسناد الأثر الوجودي إلى المعدوم؛ إذ ليس للمجموع وجود عند حصول الأثر على تقدير حصوله على وجه التعاقب لكن ذلك محال.
وأما ثانيا: فلأن المستلزمية نقيض اللا مستلزمية التي هي عدمية فكانت
ثبوتية فالموصوف بها إن كان المجموع الموجود دفعة واحدة لزم قيام الصفة الواحدة بالأشياء الكثيرة وهو محال، وإن كان الموصوف بها المجموع الحاصل من الأفراد المتعاقبة لزم ما تقدم من المحصول وزيادة وهي قيام الصفة الموجودة بالمعدوم.
وأما ثالثا: فلأنه إن لم يحصل عند الاجتماع أمر زائد على حالة الإنفراد وجب أن لا يفيد كما كان في حالة الانفراد وإن حصل فالمقتضى له ليس هو كل واحد من تلك الأفراد وإلا لوجب حصوله حالة الانفراد وحينئذ يلزم حصول العلم بخبر كل واحد منهم وهو ممتنع بل المجموع والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل، أو ينتهى إلى أن يكون المستلزم لذلك كل واحد من تلك الأفراد وهما ممتنعان.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المستلزم لذلك الهيئة الاجتماعية وما ذكرتم من الدليل لا يلتفت إليه بالنسبة إليها لو سلم تأتيه بالنسبة إليها لأنها معلومة الحصول [بالضرورة] لكل واحد فلا يلتفت إليه؟
قلت: فالهيئة الاجتماعية المستلزمة له إن كانت هي الهيئة الاجتماعية الخارجية وجب أن لا يحصل العلم بما يحصل من التواتر على التعاقب؛ ضرورة عدم حصولها في الخارج؛ لأن الهيئة الاجتماعية الخارجية تستدعي تحقق الأجزاء بأسرها في الخارج، وإن كانت هي الهيئة الاجتماعية الذهنية فهي أيضا باطلة؛ لأنها أمر عدمي والأمر العدمي لا يسلتزم الأمر الوجودي.
وثامنها: أنه لو حصل العلم بخبر التواتر فالمستلزم له ليس آحاد الحروف وهو ظاهر جدا، ولا مجموعها؛ لأنه لا وجود للمجموع في الخارج ومستلزم الأمر الوجودي يجب أن يكون وجوديا، ولا الحرف الأخير بشرط
أن يكون مسبوقا بعيره من الحروف المعتبرة في الإفادة؛ لأن المسبوقية عدمية فيستحيل أن يكون جزء العلة أو شرطها، ولا هو بشرط وجود سائر الحروف [قبله؛ لأنه لا وجود لسائر الحروف عند وجود الحرف الأخير والشرط] يجب أن يكون مقارنا للمشروط.
وتاسعها: أنه لو كان أعلم الضروري حاصلا من الخبر المتواتر لما خالفناكم مع كثرتنا وتفرقنا في الأطراف والنواحي مع إنصافنا حتى لا يتوهم التواطؤ على الإنكار وحتى لا يحمل ذلك على المكابرة والعناد.
الجواب: عما ذكرتم من جهة الإجمال والتفصيل:
أما من جهة الإجمال فهو أن ما ذكرتم تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب.
أما من جهة الإجمال فهو أن ما ذكرتم تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب.
وأما من جهة التفصيل فالجواب عن الأول: أنا ندعي ذلك بالنسبة إلى كل واحد من العقلاء سواء اعتقد ذلك أو لم يعتقده بدليل أن [من] لم يمارس شيئا من العلوم ولم يعرف قواعدها فإنه إذا سمع الخبر المتواتر اضطر إلى العلم بمدلوله، ولم يجد إلى التشكك فيه سبيلا، ولذلك لم يجد العامي من نفسه شكا بين وجود دمشق إلى شاهدها وبين بغداد التي ما شاهدها ولكن سمع بالتواتر وجودها.
وأما أنكم لم تجدوا ذلك من أنفسكم [فلو صح هذا منكم فإنما هو بناء على ما تعتقدون في أنفسكم] من عدم إفادته العلم، وفرق بين عدم اعتقاد
إفادته العلم، وبين اعتقاد عدم إفادته العلم، ونحن إنما ادعينا ذلك بالنسبة إلى الأولين دون الآخرين.
وعن الثاني ما تقدم من أن العاقل الذي لم يعتقد شيئا من الآراء والمذاهب فإنه لا يجد من نفسه تفاوتا بين ما شاهده، وبين ما سمع وجوده بالتواتر كما تقدم تمثيله في العامي، وأما كون ضرورته مختلفا فيها فذلك لا يدل على أن الجزم به ليس كالجزم في المشاهدات؛ لجواز أن يكون أصل الشيء معلوما بالضرورة بحيث يكون الجزم به مساويا لضروريات أخر ولا يكون وصفه كذلك.
وكون ذلك العلم ضروريا أو نظريا كيفية من كيفيات ذلك العلم فجاز أن يكون الجزم به دونه.
وعن الثالث: إنا نختار أنه يفيد العلم الضروري، وسنجيب عن أدلة القائلين بأنه نظري.
وعن الرابع: أنا لو سلمنا أنه أقوى، فإنما كان أقوى، لأنه بديهي والعلوم البديهية لا تقبل احتمالا ما لا بحسب العادة، ولا بحسب العقل، بخلاف العلوم العادية فإنه وإن لم تحتمل احتمالا ما بحسب العادة، لكنها تحتمل بحسب العقل، والعلم الحاصل عقيب التواتر إنما هو بحسب العادة فإن الله تعالى أجرى عادته بخلقه عقيبه وبه خرج الجواب عن / (56/أ).
الخامس: فإن احتماله النقيض بحسب العقل لا يقدح في يقينيته العادة فحينئذ يمنع أنه ليس بيقيني فما هو مثله يكون أيضا كذلك.
وعن السادس: أن حكم المجموع المركب من الأفراد قد يكون مخالفا لحكم تلك الأفراد والعلم بذلك ضروري بعد الاستقراء.
وعن السابع: أنه فرض محال، فإنه مهما حصل في شيء يحصل التواتر بشرائطه فيه، وحينئذ يستحيل حصوله في نقيضه عندنا وحينئذ لا يمتنع أن يكون فرضه مستلزما لما ذكروه من المحال فإن المحال جاز أن يستلزم المحال.
وعن الثامن: أن ذلك لفقد شرط صحة التواتر، وأما دعواهم صحة التواتر فيها كما فيما ينقلونه عن موسى عليه السلام أنه قال:"تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض" فبهت صريح؛ فإن اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام مع شدة حرصهم على الطعن في نبوته لم يذكروا ذلك مع تشبثهم بمطاعن لا أصل لها، ولو كان ذلك منقولا بالتواتر عن موسى عليه السلام لكان ذلك من أعظم المطاعن لهم وكيف لا؟ وقد نقل أنه وضع ذلك ابن الراوندي وعلمهم بأن يدعو التواتر فيه، ثم هذا يشكل على الخصم أيضا؛ لأنه وإن نازعنا في أن التواتر يفيد العلم لكنه لا ينازع في أنه يفيد الظن الغالب بل يساعد عليه، وما يدعون التواتر فيه ليس هو مظنون الصحة؛ بل هو مقطوع البطلان، فما هو جوابه بالنسبة إلى الظن فهو جوابنا بالنسبة إلى العلم وليس ذلك إلا أنه لم يوجد شروط صحة
التواتر فيها.
وعن التاسع: أن نقول لم لا يجوز أن يحصل بصفة الإمكان؟
قوله في الوجه الأول: "لزم ترجيح احد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال".
قلنا: العلم الحاصل عقيب التواتر إنما هو بخلق الله تعالى عندنا فجاز أن يخلقه عقيب تواتر دون تواتر، ولا نسلم امتناع ترجيح أحد الجائزين على الآخر بالنسبة إلى القادر المختار.
قوله في الوجه الثاني: أن حصوله عقيبة حينئذ يجري مجرى الأمور الاتفاقية.
قلنا: لا نسلم بل يجري مجرى ترتب المسبب على السبب الأثيري.
سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون بصفة الوجوب؟
قوله: "والمستلزم له أن كان قول المجموع لزم كذا وكذا".
قلنا: إنما يلزم ما ذكرتم من المحذور أن لو كانت الإخبارات مستلزمة للعمل بذواتها، لكن ذلك باطل بل بخلق الله تعالى العلم عقيب تلك الإخبارات، ومعلوم أن على هذا التقدير لا يلزم ما ذكرتم من المحذور وبه خرج الجواب عن العاشر أيضا.
وعن الحادي عشر: أن مخالفتكم فيه لو كان يمنع من كونه ضروريا لكانت مخالفة السوفسطائية المنكرين للمحسوسات تمنع أيضا أن يكون العلم