الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في تعريف الأصل والفرع
اعلم أنا إذا قسنا "الذرة" على "البر" في تحريم بيعه بجنسه متفاضلًا فالاحتمالات الممكنة فيما يمكن أن يجعل أصل القياس في هذه الصورة لا يزيد على أربعة:
أحدها: أن أصل القياس هو "البر" وهو مذهب جماهير الفقهاء.
وثانيها: أن أصل القياس هو حكمه، وهو مذهب جماعة من المحققين من الفقهاء والمتكلمين.
وثالثها: أن أصل القياس هو النص الدال على ذلك الحكم وهو مذهب جماهير المتكلمين.
ورابعها: أن أصل القياس هو علة ذلك الحكم وهي الطعم مع الجنس في مسألتنا على رأينا، وهذا الاحتمال لا نعرف أحدًا ذهب إليه وإن كان من جملة الأقسام الممكنة في ذلك وبعد هذه الاحتمالات لا يبقى في المسألة احتمال آخر البتة.
وأما الفقهاء فقد احتجوا على صحة مذهبهم بوجهين:
أحدهما: أن الأصل يطلق على الشيء باعتبارين:
أحدهما: كونه بحيث ينبني عليه معرفة غيره فيقال: إنه أصل له سواء كانت معرفته غير مبنية على شيء آخر كمعرفة الله تعالى، فإنها أصل لمعرفة
الرسول من حيث إن معرفة الرسول [تنبني] على معرفة المرسل مع أنها مستقلة بنفسها غير مبنية على شيء آخر، أو لم يكن كذلك بل معرفته أيضًا مبنية على معرفة شيء آخر كمعرفة الرسول فإنها أصل لمعرفة الشريعة، وليست معرفته مستقلة بنفسها بل هي مبنية على معرفة الله تعالى من جنسه كما تقدم.
وثانيهما: كونه بحيث لا تتوقف معرفته على معرفة شيء آخر من جنسه سواء توقف معرفة غيره من جنسه عليه أم لم يتوقف.
مثال الأول: معرفة تحريم الربا في الأشياء الأربعة فإنه يقال: الأصل في تحريم الربا في المطعومات إنما هو الأشياء الأربعة.
مثال الثاني: تحريم الربا في النقدين، وهذان الاعتباران حاصلان في المحل معًا، فإنه يتوقف معرفة حكمه وحكم غيره على معرفته، ولا يتوقف معرفته على معرفة شيء آخر فكان أصلًا.
وثانيهما: أنه لو لم يكن الأصل هو البر لكان الأصل إما حكمه أو النص الدال عليه لئلا يلزم قول آخر لم يقل به أحد لكنهما باطلان.
أما الأول: فلأن المحل موصوف والحكم صفة له فيكون تابعًا له فيكون تسمية المحل الموصوف به الأصل أولى من تسميته به.
وأما الثاني: فلأنا لو فرضنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة، أو بالدليل العقلي لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعًا قياسيًا، ولو فرضنا أن النص دل على الحكم من غير تخصيص بصورة خاصة لم يمكن أن نفرع عليه الحكم تفريعًا قياسيًا، وإن أمكن ذلك تفريعًا نصيًا.
وإذا كان كذلك لم يكن النص أصلًا للقياس، وإذا بطل هذان القولان
تعين أن يكون الأصل هو البر.
واعلم أن الأقرب إنما هو قول من قال: إن الأصل هو الحكم؛ لأن النص الدال عليه لا يجوز أن يكون هو الأصل لما تقدم، ولأن النص طريق إلى إثبات الحكم فلو كان النص أصلا ًكذلك لكان قول الراوي أولى أن يكون أصلًا للقياس؛ لأنه طريق إلى ثبوت النص الذي هو طريق إلى الحكم فكان أولى بذلك منه، لكنه باطل بالاتفاق، فكذلك كون النص أصلًا.
ولا يجوز أن يكون الأصل هو البر؛ لأنه لو لم يوجد البر أو وجد لكنه لم يوجد فيه الحكم لم يكن تفريع الحكم عليه، ولو وجد ذلك في غيره لأمكن تفريع القياس عليه، فإذن الحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر أصلًا بل على حكمه فلا يكون البر هو أصل القياس بل/ (121/ أ) حكمه.
وبهذا ظهر ضعف الوجه الأول أن ما ذكروه أن معرفة حكم غيره تتوقف على معرفته باطل إن أرادوا به التوقف بالأصالة من غير وساطة شيء آخر، وإن أرادوا به التوقف بطريق التبعية فهو صحيح؛ فإن معرفة حكم غيره تتوقف على معرفة الحكم الحاصل فيه، ومعرفة الحكم الحاصل فيه تتوقف على معرفته، لكن ذلك لا يقتضي أن يكون هو أصل القياس بالذات بل بالعرض، وليس كلامنا فيه بل فيما هو أصل القياس بالذات من غير وساطة شيء آخر، ولو كان البر أصلًا بهذا الاعتبار لكان النص الدال على الحكم أصلًا أيضًا بهذا الاعتبار؛ فإن معرفة ذلك الحكم الذي هو أصل القياس تتوقف على معرفة النص الدال عليه بل تسمية النص أصلًا بهذا الاعتبار أولى من تسمية البر أصلًا؛ لأن توقف الحكم على النص كتوقف المعلول على العلة وتوقفه على البر توقف المشروط على الشرط، ومعلوم أن النوع الأول من التعلق والتوقف
أقوى وأشد فكان تسميته أصلًا أولى وأنتم لا تقولون به.
ومنه أيضًا ظهر ضعف الوجه الثاني، فإن الحكم الحاصل في البر وإن كان تابعًا للبر والبر أصل له لكن ذلك يقتضي أن لا يكون الحكم أصلًا للقياس فإن الشيء قد يكون تابعًا لشيء ويكون أصلًا لغيره ولا يقتضي أيضًا أن يكون تسميته بالأصل بالنسبة إلى القياس أولى من تسمية حكمه به؛ وهذا لأن حكمه أصل للقياس من غير واسطة وهو أصل له بواسطة حكمه وما يثبت للشيء بغير واسطة يكون هو به أولى من الذي يثبت له بواسطته فيكون الحكم أولى بالأصالة من محله.
ومما تقدم يعرف أن لقول الفقهاء والمتكلمين وجهًا أيضًا، فإنه ظهر أن كل واحد من المحل والنص أصل للحكم الذي هو أصل القياس وأصل الأصل أصل فيكون كل واحد منهما أصلًا بهذا الاعتبار وتسمية المتكلمين النص بالأصل وإن كان أولى من تسمية الفقهاء المحل به للوجه الذي تقدم لكن تسمية الفقهاء المحل بالأصل أولى من وجه آخر وهو أن كل واحد من النص والحكم متوقف على حصول المحل بخلاف حصول المحل فإنه غير متوقف لا على النص ولا على الحكم.
وأما الفرع فهو محل الحكم المتنازع فيه عند الفقهاء، ونفس الحكم فيه عند جماهير المحققين وليت شعري بماذا يفسره المتكلم فإنه إن فسره بأحد التفسيرين المذكورين فإنه يلزم منه ضعف مذهبه؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الأصل ما يقابله إذ الفرع ما يقابل الأصل ويضاده، وإن فسره بالعلة فضعيف جدًا، لأن العلة أصل الحكم في المحل المتنازع فيه؛ فإنه ما لم يعلم العلة فيه أولًا، ثم يعلم الحكم فيه فهي بمنزلة النص الدال على الحكم في محل الوفاق فكانت أصلًا لا فرعًا وهي ليست فرعًا في محل النص من حيث إنها لا تعلم
إلا بعد العلم بالحكم فيه فإنه ما لم يعلم الحكم أولًا في محل النص لا يطلب علته ولا يمكن استنباطها ضرورة أنه لا طريق إلى استنباطها حيث لا حكم فإن طرق استنباطها كلها نحو الإيماء، والمناسبة، والدوران، والطرد وغيرها مخصوصة بصورة وجود الحكم لكن لا يمكن جعلها فرعًا بهذا الاعتبار، لأنه يقتضي اجتماع الأصل والفرع في محل واحد وهو باطل وفاقًا فثبت أنه لا يمكن جعل العلة فرعًا لا في محل الوفاق ولا في محل الخلاف بل هي أصل في محل الخلاف، وهذا إنما يتأتى على رأي من يجعل الحكم في محل النزاع فرعًا وهو الصحيح، فأما من يجعل المحل فرعًا فلا؛ لأن العلة ليست أصلًا للمحل بوجه من الوجوه حتى يمكن جعلها أصلًا في الفرع بل هي فرع له لكونها صفة له وهذا يضعف مذهب الفقهاء في أنهم جعلوا المحل فرعًا فإن العلة أصل في الفرع.
ثم أعلم أنا قد ذكرنا أن لما ذهب إليه الفقهاء من تسمية المحل أصلًا وجهًا على تقدير أن يكون الأصل هو الحكم الحاصل في محل الوفاق فذلك الوجه يضعف في تسمية محل الخلاف فرعًا على تقدير أن يكون الفرع هو الحكم الحاصل في محل الخلاف؛ لأن محل الوفاق أصل للحكم الذي هو أصل القياس فيكون أصلًا للأصل فيكون أصلًا، لأن أصل الأصل أصل بخلاف محل الخلاف فإنه أصل الفرع فلا يلزم أن يكون فرعًا؛ لأن أصل الفرع لا يلزمه أن يكون فرعًا فكان تسمية محل الوفاق بالأصل أولى من تسمية محل الخلاف بالفرع.
وبالجملة النزاع في هذه المسألة آيل إلى اللفظ، والأظهر إنما هو مذهب المحققين لما عرفت، ونحن حيث أطلقنا لفظ الأصل والفرع في هذا الكتاب أردنا منهما ما أراده الفقهاء مساعدة لهم على مصطلحهم لئلا يلزم تغيير المألوف.