الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني
في الركن الأول من أركان القياس وهو الأصل
وهو يستحق التقديم على غيره من الأركان؛ لأنه أصل الحكم الذي هو أصل العلة التي هي أصل الفرع لكونه محتاجًا إليها في ثبوت الحكم. وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في شرائط الأصل
وهي ثمانية:
الشرط الأول: أن يكون الحكم الذي قصدت تعديته إلى الفرع ثابتًا فيه؛ فإنه لو لم يكن ثابتًا فيه بأن لم يشرع فيه ابتداء أو وإن شرع فيه لكن نسخ لم يمكن بناء حكم الفرع عليه؛ لأن كون الشيء مبنيًا على الغير صفة له، وتحقق الصفة يستدعي تحقق الموصوف، فإذا لم يكن الموصوف ثابتا لم تكن الصفة أيضًا ثابتة له، ولأنه إذا لم يكن الحكم في الأصل ثابتًا أمكن توجيه المنع عليه فلا ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته.
الثاني: أن يكون الحكم شرعيًا، واحترزنا به عن الحكم العقلي واللغوي فإنا بتقدير أن يجري القياس التمثيلي فيهما فإنه ليس قياسًا شرعيًا بل عقليًا
ولغويًا وكلامنا في القياس الشرعي.
الثالث: أن يكون الطريق إلى معرفته سمعيًا، وهذا على رأينا ظاهر؛ لأن ما لا يكون طريق معرفته سمعيًا لا يكون حكمًا شرعيًا.
وأما على رأي من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي فاحترزوا به عن الحكم الشرعي الذي طريق معرفته العقل.
واحتجوا على اعتبار هذا الشرط: بأنه لو كان طريق معرفة ذلك الحكم في الأصل العقل لكان طريق معرفته- في الفرع- أيضًا العقل وحينئذ يصير القياس عقليًا، لا سمعيًا، وكلامنا في القياس السمعي.
وهذا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن الكلام في القياس السمعي بل في القياس الذي يفيد حكمًا شرعيًا أعم من أن يكون سمعيًا أو عقليًا.
سلمناه لكن معرفة الحكم في الفرع لا يتوقف على معرفة الحكم في الأصل فقط حتى يلزم من كون طريق معرفته في الأصل عقليًا كون طريق معرفته في الفرع عقليًا أيضًا، بل يتوقف على معرفته حكم الأصل وعلى كون ذلك الحكم معللًا بالوصف الفلاني، وعلى معرفة حصول ذلك الوصف بتمامه في الفرع فبتقدير أن تكون المعرفة [الأولى] عقلية يحتمل أن تكون الباقيتان سمعيتين، وحينئذ لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بعد معرفة تينك المقدمتين السمعيتين، والموقوف على السمعي سمعي فيكون القياس سمعيًا، فلم يلزم الخلف على هذا التقدير.
الرابع: أن لا يكون حكم/ (154/ أ) الأصل ثباتًا بالقياس على أصل
آخر، وهذا على رأي أصحابنا والحنفية.
وخالف فيه بعض المعتزلة، والحنابلة حيث لم يشترطوا ذلك.
ثم الذي يدل على اشتراطه هو: أن العلة التي يرد بها الفرع المتنازع فيه إلى أصله، إما أن تكون عين العلة التي يرد بها ذلك الأصل إلى أصله، أو غيرها.
فإن كان الأول: كان رد الفرع بتلك العلة إلى أصل أصله أولى لئلا يلزم التطويل من غير فائدة، فأن الخصم إذا منع الحكم فيما قاس عليه الفرع فإنه يحتاج أن يرده إلى أصله بغير تلك العلة فيلزم التطويل لا محالة من غير فائدة، مثله: كما لو قيل من جانبنا: الوضوء عبادة فيشترط فيه النية قياسًا على الغسل، ثم نقيس الغسل في أن يشترط فيه النية على الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة، فرد الوضوء إلى الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة أولًا أولى.
وإن كان الثاني فهو أيضًا باطل؛
أما أولًا: فلأن العلة التي يلحق بها الفرع إلى أصله إن كانت معتبرة بنص الشارع، أو بإيمائه، أو بالإجماع فحينئذ يمكن إثبات حكم الفرع بتلك العلة المعتبرة من غير حاجة إلى القياس على أصله الممنوع حكمه، ثم القياس على أصله المتفق عليه حكمه وذلك بأن يقال: هذا الوصف علة لهذا الحكم بالنص أو بإيمانه، أو بالإجماع وهو حاصل في هذه الصورة فيلزم ثبوت الحكم فيه فيكون قياس الفرع على أصله، ثم إثبات حكم أصله بالقياس على أصل أصله تطويل من غير فائدة.
وإن كانت معتبرة بالمناسبة عرية عن اقتران الحكم في محل الوفاق لا محالة وإلا كان القياس على الأصل ممنوع حكمه مع وجود تطويل من غير فائدة، وحينئذ يلزم أن لا يجوز الحكم بها؛ لأن الحكم بالمناسب المرسل الذي لم يشهد الشارع له بالاعتبار غير جائز.
وأما ثانيًا: فلأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وهو باطل لما سيأتي.
وأما ثالثًا: فلأن الحكم في أصل الفرع إنما يثبت بالعلة الموجودة فيه وفي أصله، ومتى توصلنا إلى ثبوت الحكم فيه بتلك العلة: امتنع تعليله بالعلة الموجودة فيه وفي الفرع، لأن تلك العلة إنما تعرف علته فيه بعد أن يعرف ثبوت ذلك الحكم فيه بعلة أخرى، فيكون عديم الأثر: فيكون التعليل به باطلًا.
مثاله: كما لو قيل من جانبنا في فسخ النكاح بالجذام أو البرص: عيب يثبت به الفسخ في البيع، فيثبت به في الفسخ النكاح قياسًا على الرتق
والقرن، ثم لو منع الحكم فيهما يقيسهما على الجب والعنة بجامع فوات عضو الاستمتاع، هذا كله إذا كان حكم أصل الفرع ممنوعًا عند الخصم مقبولًا عند المستدل.
فأما إذا كان على العكس من هذا: فإن كان الغرض من القياس ظن الحكم في المقيس والعمل به والإفتاء به لم يصح؛ لأن القائس لم يعتقد الحكم في المقيس عليه فلا يعتقد عليه الوصف الجامع بينهما فلا يصح القياس بدونهما.
وإن كان الغرض منه إلزام الخصم صح القياس ويحصل الغرض.
وطريقه: أن يقول المستدل: هذا الوصف هو علة الحكم في المقيس عليه عندك، إما للاتفاق عليه، أو بشهادة المناسبة مع الاقتران وهو حاصل في صورة النزاع، فيلزمك الاعتراف بثبوت الحكم فيه وإلا لزم نقض العلة؛ ضرورة أن الحكم متخلف عنها في صورة النزاع من غير معارض، ولا معنى لنقض العلة إلا هذا وحينئذ يلزم إبطال تعليل الحكم بها في المقيس عليه، ويلزم من هذا ثبوت الحكم في صورة النزاع؛ ضرورة أن القول بعدم الحكم فيهما منتف بالإجماع.
ومن هذا نعرف أيضًا فساد ما ذهب إليه بعض المتأخرين من أن هذا القياس ممتنع.
وإن كان الغرض منه إلزام الخصم [محتجًا بأنه: وإن كان الحكم في الأصل معللًا بالوصف المذكور غير أن حاصل الإلزام يرجع إلى إلزام الخصم بالتخطئة في الفرع] بإثبات خلاف حكمه ضرورة تصويبه في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور وتصويبه في حكم الفرع.
الخامس: أن لا يكون دليل الأصل بعينه دليل الفرع لأنه حينئذ لم يكن جعل أحدهما أصلًا والآخر فرعًا أولى من العكس.
مثاله: أن لو قيل من جانبنا: للسفرجل مطعوم فيجري فيه الربا قياسًا على البر، ثم استدل على غلبة الطعم بقوله عليه السلام:(لا تبيعوا الطعام بالطعام) الحديث.
أو قيل: فضل القاتل القتيل بفضيلة الإسلام فلا يقتل به، كما لو قتل المسلم الحربي ثم استدل على غلبة الكفر لذلك بقوله عليه السلام "لا يقتل مؤمن بكافر" وله نظائر أخر.
السادس: أن لا يكون حكم الأصل متأخرًا عن حكم الفرع وهو: كقياس الضوء على التيمم في اشتراط النية؛ لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد
الهجرة، والتعبد بالوضوء كان قبله.
وهذا يستقيم إذا لم يكن للفرع دليل سوى القياس/ (155/ أ) على ذلك الأصل المتأخر؛ لأن قبل ذلك الأصل المتأخر إن كان الحكم ثابتًا في الفرع مع أنه لا دليل عليه سوى القياس عليه، لزم تكليف ما لا يطاق.
وإن لم يكن ثابتًا قبله بل شرع عنده لم يكن حكم الفرع حينئذ متقدمًا على حكم الأصل فلم يكن ذلك من مسألتنا، وأما إذا كان عليه دليل آخر سوى القياس عليه جاز؛ لأن المحذور المذكور زائل، وترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز.
السابع: أن يكون الحكم متفقًا عليه.
والدليل على اشتراطه أنه لو كان ممنوعًا لاحتاج القائس إلى إثباته عند توجه المنع فيكون الشروع فيه انتقالًا من مسألة إلى مسألة أخرى.
وما ذكرنا من أن شرط الأصل أن لا يكون حكمه ثابتًا بالقياس على أصل آخر لا يغني عن هذا الشرط، لجواز أن يكون كذلك مع وقوع الاختلاف فيه ولا هذا الشرط يغني عنه، وهذا أيضًا ظاهر.
ثم اختلفوا في كيفية الاتفاق عليه: فشرط بعضهم أن يكون متفقًا عليه بين الخصمين فقط.
[وشرط البعض الآخر أن يكون متفقًا عليه بين الأمة، وإلا فإن كان متفقًا عليه بين الخصمين فقط] لم يصح القياس عليه وسموا هذا النوع من
القياس بالقياس الركب.
والصحيح: أن القياس المركب أخص من هذا، وهو أن يكون الحكم متفقًا عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفتين، كما في قياس حلى البالغة على حلى الصبية، فأن عدم الوجوب في حلي الصبية متفق عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفتين، فإن عندما لعله كونه حليًا، وعندهم لعلة كونه مالًا للصبية، وكلام بعضهم يشعر إشعارًا ظاهرًا بأنه يشترط مع ذلك أن لا يكون الحكم مجمعًا عليه بين الأمة، ولا منصوصًا عليه، وكلام البعض الآخرين لاسيما الجدليين منهم ساكت عنه بل إطلاقهم ينفي ذلك.
الثامن: أن لا يكون حكم الأصل خارجا عن قاعدة القياس.
واعلم أن وصف الحكم بكونه خارجًا عن قاعدة القياس: تارة يكون باعتبار كونه غير معقول المعنى وإن شرع ابتداء من غير أن يقطع حكمه عن أصول أخر ويستثنى عنها.
وتارة يكون باعتبار كونه متقطعا عن أصول أخر ومستثنى عنها [وإن عقل معناه، وعند هذا يظهر أن ما يكون مقتطعا عن أصول أخر ومستثنى عنها عنها
…
] وهو غير معقول المعنى فهو خارج عن قاعدة القياس باعتبارين، وأن ما شرع ابتداء وهو معقول المعنى فهو غير خارج عن قاعدة القياس باعتبار ما لكن منه ما وجد في المعنى في غيره [فيقاس عليه، ومنه ما لا يوجد المعنى المعقول فيه في غيره] كما سيأتي:
مثاله فلا يقاس عليه (لا) لأنه خارج عن قاعدة القياس بل لأنه لم يوجد له فرع فتعذر القياس فيه لفقد الفرع لا لفقد الأصل، ولا لفقد شرط من شروطه والحكم فيه يشبه الحكم المعلل بالعلة القاصرة.
وإن وقع في كلام بعضهم عد هذا القسم من جملة أقسام الخارج عن القياس كما وقع في كلام الشيخ الغزالي- رحمه الله فهو نوع من التجوز العيد وكيف لا وقد صرح الشيخ الغزالي- رحمه الله أن تسمية القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها مع تعذر القياس عليها بالخارج عن القياس مجاز.
فتحصلنا مما ذكرناه على أقسام خمسة من أقسام الخارج عن قاعدة القياس وغير الخارج عنها:
أحدها: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يقتطع عن أصول أخر ولا يعقل معناها كأعداد الركعات، ونصب الزكوات، ومقادير الحدود والكفارات، وهذا القسم يمتنع القياس عليها لفقد العلة التي هي ركن القياس.
قال الغزالي: "وتسميته بالخارج عن القياس مجاز؛ لأنه لم يسبقها عموم قياس يمنع منها، ولا يستثنى عن أصول أخر حتى يسمى بالخارج عن
القياس بل معناه أنه ليس بمنقاس".
وثانيها: ما شرع على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة والأصول الممهدة المتقررة ولا يعقل معناه، ولا يقال [على] هذا القسم أيضًا لفقد العلة ولإبطال التخصيص المعلوم بالنص بالقياس.
وتسميته بالخارج عن القياس والمستثنى عنه حقيقة لا شك في ذلك، وذلك كتخصيص الرسول خزيمة بقبول شهادته وحده.
وتخصيصه أبا بردة بجواز أن يضحى بالعناق بقوله: (تجزئ عنك ولا تجزئ عن غيرك).
وثالثها: ما شرع على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة ومخالفًا للأصول الممهدة وهو معقول المعنى، فهذا القسم يشبه أن يكون هو المختلف فيه بين العلماء:
فذهب أكثر أصحابنا وبعض الحنفية إلى جواز القياس عليه مطلقًا.
وقال الكرخى: لا يجوز إلا لإحدى خصال ثلاث:
إحداها: أن يكون قد نص على علية ذلك الحكم.
مثاله: قوله- عليه السلام: "إنها من الطوافين (عليكم) والطوافات" فإن القياس يقتضي أن يكون سؤر الهرة كسؤر سائر السباع، فلما حكم بطهارتها وعلله بما جاز أن يقاس عليه سائر الحشرات.
وثانيها: أن تجتمع الأمة على تعليل ذلك الحكم، وإن اختلفوا في علته، ويلزمهم على/ (156/ أ) هذا أن يجيزوا قياس الكلام ناسيًا في الصلاة على
الأكل ناسيًا في الصوم في عدم الإفساد، إذ الإجماع ينعقد على أن ذلك معلل بعذر النسيان.
وثالثها: أن يكون القياس عليه موافقًا للقياس على أصول آخر، وهو كالتحالف في البيع عند اختلاف المتابعين في اليمين فإنه وإن كان مخالفًا لقياس الأصول؛ لأن قياس الأصول يقتضي أن القول قول المنكر، لكن أصل آخر يوافقه وهو أنه ملك المبيع عليه فالقول قول من ملك عليه كالشفيع مع المشترى، ولذلك قسنا الإجازة عليه.
مثال ما شرع على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة ومخالفًا للأصول الممهدة: ما شرع [من تجويز بيع الرطب بالتمر في العرايا فإنه على خلاف قاعدة] الربا عندنا ونعلم أنه لم يشرع ناسخًا لها بل على وجه الاستثناء والاقتطاع عنها لحاجة المحاويج فنقيس العنب على الرطب لأنا نراه في معناه.
وكذلك ما شرع من رد المصراة ورد صاع من التمر معها بدل اللبن الموجود في ضرعها، فإنه ما شرع هادمًا لقاعدة ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة لكنه على وجه الاستثناء والاقتطاع عن تلك القاعدة لمسيس الحاجة إليه؛ وذلك لأن اللبن الكائن في الضرع لدى البيع اختلط بالحادث بعده ولا يمكن التمييز بينهما، ولا إلى معرفة القدر الموجود في الضرع لدى البيع،
وكان الأمر فيه متعلقًا بمطعوم يقرب الأمر فيه خلص الشارع المتبايعين من المنازعة والوقوع في ورطة الجهل بالتقدير بصاع من التمر، لكونه مطعومًا مثله يعم وجوده في بلادهم وقيمتهما متقاربتين، كما قدر دية الجنين بغرة عبد أو أمة مع اختلاف الجنين بالذكورة والأنوثة، ولما عقلنا هذا المعنى لا جرم قلنا: أنه لو رد المصراة بعيب آخر غير التصرية رد معها أيضًا صاعا من التمر بدل اللبن [الموجود في الضرع ولا شك أنه قياس؛ إذ الخبر ورد فيما إذا ردت المصراة بعيب التصرية فإلحاق عيب آخر] بها في وجوب الضمان بالتمر يكون على وجه القياس.
ومثاله من أصلهم: أن التوضأ بنبيذ التمر ورد على خلاف قياس الأصول ولم يقيسوا عليه نبيذ الزبيب مع إيماء اللفظ إلى العلة وحصولها فيه.
ثم الإمام- رحمه الله ذكر في ذلك تفصيلًا، وقال: "الحق أن يقال: ما ورد بخلاف قياس الأصول، إما أن يكون دليله مقطوعًا به، أو لا يكون مقطوعًا به.
فإن كان الأول: كان أصلًا بنفسه؛ لأن مرادنا بالأصل في هذا الموضع: هذا، فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهدين القياسين.
يؤكده: أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعًا من قياس يخالفه؛ لأن العموم أقوى من القياس على العموم.
وإن كان الثاني فإن لم تكن علته منصوصة ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على الأصول: فلا شبهة أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه؛ لأن القياس على ما طريق حكمه معلوم أولى من القياس على ما طريق
حكمه غير معلوم.
وإن كانت منصوصة: فالأقرب أنه يستوي القياسان، لأن القياس على الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم، وإن طريق علته غير معلوم، وإن طريق علته غير معلوم وهذا القياس طريق حكمه مظنون، وطريق علته معلوم، وكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة".
وفيه نظر، أما أولًا: فلأنه إن عنى بقوله: أن مرادنا بالأصل في هذا الموضع هذا اصطلاح نفسه، فلا يناقش في ذلك، لكن الخصم يمنع أن يكون مثل هذا الأصل يقاس عليه، ويمنع أن القياس عليه كالقياس على غيره، فإن كل مصادرة على المطلوب، وعند هذا يظهر أن قوله:"يؤكده ش ليس محمولًا على ظاهره؛ لأن ما سبقه ليس دليلًا حتى يكون ذلك تأكيدًا له، ثم قوله: "أن العموم إذا لم يمنع من قياسه يخصه، فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعًا من قياس يخالفه، لأن العموم أقوى من القياس على العموم ممنوع؛ وهذا لأن عموم القياس أقوى من العموم؛ لأنه غير قابل للتخصيص بناء على عدم جواز تخصيص العلة، والعموم قابل لذلك وفاقًا،
فكان هو أقوى، وإذا كان عموم القياس أقوى من العموم لم يلزم من عدم منع العموم كقياس تخطئة عدم منع القياس من القياس على ما يخالفه.
وإن عنى به إصلاح المختلفين في هذه المسألة فممنوع؛ وهذا لأن الأصل ما يقاس عليه، فمن منع القياس على المعدول عن سنن القياس سواء ثبت بدليل مقطوع به، أو غير مقطوع به كيف يكون هذا أصلا عنده.
وإن ذكر ذلك ضابطًا على مذهب القائلين بجواز القياس على المعدول عن سنن القياس فليس كذلك أيضًا؛ لأنه [لو] ثبت المعدول عن سنن القياس بدليل ظني وعقل معناه/ (157/ أ) والمعدول عنه بدليل قطعي جاز القياس عليه عندهم أيضًا يدل عليه تفاريعهم، فإن رد المصراة ورد صاع من التمر معها بدلًا عن اللبن الموجود في الضرع ثبت بدليل ظني، وهو مخالف لما ثبت بدليل قطعي وهو الإجماع: من أن ضمان المثلى بالمثل، وضمان المتقوم بالقيمة، واللبن إن كان من ذوات الأمثال كان ينبغي أن يكون الواجب فيه مثله، وإن كان من ذوات القيم كان ينبغي أن يكون الواجب فيه القيمة، فإيجاب صاع من التمر مخالف للقاعدة على التقديرين مع أنه يجوز القياس عليه كما تقدم.
وأما ثانيًا: فلأن قوله: وإن كانت علته منصوصة [فالأقرب أنه يستوي القياسان، إن أراد به أن يثبت ذلك النص بطريق قطعي وهو الذي يدل عليه آخر كلامه فتستحيل المسألة]؛ لأن كون دليل الحكم ظنيًا مع أن النص الدال على علته قطعي محال ضرورة أنه مهما علم النص الدال على علة الحكم كان الحكم معلومًا قطعًا، فدليله قطعي لا محالة، وإن أراد به أعم من ذلك أي: سواء ثبت ذلك النص بطريق قطعي أو ظني بطل قوله في آخر كلامه: "وهذا القياس طريق حكمه مظنون، وطريق علته معلوم".
والأولى أن يقال: في الضابط: أن ما ثبت على خلاف الأصول وعقل معناه ووجد في غيره جاز القياس عليه، ما لم يظهر من الشارع قصد تخصيص الحكم بذلك المحل، وما لم يترجح قياس الأصول عليه، فإن ترجح بما يترجح بعض الأقيسة على البعض لم يجز القياس عليه، لحصول المعارض الراجح لا لأنه لم يصلح أن يقاس عليه.
ثم الدليل على جواز القياس عليه والحالة هذه: أنه حكم شرعي معقول المعنى معلل به إما بالنص أو بالطريق العقلي فجاز القياس عليه كالقياس على غيره من الأصول الغير المعدول به عن سنن القياس.
فإن قلت: القياس على المعدول عن سنن القياس تكثير لمخالفة الدليل؛ لأن قياس الأصول يقتضي أن يكون حكم المعدول عن سنن القياس كحكمه، لكن النص أخرجه عنه فيبقى ما عداه على وفقه فإخراج غيره عن حكمه تكثير لمخالفته بخلاف القياس على الأصول الغير المعدول بها عن سنن القياس فإنه لا يلزم منه مخالفة الدليل.
قلت: لا نسلم أن القياس على الأصول الغير المعدول بها عن سنن القياس والحالة هذه لا يلزم منه مخالفة الدليل؛ وهذا لأنه إذا اقتضى النص إخراج ما ورد فيه ودل نص آخر أو أمارة عقلية على علته اقتضى إخراج ما وجد فيه ذلك المعنى، فإلحاقه بالأصول الغير المعدول بها مخالفة لهذا الدليل، ثم ليس مخالفة لأجل عدم تكثير تلك المخالفة أولى من العكس بل العكس أولى؛ لأن زيادة المخالفة أقل محذورًا من أصل المخالفة، ألا ترى أن زيادة التخصيص قد ثبتت بما لا يثبت به أصل التخصيص عند كثير من الأصوليين، ولأن تأثر الضعيف المباشر أقرب عند العقل من تأثر الغير المباشر فكان الإلحاق بالمعدول أولى من الإلحاق بالأصول.
ورابعها: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يقتطع عن أصول أخر، وهي معقولة المعنى لكنها عديمة النظير، وذلك بأن لا يكون له نظير خارج عما يتناوله الدليل الدال على تلك الأحكام فلا يقاس عليها لتعذر الفرع الذي هو ركن من أركان القياس، وتسمية هذا بالخارج بعيد جدًا.
مثاله: رخصة القصر لعذر السفر فإنه معلل بالمشقة المخصوصة وهي غير حاصلة في حق غير المسافر الذي تناوله النص فقط لا غير إذ لا يمكن إنكار أصل تعليله، فإن المشقة مناسبة ظاهرة لذلك الحكم، ولا يمكن تعليله بمطلق المشقة، وإلا لوجب ثبوته في حق المريض فلم يبق إلا تعليله بالمشقة المخصوصة التي هي غير حاصلة في حق الغير.
ونحوه أيضًا: رخصة المسح على الخفين، فإنه معلل بمسيس الحاجة إلي استصحابه، وعسر نزعه في كل وقت لا يمكن إنكار ذلك، ولكن لا يساويه في هذا المعنى شيء مما يشبهه من بعض الوجوه كالعمامة والقفازين، وما لا يستر جميع القدم، فلذلك لم يجز قياس شيء منها عليه.
ومنه شرعية القسامة، فإنه معلل بشرف الدم، ولا يوجد ذلك في غيره، فالحاصل أن تعذر القياس في هذا النوع لتعذر الفرع، لا لكونه خارجًا عن القياس لا بمعنى أنه غير معقول المعنى، ولا بمعنى انه مقتطع عن أصول أخر، وعند هذا ظهر خطأ قول من يقول من الفقهاء: إن توقيت الإجازة مثلا خارج عن قياس الأصول، كالبيع والنكاح، لأنه ليس جعل أحدهما أصلًا والآخر خارجًا عنه أولى من العكس، بل كل واحد منها أصل بنفسه لا نظير له.
وخامسها: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير اقتطاع عن اصول أخر، وهى معقولة المعنى، ولها نظير، وفروع، فهذا هو الذى يجرى فيه القياس باتفاق القائسين/ (158/ أ) وهو قم غير خارج عن قاعدة القياس باعتبار ما وبوجه من الوجوه.