الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمحسوسات ضروريا ولا جواب لكم [عنه] إلا أن مخالفة الشرذمة القليلة لا يقدح في الضروريات فهو بعينه جوابنا بالنسبة إلى المتواترات.
وأما إنصافكم فبتقدير صحته لا يمنع من خطئكم، بل إنما يمنع من العناد والمكابرة ولسنا نحمل خلافكم عليه إن صح ما ادعيتم من إنصافكم.
المسألة الثالثة
القائلون بأن التواتر يفيد العلم، اختلفوا في أن ذلك العلم ضروري أو نظري [
فذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين من الفريقين إلى أنه ضروري وهو الحق].
وذهب الكعبي، وأبو الحسين البصري من المعتزلة، والدقاق منا إلى أنه نظري، وهو قول إمام الحرمين، لأنه جعل العلم الحاصل عقيبه من باب العلم المستند إلى القرائن.
وقال الغزالي رحمه الله:"إن عنى بالضروري ما يكون حاصلا من غير توسط مقدمتين كقولنا الموجود لا يكون معدوما، والقديم لا يكون محدثا فهو غير ضروري؛ لأنه لا بد في حصوله من مقدمتين.
إحداهما: أن هؤلاء المخبرين مع كثرتهم واختلاف أحوالهم، لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون إلا على الصدق.
وثانيهما: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكن غاية ما في الباب أنه لا يفقتر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم، ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه.
وإن عنى به ما يكون حاصلا من غير تشكل الواسطة المفضية إليه وإن كانت الواسطة حاضرة في الذهن فهو ضروري.
وذهب المرتضى من الشيعة إلى التوقف.
حجة الجماهير من وجوه: أحدها: أنه لو كان العلم الحاصل عقيب التواتر نظريا - لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر: كالصبيان، والبله، والعوام، ولما حصل لهم ذلك علمنا أنه ليس بنظري.
واعترض عليه: بأنا لا نسلم أنه حاصل لمن ليس له أهلية النظر؛ وهذا لأن النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهو سهل حاصل للعوام والصبيان المميزين الذين يحصل لهم العلم بالمتوترات؛ ولذلك فإنهم يستنتجون علوما كثيرة من تركيب علوم قد حصل في عقولهم من البديهيات، والمحسوسات، والعرفيات المشهورات، وإنما هم ليسوا أهلا للنظر الذي مقدماته نظرية خفية.
فأما النظر الذي ليس كذلك فلا نسلم أنهم ليسوا أهلا.
وجوابه: أنك ستعرف أن النظر في ذلك ليس بسهل، وأن مقدماته ليست بديهية ولا بمحسوسة، بل هو غامض يحتاج في تحصيله إلى مقدمات كثيرة نظرية خفية.
وثانيها: أن العلم النظري يتشكك فيه الإنسان إذا شك بشبهة، [والعلم بخبر التواتر لا يتشكك فيه الإنسان وإن شكك بشبهة] فلا يكون نظريا.
واعترض عليه بأن القابل للتشكيك / (57/أ) إنما هو العلم النظري المستفاد من المقدمات النظرية، فأما العلم النظري المستفاد من المقدمات الضرورية فلا نسلم أنه قابل للتشكيك.
وجوابه: أنا سنبين أن المقدمات التي يتوقف عليها العلم الحاصل بخبر التواتر على رأي القائلين بأنه نظري ليست بضرورية.
سلمناه لكنه يقتضي أن لا يكون شيء من العلوم النظرية لا يقبل التشكيك، ضرورة أن كل واحد منها مستفاد مما لا يقبل التشكيك؛ فإن المرتبة الأولى من مراتبها التي استفيدت من المقدمات الضرورية [لا تقبل التشكيك؛ لأنها مستفادة من المقدمات الضرورية] والمرتبة الثانية منها مستفادة من الذي لا يقبل التشكيك على الوجه الذي لا يقبل التشكيك؛ ضرورة أنه الوجه الذي استفيدت المرتبة الأولى به، والمستفاد من الذي لا يقبل التشكيك على الوجه الذي لا يقبل التشكيك. [لا يقبل التشكيك].
وثالثها: أن كل واحد يعلم بالضرورة أن علمه بوجود مكة وبغداد أقوى وأجلى من علمه بالمقدمات التي يستفاد منها هذا العلم على رأي القائلين بأنه نظري، وبناء القول الجلي على الضعيف غير معقول.
ورابعها: لو كان نظريا لوجب أن لا يحصل عند الإضراب عن تحصيله والاعتراض عن النظر في مقدماته، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه ضروري.
واعترض عليه بما سبق، وهو ها هنا أضعف؛ لأن النظري الذي يستفاد من المقدمات الضرورية لا بد فيه من توجيه الذهن إلى وجه استنتاجه عنها؛ لأن وجه الاستنتاج غير حاصل بالضرورة.
وخامسها: لو كان نظريا لما اتفق العقلاء عليه؛ لأنه كما يستحيل اختلاف العقلاء في الضروريات يستحيل اتفاقهم في النظريات عادة ولما اتفق العقلاء عيه سوى شذوذ من الناس إما عنادا، وإما خطأ كما في المحسوسات علمنا أنه ليس بنظري.
واحتج القائلون بأنه نظري بوجوه:
أحدها: وهو ما ذكره أبو الحسين البصري وهو: أن الاستدلال عبارة عن ترتيب علوم أو ظنون يتوصل بها إلى علوم أو ظنون أخر فكل اعتقاد توقف وجوده على ترتيب اعتقادات أخر، فهو استدلالي، والعلم الواقع بخبر التواتر هذا سبيله؛ لأنا لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه إلا إذا علمنا
أنه لا داعي للمخبرين إلى الكذب، وأنهم لا يخبرون عن ظن وتخمين بل عن أمر محسوس لا لبس فيه، وأنه متى كان ذلك - استحال أن يكون الخبر كذبا، وإذا بطل يكون كذبا: تعين أن يكون صدقا فكان العلم بما أخبر به أهل التواتر نظريا.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه يتوقف على ما ذكرتم من الاستدلال؛ وهذا لأن العلم به حاصل للصبيان والبله مع أنهم لا يقدرون على ترتيب ما ذكرتم من المقدمات على الوجه الذي ذكرتموه، بل قل لا يحصل لهم الشعور بتلك المقدمات أصلا حالة العلم به، ولا بما به تصح تلك المقدمات فلو كان حصوله يتوقف على ما ذكرتم لاستحال حصوله لهم.
فإن قلت: إنها حاصلة لهم على الترتيب وإن لم يشعروا بذلك.
قلت: ما يكون حاصلا ولا يكون مشعورا به يكون بحيث لو نبه عليه لحصل الشعور به، ومن المعلوم أن الصبيان والبله لو نبهوا على تلك المقدمات، وعلى ما به تصح تلك المقدمات، وعلى ترتيبها لما حصل لهم [الشعور] بجمع ذلك، فلا يجوز أن يكون مستفادا منه.
ولا يظن أنه لا يعتبر الشعور بما تصح به تلك المقدمات، فإن عند التنبيه على ما يقدح في تلك المقدمات مع عدم الشعور بما يزيل ذلك لم تبق تلك المقدمات يقينية، فلو كان العلم الحاصل بالتواتر مستفادا منها وجب أن لا يبقى ذلك العلم إذ ذاك يقينيا ولما بقي يقينيا غير مشكك فيه علمنا أنه غير مستفاد منها، نعم ربما يتعرضون لكثرة المخبرين وعدم كذبهم عندما يسألون عن كمية
العلم بما أخبروا به لكن ذلك لا يدل على ما ذكرتم؛ لجواز أن يكون ذلك إشارة إلى ما أجرى الله تعالى عادته من خلق العلم عقيب إخبار الخلق الكثير الذي لا يمكن تواطؤهم على الكذب عادة.
وثانيها: لو كان العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضرورة - لكنا مضطرين إليه، بحيث لا يمكننا الخلو عنه؛ ضرورة أنه على مضادة العلم النظري الذي يمكن الخلو عنه، ولو كان كذلك لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين به على سبيل الاضطرار كما في سائر العلوم الضرورية، ولو كان كذلك لزم أن يكون العلم بكون ذلك العلم ضروريا كما في سائر اللضروريات، فكان يجب أن لا يكون مختلفا فيه بين العقلاء، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير ضروري.
وجوابه: منع الملازمة الثانية؛ وهذا لأن العلم بكون ذلك العلم ضروريا كيفية من كيفيات ذلك العلم، ولا يعد في أن يكون أصل الشيء معلوما بالضرورة دون وصفه، وأما القياس على سائر الضروريات فقياس تمثيلي خال عن الجامع المناسب فضلا عن اليقيني؛ فإن كونه ضروريا وصف طردي ولا يعارض بمثله بأن يقال: لو كان نظريا لكان العلم به نظريا كما في سائر النظريات، لأنه لا يمكن نفي اللازم، إذ الخصم يمنعه وليس له لازم يستدل بنفيه على نفيه بخلاف نفي ضرورته، فإن الخصم ربما يساعد على أن العلم يكون ذلك العلم ضروريا ليس بضروري، فإن لم يساعد عليه فإن من لوازم كونه / (58/أ) ضروريا أن يكون متفقا عليه بين العقلاء، فيستدل بنفيه على نفي ضرورته وليس من لوازم كونه نظريا أن يكون متفقا عليه بين العقلاء حتى يمكن الاستدلال بنفيه على نفي كونه نظريا، ولو قيل: لو كان نظريا لعلم بالضرورة كونه نظريا كان أشد منه، لكنه غير لازم، لجواز أن يكون نظريا شبيها بالضرورة كالذي نحن فيه
[على أنا نمنع أنه لا يعلم بالضرورة كونه نظريا] على رأي الخصم.
وثالثها: وهو مختار الكعبي وهو: أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس بالضرورة لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال، وبطلان اللازم [يدل] على بطلان الملزوم.
وجوابه: منع الملازمة؛ فإنه لم يذكر عليها دليلا، وليست هي ضرورية حتى يسلم، ولئن قال: تسوية بين المتقابلين منعنا مطلق مطلوبيتها، ولو سلم لكن فيما فيه التقابل لا مطلقا، فلم قلتم وقوع التقابل بينهما من هذا الوجه؟
ورابعها: أنه لو كان ضروريا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء كما في الضروريات.
وجوابه: ما سبق في المسألة المتقدمة.
وخامسها: أن خبر التواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى ورسوله [بل هو إما مماثل لهما أو أدنى منهما، والعلم الحاصل عقيب خبر الله ورسوله] ليس علما ضروريا بالاتفاق فكذا ما هو مثله، أو أدنى منه.
وجوابه: أنه إن عنى بقوله: ليس أقوى منه: أن كل واحد منهما لا