الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الرابع
"في مسند الراوي وكيفية روايته
"
الراوي لا يخلو إما أن يكون صحابيا أو غير صحابي:
فإن كان صحابيا فمراتب روايته سبع:
المرتبة الأولى: أن يقول الصحابي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو أخبرني، أو حدثني، أو شافهني بكذا فهو خبر عن الرسول واجب القبول ولا خلاف فيه.
المرتبة الثانية: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا "فهذا ظاهره النقل عنه من غير واسطة.
وليس نصا فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون وصل إليه بواسطة، وهو حجة على التقديرين على ما ذكرناه في المرسل.
المرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي: "أمر النبي بكذا، ونهى عن كذا، فهذا نازل منزلة قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يقدح في حجية ذاك قدح في حجية هذا مع زيادة احتمال آخر يتطرق إلى هذا دون ذاك وهو: أن
ما حكاه ليس لفظ الرسول الذي فيه الحجة بل هو حكاية عنه، واختلاف مذاهب الناس في صيغ الأوامر والنواهي مشهور، فلعله ظن ما ليس بأمر ونهى أمرًا ونهيًا فحكى ما حكى، ومع هذا فالأكثرون على أنه حجة خلافًا لداود الظاهري وبعض المتكلمين.
والصحيح ما عليه الأكثرون؛ لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا تيقن أن ما صدر منه من الصيغة أمر ونهى من غير خلاف، أو وإن صدر منه صيغة مختلف فيها لكنه علم مراده عليه السلام منها، لكونه- عليه السلام ضم إليها ما يفيد أن مراده منها الأمر والنهي، وحينئذ يجب أن تكون حجة.
فإن قلت: لا نسلم أنه لا يطلق تلك اللفظة إلا إذا تيقن كون ما صدر منه- عليه السلام أمرًا ونهيًا؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون قد أطلق ذلك بناء على الظن الغالب.
لا يقال أنه غير جائز لأنه حينئذ يكون الراوي قد أوجب على الناس ما يجوز أن لا يكون واجبًا عليهم، وهو مما ينافيه ظاهر عدالته؛ لأنا لا نسلم أنه أوجب عليهم حينئذ ما يجوز أن لا يكون واجبًا عليهم؛ وهذا لأنه إنما يلزم أن لو كانت هذه الصيغة حجة] فإثبات كون هذه الصيغة حجة [به دور.
قلت: ما علم أنه لا يجب على المجتهد بل لا يجوز أن يتبع ظن مجتهد
آخر، فلو أطلق أمر النبي ونهيه الذي هو حجة على جميع الناس/ (113/أ) بناء على الظن الغالب مع أنه ليس بحجة إلا في حقه ومن تابعه من المقلدين لكن ملبسًا ومدلسًا على الناس وهو ما ينافيه ظاهر عدالته فيمتنع حمله عليه ظاهرًا، فوجب حمله على التيقن والتحقق وحينئذ يجب أن يكون حجة.
المرتبة الرابعة: أن يقول الصحابي: "أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، وأوجب علينا كذا، وحرم علينا كذا، وأبيح لنا كذا".
فالذي عليه الشافعي- رضي الله عنه وأكثر الأئمة أن ذلك يفيد أن الآمر والناهي، والموجب والمحرم والمبيح هو الرسول فيكون حجة.
وذهب الصيرفي والكرخي وجماعة من الأصوليين إلى] أن [ذلك متردد بين أمر الله الذى اشتمل عليه الكتاب، وبين أمر الرسول، وبين أمر مجموع الأمة، وبين أمر بعض الأئمة والولاة، وبين أن يكون قد قال ذلك بناء على الاستنباط لقياس أو غيره وأضافه إلى آمر وناهي إما لزعمه أن ذلك الدليل آمر وناهي، أو صاحب الشرع الذى نصب ذلك الذي استنبط منه آمر وناهي بذلك فلا يكون حجة عندهم؛ لأنه دائر بين أن يكون حجة وبين أن لا يكون حجة فلا يكون حجة بمجرد الاحتمال والأصل عدم الحجية.
والصحيح ما ذهب إليه الجماهير ويدل عليه وجهان:
أحدهما: أن من التزم طاعة رئيس وعد من جملة الممتثلين لأوامره ونواهيه إذا قال: "أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا" "فهم منه أمر ذلك الرئيس ونهيه؛ ولذلك لو قال واحد من خدم السلطان: أمرنا بكذا فهم] كل أحد [منه أمر السلطان، والصحابي بالنسبة إلى الرسول كذلك الملتزم وزيادة، فوجب أن يفهم من قوله أمرنا بكذا أمر الرسول.
وثانيهما: أن الظاهر من حال الصحابي أنه قصد بذلك أن يعلمنا الشرع لا أنه قصد به مجرد الإخبار عن ذلك، وحينئذ يجب حمله على أمر الرسول؛ لأنه لا يجوز أن يحمل على أمر بعض الأئمة والولاة؛ لأنه لا يستفاد من قولهم الشرع، ولا على ما فهمه من الدليل؛ لأن فهمه ليس بحجة إلا بالنسبة إلى من قلده من العوام، فلا يتحقق به حينئذ تعلم الشرع ولا على أمر مجموع الأمة؛ لأنه من الأمة وهو لا يأمر نفسه، ولا على أمر الله الذي اشتمل عليه الكتاب؛ لأنه ظاهر لكل أحد غير مختص به ومن عداه من الصحابة فلا يستفاد منه، وحينئذ يتعين أن يكون محمولًا على أمر الرسول.
المرتبة الخامسة: أن يقول الصحابي- رضي الله عنه: "من السنة كذا" كقول علي- رضي الله عنه: "من السنه أن لا يقتل حر بعبد".
فالذي عليه الأكثرون أنه يفهم منه سنة الرسول فيكون حجة خلافًا للصيرفي والكرخي فإنهما ذهبا إلى أنه متردد بين سنته، وسنة غيره فلا يكون حجة.
والصحيح ما ذهب إليه الأكثرون والدليل عليه ما تقدم من الوجهين.
واحتج الخصم بوجهين:
أحدهما: أن لفظ السنة غير مختص بالرسول بل هو مستعمل في سنته وسنة غيره قال- عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى".
وقال- عليه السلام: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حجة.
وجوابه: أن المدعى أن السنة إذا أطلقت فهم منها سنة الرسول لا أنها لا تستعمل إلا في سنة الرسول، وما ذكرتم إنما يدل على نفي الثاني لا على
نفي الأول؛ ضرورة أن السنة فيما ذكرتم من الاستعمال غير مطلقة بل هي مضافة إلى أربابها، ولا بعد في أن يفهم عند إطلاق الشيء ما لا يفهم عند إضافته.
فإن قلت: قد وردت مطلقة والمراد منها غير سنة الرسول كما في أثر علي رضي الله عنه إذ نقل عنه-رضي الله عنه أنه قال: "جلد رسول الله- صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة" والمراد منه سنة عمر.
قلت: لا نسلم أن المراد من قوله ما ذكرتم بل هو محمول على سنة الرسول؛ وهذا لأن الزيادة على الأربعين شرعت تعزيرًا لمظنة الافتراء، ولهذا قال علي- رضي الله عنه لما شاوروه في ذلك:"إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون" ولا شك أن التعزير سنة سنها الرسول-عليه السلام.
وثانيهما: أن السنة مأخوذة من الاستنان وذلك غير مختص بشخص دون شخص، فحيث حصل فيه معنى الاستنان حصلت السنة فيه.
وجوابه: ما سبق.
وأيضًا: فإن صدق المشتق غير لازم لصدق المشتق منه ولو سلم ذلك، لكن يلزم منه صدقه بحسب اللغة لا بحسب العرف] والمدعى اختصاص السنة بالرسول بحسب العرف [عند الإطلاق وما ذكرتم لا ينفيه.
المرتبة السادسة: أن يقول الصحابي: عن النبي- عليه السلام، الحق أنه ظاهر أنه سمعه منه- عليه السلام فيكون حجة، وبتقدير أن أخبره به غيره من الصحابة فهو أيضًا حجة لما سبق في قوله: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من ذهب إلى أنه ظاهر في أنه أخبره به إنسان آخر عنه- صلى الله عليه وسلم وهو ساقط لما سبق في المرسل.
المرتبة السابعة: أن يقول الصحابي: "كنا/ (114/ أ) نفعل كذا، أو كان يفعل كذا، أو كانوا يفعلون كذا"، كقول عائشة- رضي الله عنها:"كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه".
فالذي عليه الأكثرون أنه حجة؛ لأن الظاهر من حال الصحابي أنه قصد بذلك أن يعلمنا الشرع، ولم يكن كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد الرسول- عليه السلام مع علمه بذلك: ومع أنه- عليه السلام ما كان ينكر عليهم.
أو كان ذلك فعل مجموع الأمة؛ لأن فعل البعض منهم ليس حجة، وكونه بحيث يسوغ فيه الاجتهاد، وتجوز مخالفته عن طريق لا ينفي هذا
الاحتمال؛ لأن الإجماع المروي بطريق الآحاد ظني، ولو فرض تواتره لكنه لم يتعين لهذا الاحتمال بل هو متردد بينه وبين الاحتمال الأول فلذلك لم يكن] ذلك] إجماعًا قطعيًا.
وأما إذا كان الراوي غير صحابي فمراتب روايته أيضًا سبع:
المرتبة الأولى: وهي أعلاها وهي أن يقول الراوي: حدثني فلان، أو أخبرني، أو سمعت فلانًا يقول كذا، أو قال فلان.
وإنما يجوز له ذلك إذا قرأ الشيخ عليه وقصد إسماعه لذلك الخبر إما وحده أو مع غيره، فأما إذا لم يقصد إسماعه لا وحده، ولا مع غيره، فليس له أن يقول: حدثني أو أخبرني؛ لأنه لم يحدثه ولم يخبره فلو قال ذلك لكان كاذبًا فيه، وله أن يقول: سمعته يقول كذا، أو قال فلان كذا أو محدث بذلك أو مخبر بذلك؛ لأنه صادق في ذلك كله، وأما السامع فإنه يلزمه العمل بذلك الخبر سواء قصد إسماعه، أو لم يقصد؛ لأنه غلب على ظنه أنه كلام الرسول، والعمل بالظن واجب، وأما أنه كيف يروي ذلك الخبر فالحال فيه كالحال في الراوي.
المرتبة الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فإن غلب على الظن أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه، وإلا كان ينكره فهو كقوله: هذا صحيح
فيجب العمل به، ويجوز له الرواية خلافًا لبعض أهل الظاهر والمتكلمين.
والمجوزون اختلفوا:
فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز أن يقول إلا قوله: قرأت عليه، أو قرئ عليه وأنا أسمع.
والأكثرون على أنه يجوز له أن يقول معه: أخبرنا أو حدثنا فلان قراءة عليه، فإما أن يقول حدثنا أو أخبرنا فلان مطلقًا من غير أن يقول قراءة عليه فلا.
وجوز الأقلون الكل حتى قوله: سمعته على ما دل عليه نقل الإمام، وكلام غيره يدل على أنه لا خلاف في سمعت.
وكذا الخلاف فيما إذا قال القارئ للشيخ بعد قراءة الحديث عليه: "أرويه عنك؟ فقال: نعم؛ فإن المتكلمين لم يجوزوا الرواية ها هنا أيضًا ولا يخفى أن الخلاف فيه أبعد من الأول.
احتج الجماهير: بأنه حصل للقارئ غلبة الظن بأن ما قرأه على الشيخ كلام الرسول؛ إذ الكلام مفروض فيه فوجب أن يجب عليه العمل كما لو حدثه هو بذلك، ويجوز له الرواية بقوله: أخبرنا قراءة عليه؛ لأن الإخبار وإن كان حقيقة فيما يفيد الخبر من الألفاظ المسموعة على ما تقدم بيانه في أول هذا الباب وهو غير حاصل فيما نحن فيه، لكن لا نشك في أنه يصح استعماله على وجه التجوز فيما يفيد الخبر والعلم من غير الألفاظ على ما تقدم شواهده من الاستعمال، فإذا قال قرأت عليه صار هذا قرينة لفظية دالة على إرادة المجاز من قوله أخبرني وحدثني فوجب أن تصح روايته بهذا اللفظ؛ لأنه صادق في ذلك لأنه حاصل فيما نحن فيه إذ السكوت أفاده ذلك.
وبهذا يعرف أنه لا يصح أن يقتصر على قوله أخبرني وحدثني، لأنه حينئذ يكون كاذبًا فيه لأنه ما أخبره ولا حدثه بلفظ.
وما يقال: من أن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهو حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أن السكوت أفاده ذلك فممنوع؛ لما تقدم أن الخبر حقيقة في القول المخصوص.
فإن قلت: هب أنه حقيقة في القول المخصوص لكن لم لا يجوز أن يقال: إنه نقل إلى ما يفيد الخبر والعلم سواء كان لفظًا أو لم يكن، أو أنه استعمل
فيه على وجه التجوز كما ذكرتم ثم غلب استعماله فيه بحيث استغنى عن القرينة كما في سائر المجازات الغالبة؟
قلت: النقل إما عام أو خاص، وكلاهما ممنوعان فيما نحن فيه إذ النقل على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لدلالة وهي ممنوعة الحصول فيما نحن فيه، ثم الذي يدل على أنه النقل غير حاصل هو أنه لا يحصل إلا إذا ثبت اتفاق الكل عليه في العام، واتفاق كل أرباب ذلك الفن في الخاص وهو غير حاصل فيما نحن فيه؛ أما الأول فظاهر وأما الثاني: فلأن جماعة من المحدثين نازعوا في ذلك ومعه لا يتحقق النقل الخاص أيضًا بالنسبة إلى اصطلاحهم جميعًا اللهم إلا أن يكون المدعى اصطلاح جماعة منهم، وحينئذ لا يجوز استعماله مطلقًا فيما بينهم خاصة.
المرتبة الثالثة: أن يقال للراوي بعد قراءة الحديث عليه: هل سمعت هذا الحديث عن فلان؟ فيقول نعم، أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه الأمر كما قرئ علىَّ فهذه المرتبة كالمرتبة الأولى في وجوب العمل به على السامع، وفي أن له أن يقول في روايته ما كان له أن يقول في المرتبة الأولى] من [قوله أخبرني، أو حدثني، أو سمعت فلانًا؛ لأنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يسمع من البائع أن يقول: بعت، وبين أن يسمع منه بعد قراءة كتاب البيع عليه أن يقول: الأمر كما/ (115/ أ) قرئ عليّ هذا ما دل عليه نقل الإمام، وكلام غيره يدل على أنه لا يجوز أن يقول: سمعته يقول.
وهذه المرتبة أقوى من المرتبة الثانية، وإنما قدمناها عليها لأنها في مقابلة المرتبة الأولى في التقسيم.
المرتبة الرابعة: أن يقال له بعد قراءة الحديث عليه: "هل سمعت هذا
الخبر؟ "فيشير برأسه، أو بأصبعه، فالإشارة- هاهنا- كالعبارة في وجوب العمل به، ولا يجوز أن يرويه عنه بقوله: حدثني، وأخبرني، وسمعته؛ لأنه ما حدثه ولا أخبره بشيء ولا سمع منه شيئًا، فلو قال ذلك لكان كاذبًا.
وهذا التعليل لا يستقيم على رأي من يزعم أن الإخبار ما يفيد الخبر سواء كان لفظًا أو لم يكن الإشارة أفادته الخبر.
والعجب من الإمام أنه علل في صورة السكوت بأن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد أفاد فله أن يقول: أخبرني، وحدثني، وفي هذه الصورة علل بما تقدم، وهو متناقض فإن من المعلوم أن الإشارة في إفادة الخبر والعلم كالسكوت بل أبلغ فإن فيه السكوت وزيادة فإذا جاز في تلك الصورة أن يقول: أخبرني، وحدثني فلأن يجوز في هذه الصورة بطريق الأولى.
المرتبة الخامسة: أن يكتب إلى غيره: "بأني سمعت كذا من فلان" فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابة، إذا علم أنه كتابه، أو ظن أنه خطة جاز ذلك- أيضًا- لكن ليس له أن يقول: "سمعته أو حدثني؛ لأنه ما سمع وما حدث بلى يجوز له أن يقول: أخبرني؛ لأن من كتب إلى غيره كتابًا يعرفه فيه واقعة جاز له أن يقول: أخبرني.
هذا ما نقله الإمام، وكلام الشيخ الغزالي وغيره يشعر بخلافه؛ فإن كلامه يدل على أنه لو رأى خط الشيخ: بأني سمعت عن فلان كذا فإنه لا
يجوز أن يروى عنه؛ لأنه روايته شهادة عليه بأنه قال] فلان [والخط لا يعرفه هذا.
نعم يجوز له أن يقول: رأيت مكتوبًا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان؛ فإن الخط أيضًا يشبه الخط، ولو قطع بأنه خطه بأن سمع منه أنه قال: هذا خطي أو بطريق آخر، فإنه مع ذلك لا يجوز له أن يروى عنه مالم يسلطه على الرواية بصريح قوله، أو بقرائن تفيد ذلك؛ لأنه يجوز أن يكون قد سمعه ثم يتشكك فيه ولا يرى روايته عنه، فإنه ليس كل ما يسمعه الإنسان فإنه يرى نقله عنه ومعه كيف تجوز الرواية عنه.
فإن جعل كونه كتب إليه قرينة دالة على التسليط على الرواية لم يكن بين كلاميهما تناقض وإلا فهو حاصل بينهما قطعًا، ولعل الإمام رأى أن ذلك قرينة في ذلك، وإلا فلا فائدة في أن يكتب إليه ذلك فإن مجرد الإخبار عن ذلك مما لا فائدة فيه، وإذا جاز له الرواية فإنما يقول أخبرني كتابة، أو حدثني كتابة، ولا يجوز أخبرني أو حدثني مطلقًا.
المرتبة السادسة: المناولة، وهي أن يقول: خذ هذا الكتاب وحدث به عني، أو اروه عني فقد سمعته من فلان، أنه يجب على السامع العمل بما فيه، وله أن يروى عنه بقوله: ناولني فلان كذا، أو أخبرني، وحدثني مناولة وفاقا.
وهل يجوز له أن يقتصر على قوله أخبرني أو حدثني؟
اختلفوا فيه: والأظهر أنه لا يجوز؛ لأنه يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب.
ومنهم من جوزه كما فيما إذا قرأ عليه وهو ساكت بل هنا أولى؛ لأنه صدر منه هنا نطق يدل على صحته وعلى جواز الرواية عنه.
فلو قال: خذ هذا الكتاب، أو ناوله بالفعل ولم يقل سمعته فاروه عني فأنه لا يجوز له عنه وفاقًا، ولا يجب عليه العمل] بما فيه. ولو قال: سمعت هذا الكتاب فاروه عني أو حدث به [عني] من غير أن يناوله الكتاب بالفعل [أو يقول: خذ هذا الكتاب فإنه يجوز له الرواية عنه وفاقا، ولا معنى للمناولة فهي زيادة تكلف أحدثها بعض المحدثين.
أما لو قال: سمعت ما في هذا الكتاب سواء كان مع المناولة أو لم يكن معها من غير أن يقول فحدث به عني، أو فاروه عني هل يسلطه على الرواية أم لا؟
فصريح كلام الإمام يدل على أنه يسلطه عليها، وكلام غيره يدل على أنه لا يسلطه عليها وهو الأظهر؛ لأنه يجوز أن يكون قد سمع ثم تشكك، ومعه لا تجوز له الرواية فلا يروى عنه، ولو قال: حدث عني أو ارو عني [ما في الكتاب] ولم يقل له إني قد سمعته، أو ما يجرى مجراه مما تسلط
على الرواية فليس له أن يروي عنه؛ لأن شرط الرواية السماع أو ما يجري مجراه وهو غير حاصل فيه فلا يجوز لعدم شرطه، وإنما يجوز للشيخ ذلك إذا علم أن النسخة المشار إليها هي النسخة التي سمها بعينها، أو علم موافقتها لها بالمقابلة المتقنة فأما إذا [لم] يعلم ذلك لم يجز له ذلك، فعلى هذا إذا سمع الشيخ نسخة من كتاب البخاري مثلًا فليس له أن يقول النسبة إلى نسخة أخرى منه إلا بالشرط المتقدم، أولًا لأن النسخ تتفاوت، فعلى هذا لا ينبغي أن يروي إلا ما يقطع بسماعه وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يقطع أن ما أداه هو معنى ما سمعه من غير تفاوت أصلًا، فإن شك في شيء من ذلك لم تجز له الرواية.
فإن قلت: فلو لم يقطع بالسماع، ولا هو متشكك [فيه بمعنى أنه متردد فيه ترددًا على السواء لكن] على ظنه السماع، أو إن كان قاطعًا بالسماع لكن لم يقطع الشيخ الذي سمع منه بل يغلب على ظنه أنه سمعه من معين فهل يجوز له روايته عنه أم لا؟
قلت: اختلفوا فيه:
فمنهم من لم يجوز روايته، ولا العمل به؛ لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة فإنه إذا ظن أن زيدًا أقر أو باع أو نكح وغيرها من/ (116/ أ) التصرفات ولم يقطع به فإنه لا يجوز أن يشهد لعليه بذلك، وهذا إنما يستقيم إذا رواه مسندًا.
فأما إذا رواه مرسلًا فينبغي أن يجوز فيما إذا قطع بالسماع ممن يقبل روايته على رأي من يقبل المرسل منهم.
فإما إذا ظن أصل السماع فلا كما لا يجوز روايته مسندا إذا ظنه سنداً
عندهم فعلى هذا لو قطع في مائة حديث مثلًا بأن واحدًا منها سمعه من غير الشيخ الذي سمع الباقي منه، لكنه لم يعرفه بعينه فإنه لا يجوز له رواية شيء منها مسندًا لا إلى شيخ الأكثر ولا إلى شيخ ذلك الواحد؛ لأنه ما من واحد منها إلا يحتمل أن يكون سمعه من شيخ الأكثر أو من شيخ ذلك الواحد فلا يجوز أن يسنده إلى واحد بعينه.
ومنهم من جوز الرواية بغلبة الظن والعمل به؛ لأن الاعتماد في هذا الباب إنما هو على غلبة الظن؛ ولهذا فإن الناس كانوا يعملون بكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم في أمور الصدقات وغيرها المبعوثة على يد آحاد الصحابة مع أن ما فيه مما لم يسمعه الحامل والمحمول [إليه وما ذاك إلا لحصول غلبة الظن بصدقه، وفي هذه الدلالة] نظر، أما أولًا: فلأنا لا نسلم أن الحامل ما كان سمع ما في الكتاب.
سلمناه لكن يعلم قطعًا أن فيه كلامه فإذا أخبر هو للمحمول إليه بأنه كلام الرسول كان ذلك كسماع ما فيه فلا يكون العمل مجرد ظن السماع بل بالقطع بتحقق ما يجرى مجرى السماع.
وإن كان مظنونا صدقه كما إذا سمع من الشيخ فإنه يقطع بالسماع وإن كان كون صادقًا فيه مظنونا.
وأما ثانيًا: فلأن الدعوى عامة والدليل خاص إذ لا يدل ذلك على جواز الرواية والعمل به معًا بل لو دل فإنما يدل على الثاني دون الأول.
المرتبة السابعة: الإجازة:
وهي أن يقول: "أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو كل ما صح عندك أنه من مسموعاتي".
واختلفوا في جواز الرواية:
فجوزها الأكثرون.
ومنع منها الأقلون ونسب ذلك إلى أبي حنيفة- رضي الله عنه.
ومنهم من فصل فقال: إن كان المجيز والمستجيز كلاهما يعلمان ما في الكتاب من الأحاديث جاز وإلا فلا، وهو اختيار أبي بكر الرازي من الحنفية.
فعلى هذا الإجازة بكل ما ثبت أنه من مسموع الشيوخ لا يجوز؛ ضرورة أنهما لا يعلمان جميع تلك الأحاديث، وإنما يجوز ذلك بالنسبة إلى كتاب معين بشرط أن يعلمان ما فيه من الأحاديث.
واحتج للأولين بإجماع أهل الحديث عليه، وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم حصول الإجماع عليه وكيف ندعي ذلك مع حصول الخلاف فيه من المتقدمين والمتأخرين.
والأولى في ذلك أن يقال: إنه ليس المراد من قول الشيخ أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أنه أجاز له أن يتحدث عنه بما لم يحدثه به؛ لأنه تجويز للكذب وهو خلاف عدالته، والتماسه خلاف عدالة السائل أيضًا، بل المراد منه: أني أحدثك أو أخبرك أني سمعت الكتاب الفلاني، فاروه عني،
وهذا المفهوم وإن كان غير مستفاد بحسب الوضع اللغوي، لكنه مستفاد منه بحسب الاصطلاح العرفي من حيث إن العادة جارية بأن الثقة لا يجيز لغيره أن يروي إلا ما سمعه وإذا كان كذلك وجب أن يجوز كما إذا قال: سمعت الكتاب الفلاني فاروه عني فإن ذلك جائز وفاقا فكذا هذا. ولقائل أن يقول: فالإجازة العامة من غير تعيين ما أجازه حينئذ ينبغي أن لا تصح؛ لأن قوله: أجزت لك أن تروي عني كل ما صح عندك أنه من مسموعاتي [جار مجرى قوله: سمعت كل ما صح عندك أنه من مسموعاتي] فاروه عني، وهذا لا يصح قبل العلم بذلك الذي صح عنده؛ لأنه جوز أن يصح عنده ما ليس بمسموع له أنه مسموع له فحينئذ يلزم إما كذبه فيما أخبره من أنه سمع كل ما صح عنده أنه سمع، أو يلزم أن ما ليس بمسموع له مسموع له وكلاهما باطلان.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن ما ذكرتم من الاحتمال وإن كان قائمًا فيه لكن مع ذلك يمكن أن يقال: إنه يجوز بناء على الظاهر، فإن الظاهر أنه لا يصح عند ما ليس بمسموع له أنه مسموع له، وقد يصح الشيء بناء على الاحتمال الظاهر، ولا يقدح فيه الاحتمال المرجوح.
واحتج المانعون بوجوه:
أحدها: أنه لو جازت الرواية بالإجازة لبطلت فائدة الرحلة، والتالي باطل فالمقدم مثله.
وجوابه: منع الملازمة؛ وهذا فإن ما يستفاد من الرحلة من تحدث الشيخ بالحديث، ومن القراءة عليه، واعترافه أن الأمر كما قرئ عليه غير مستفاد من الإجازة.
وثانيها: أنه لا معنى لإجازة الشيخ للرواية عنه؛ لأن الرواية عنه ليست
حقاً له حتى يتوقف على إجازته بل هو [حق] للشرع، فإن كانت الرواية عند حصول شرائطها جازت سواء أجاز أو لم يجز، ألا ترى أنه لو سمع منه الحديث وهو يتحدث به فإنه يجوز له الرواية عنه وإن منعه عنه، وإن كان عند عدم حصول شرائطها لم تجز الرواية عنه وإن أجازه ألف إجازة كما لو قال: أجزت لك أن تروي عني ما شئت من الأحاديث أو الأحاديث كلها.
وجوابه: أنه يجوز أن يحصل بها شرط من شرائط الرواية فيجوز عندها ولا يجوز عند عدمها، وعدم ما يقوم مقامها وكيف لا وقد بينا أن قوله: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني يتضمن معنى سمعته.
ولا يقال: لو كان صحة الرواية معتمدة على ما تضمنه من معنى السماح لوجب أن تجوز الرواية لو سمع منه قوله: سمعت الكتاب الفلاني؛ لأنا/ (117/ أ) نمنع الملازمة؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون حكم المجموع مخالفًا لحكم أفراده فلا يلزم من جواز الرواية عند السماع والإجازة جوازها عند السماع وحده. ثم السبب في هذا أنه يجوز أن يكون قد سمع لكن لا تجوز الرواية لخلل يعرفه فيها بخلاف ما إذا أجاز فإنه لا يبقى فيه هذا الاحتمال؛ لأن عدالته تمنع من إجازة رواية ما يعرف فيه الخلل.
وثالثها: أنه قادر على أن يحدثه به فحيث لم يحدثه به دل على أنه غير صحيح عنده. وهو ظاهر الفساد غنى عن الإفساد.
ورابعها: أنه لا طريق إلى الرواية عنه، فإنه لم يمكنه أن يقول: حدثنا
أو أخبرنا، أو سمعت منه؛ لأنه حينئذ يكون كاذبًا إذ لم يسمع منه شيئًا، ولم يخبره بشيء، ولم يحدثه بشيء وإذا لم يكن للرواية عنه طريق وجب أن لا يصح؛ لأن ما لا فائدة فيه وجب نفيه.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يجوز ذلك؛ وهذا لأن بعض المجوزين جوز الرواية بها وقد عرف سنده فيما تقدم.
سلمناه لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون له طريق آخر، وإنما يلزم ذلك لو كانت الطرق منحصرة فيما ذكرتم من الألفاظ وهو ممنوع، ثم أنا نتبين أن لها طريقًا آخر وهو أن يقول: أخبرنا، أو حدثنا إجازة، أو أجازني فلان كذا، ولكن هذا آخر كلامنا في الإخبار.
النوع الرابع عشر
الكلام في القياس
وهو مرتب على مقدمة وأبواب: