الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيران يعمه فى ضلالته
…
مستوردا لشرائع الظلم
واختلف فيه وفى ضرار بن الخطاب أيهما أشعر، فقال محمد بن سلام: بمكة شعراء، وأبرعهم شعرا عبد الله بن الزبعرى. وقال الزبير بن بكار: وشعره ـ يعنى ابن الزبعرى ـ كثير، يقول رواة قريش: إنه شاعرهم فى الجاهلية، فأما ما سقط إلينا من شعره وشعر ضرار بن الخطاب، فضرار أشعر وأقل سقطا.
وقد انقرض ولده، وأمه عاتكة بنت عبد الله بن عمير بن أهيب بن حذافة بن جمح.
1522 ـ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشى الهاشمى، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، واستشهد بأجنادين، لا بقية له. انتهى.
وقال غيره: أسلم وجاهد فى سبيل الله، واستشهد بأجنادين بعد أن قتل جماعة من الروم، عن نحو ثلاثين سنة، أحد الفرسان والأبطال.
ويروى أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال:«ابن عمى وحبى» . ولا تحفظ له رواية. انتهى.
1523 ـ عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب القرشى الأسدى، أبو بكر، وأبو خبيب المدنى المكى:
أمير المؤمنين، ولد بالمدينة فى السنة الثانية من الهجرة، وهو أول مولود ولد بها من
1522 ـ انظر ترجمته فى: (الاستيعاب ترجمة 1552، الإصابة ترجمة 4699، أسد الغابة ترجمة 2948، الجرح والتعديل 5/ 56، طبقات ابن سعد 5/ 502، التاريخ لابن معين 308، التاريخ الكبير 5/ 96، التاريخ الصغير 2/ 339، طبقات الشيرازى 99، الجمع بين رجال الصحيحين 1/ 265، الأنساب 4/ 231، المعجم المشتمل 153، تهذيب الكمال 682، تهذيب التهذيب 2/ 144 / 2، تذكره الحفاظ 2/ 413، العبر 1/ 377، الكاشف 2/ 86 سير أعلام النبلاء 10/ 616).
1523 ـ انظر ترجمته فى: (الاستيعاب ترجمة 1553، الإصابة ترجمة 4700، أسد الغابة ترجمة 2949، حلية الأولياء 1/ 329، 337، حسن المحاضرة 1/ 212، الرياض المستطابة 201، شذرات الذهب 1/ 42، 44، البداية والنهاية 8/ 238، تجريد أسماء الصحابة 1/ 311، تهذيب التهذيب 5/ 213، رياض النفوس 1/ 42، غاية النهاية 1/ 499، التاريخ الكبير 3/ 6، صفوة الصفوة 9/ 117، تهذيب الكمال 2/ 682، طبقات فقهاء اليمن 51، 53، 58، الطبقات 13/ 189، 232، الطبقات الكبرى 9/ 117، طبقات الحفاظ 41، 49، الكاشف 2/ 86، تقريب التهذيب 1/ 415، الوافى بالوفيات 17/ 172، روضات الجنان 1/ 10، 93، 4/ 98، 209، 280، المؤتلف والمختلف 63، التبصرة والتذكرة 1/ 156، الثقات 3/ 212، ثروة أصحاب الحديث 19، العلل للدارقطنى 2/ 19، بقى بن مخلد 90، الجرح والتعديل 771).
قريش، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثين حديثا، اتفقا على ستة، وانفرد مسلم بحديثين.
روى عنه بنوه: عباد وعامر وثابت، وحفيداه: يحيى بن عباد، ومصعب بن ثابت، وأخوه عروة بن الزبير، وابنه عبد الله بن عروة. ورآه هشام بن عروة وحفظ عنه. وروى عنه خلق من التابعين. روى له الجماعة.
ولما مات معاوية بن أبى سفيان، طلب للبيعة ليزيد بن معاوية، فاحتال حتى صار إلى مكة، وصار يطعن على يزيد بن معاوية، ويدعو إلى نفسه سرا، فجهز إليه عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق والى المدينة جيشا منها، فيه عمرو بن الزبير، لقتاله بمكة، لما بين عمرو وعبد الله من العداوة، وفى الجيش أنيس بن عمرو الأسلمى، فنزل أنيس بذى طوى، ونزل عمرو بالأبطح، وأرسل لأخيه عبد الله يقول: تعال حتى أجعل فى عنقك جامعة من فضة، لتبر قسم يزيد، فإنه حلف ألا يقبل بيعتك، إلا أن يؤتى بك إليه فى جامعة، فأتى عبد الله من ذلك، وأظهر له الطاعة ليزيد، وخادع عمرا، وكان يصلى وراءه مع الناس، وأنفذ قوما لقتال أنيس، فلم يشعر بهم إلا وهم معه، فالتقوا وقتل أنيس، وبعث قوما لقتال عمرو بن الزبير، فانهزم أصحابه، وأتى به لعبد الله بن الزبير، فأقاد منه جماعة ينتف لحيته وضربه وغير ذلك، لأنه كان فعل بهم ذلك فى المدينة، لموادتهم أخاه عبد الله بن الزبير، وأقام عبد الله بمكة يظهر الطاعة ليزيد، ويؤلب عليه الناس بمكة والمدينة، حتى طرد أهل المدينة عامل يزيد عليها مع بنى أمية، إلا ولد عثمان بن عفان رضى الله عنه، وخلعوا يزيد، فغضب لذلك يزيد، وبعث مسلم بن عقبة المرى فى اثنى عشر ألفا، وقال له: ادع أهلها ثلاثا، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم، فأبحها ثلاثا، ثم اكفف عن الناس، وأمره بالمسير بعد ذلك لابن الزبير، وأنه إن حدث به أمر فليستخلف الحصين بن نمير السكونى، فسار بهم، فلما وصل بهم إلى المدينة، فعل فيها أفعالا قبيحة من القتل والسبى والنهب وغير ذلك، وأسرف فى ذلك، فسمى مسرفا لذلك، وهذه الواقعة، هى وقعة الحرة.
وذكر المسعودى: أن المقتولين فى هذه الواقعة من أبناء الأنصار والمهاجرين، يزيدون على أربعة آلاف. وكانت هذه الوقعة لثلاث بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وأتى خبرها ابن الزبير هلال المحرم سنة أربع وستين، فلحقه من ذلك أمر عظيم، واستعد هو وأصحابه لمسلم بن عقبة، وأيقنوا أنه نازل بهم، وشخص إليه مسلم، فلما انتهى إلى المشلل ـ وقيل لقديد ـ نزل به الموت، فاستدعى الحصين بن نمير وقال: يابن برذعة الحمار، لو كان الأمر إلىّ ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك، خذ
عنى أربعا: أسرع السير، وعجل المناجزة، ولا تمكن قريشا من أذنك، إنما هو الوفاق ثم النفاق ثم الانصراف.
وسار الحصين حتى قدم مكة لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين من الهجرة، وقد بايع أهل مكة وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير واجتمعوا عليه، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة، وقدم عليهم نجدة الحرورى فى أناس من الخوارج يمنعون البيت، وكان الزبير قد سمى نفسه عائذ البيت، وخرج ابن الزبير لقتال أهل الشام فاقتتلوا، ثم غلب الحصين على مكة كلها، إلا المسجد الحرام، ففيه ابن الزبير وأصحابه، قد حصرهم فيه الحصين، ثم نصب الحصين المجانيق على أبى قبيس والأحمر ـ وهو قعيقعان ـ على ما ذكر ابن قتيبة، وذكر أنه قرر على أصحابه عشرة آلاف حجر يرمون بها الكعبة.
وقال الأزرقى فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثنى محمد بن يحيى، عن الواقدى، عن رباح بن مسلم، عن أبيه قال: رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبى قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء، وترتج من أعلاها إلى أسفلها، ولقد رأيت الحجر يمر فيهوى الآخر على إثره فيسلك طريقه، حتى بعث الله عزوجل عليهم صاعقة بعد العصر، فأحرقت المنجنيق، واحترق تحته ثمانية عشر رجلا من أهل الشام، فجعلنا نقول: أصابهم العذاب، فكنا أياما فى راحة، حتى عملوا منجنيقا أخرى، فنصبوها على أبى قبيس. انتهى
ودام الحصار والحرب بين الفريقين، حتى وصل الخبر بنعى يزيد بن معاوية، وكان وصول نعيه إلى مكة ليلة الثلاثاء هلال ربيع الآخر سنة أربع وستين، وبلغ عبد الله بن الزبير نعى يزيد قبل الحصين بن نمير، فعند ذلك أرسل ابن الزبير رجالا من قريش، إلى الحصين بن نمير، أعلموه بذلك، وعظموا عليه ما أصاب الكعبة، وقالوا له: ارجع إلى الشام، حتى تنظر ماذا يجتمع عليه رأى أصحابك. ولم يزالوا به حتى لان لهم، ثم بعث إلى ابن الزبير: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، فالتقيا وتحادثا، وراث فرس الحصين، فجاء حمام الحرم يلتقط روثه، فكف الحصين فرسه عنهن، وقال: أخاف أن يقتل فرسى حمام الحرم، فقال ابن الزبير: تحرجون من هذا وأنتم تقتلون المسلمين فى الحرم؟ . فكان فيما قاله الحصين: أنت أحق بهذا الأمر، تعالى نبايعك، ثم أخرج معى إلى الشام، فإن هذا الجند الذى معى هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التى كانت بيننا وبينك وبين أهل الحرة، فقال له: أنا لا أهدر الدماء، والله لا أرضى أقتل بكل رجل منهم عشرة، وأخذ الحصين يكلمه سرّا وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل، فقال: الحصين قبح الله من يعدك بعد هذا ذاهبا أو آتيا قد
كنت أظن لك رأيا، وأنا أكلمك سرّا وتكلمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدنى القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل هو وأصحابه نحو المدينة، وندم ابن الزبير على ما صنع، فأرسل إليه: أما المسير إلى الشام فلا أفعله، ولكن بايعوا لى هناك فأنى مؤمنكم وعادل فيكم، فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك فلا يتأتى الأمر، فإن هناك ناسا من بنى أمية يطلبون هذا الأمر.
وكان رحيل الحصين عن مكة لخمس ليال خلون من ربيع الآخر، وصفا الأمر بمكة لابن الزبير، وبويع له بالخلافة فيها، وبالمدينة وبالحجاز واليمن والبصرة والكوفة وخراسان ومصر وأكثر بلاد الشام.
وكان مروان بن الحكم أراد أن يبايع له وأن يعضده، وكان قد انحاز هو وأهله إلى أرض حوران، فوافاهم عبيد الله بن زياد بن أبيه منهزما من الكوفة، فلوى عزمه عن ذلك، وقواه على طلب الخلافة، والتقوا مع الضحاك ابن قيس الفهرى، وقد دعا إلى نفسه بالشام، بعد أن دعا لابن الزبير بمرج راهط شرقى الغوطة بدمشق، فى آخر سنة أربع وستين من الهجرة؛ وقتل الضحاك، واستولى مروان على الشام، وسار إلى مصر فملكها ومهد قواعدها فى سنة خمس وستين، ثم عاد إلى دمشق، ومات فى رمضان من سنة خمس وستين، وقد عهد بالأمر لابنه عبد الملك، وصار الخليفة بالشام ومصر، وابن الزبير الخليفة بالحجاز، ثم سار عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير، أخى عبد الله، فالتقى الجمعان بدير الجاثليق فى سنة اثنتين وسبعين من الهجرة، فخان مصعبا بعض جيشه، لأن عبد الملك كتب إليهم يعدهم ويمنيهم، حتى أفسدهم على مصعب، فقتل وقتل معه أولاده: عيسى وعروة وإبراهيم، واستولى عبد الملك على بلاد العراق وما يليها، وجهز الحجاج بن يوسف الثقفى إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، وبعث معه أمانا لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار الحجاج فى جمادى الأولى من هذه السنة ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة، ويبعث ابن الزبير خيلا أيضا يقتتلون بعرفة، فتنهزم خيل ابن الزبير وتعود خيل الحجاج بالظفر، ثم كتب إلى عبد الملك يستأذنه فى دخول الحرم وحصر ابن الزبير، ويخبره بضعفه وتفرق أصحابه، ويستمده.
وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو، مولى عثمان، يأمر باللحاق بالحجاج، وكان عبد الملك قد أمر طارقا بالنزول بين أيلة ووادى القرى، يمنع عمال ابن الزبير من الانتشار، ويسد خللا إن ظهر له، فقدم طارق المدينة فى ذى الحجة، فى خمسة آلاف، وكان الحجاج قد قدم مكة فى ذى القعدة، وقد أحرم بحجة، فنزل بئر ميمون، وحج بالناس تلك السنة، إلا أنه لم يطف بالكعبة، ولا سعى بين الصفا والمروة، لمنع ابن الزبير له من ذلك، ولم يحج هو ولا أصحابه.
ولما حصر الحجاج ابن الزبير بمكة، نصب المنجنيق على أبى قبيس، ورمى به الكعبة، وكان عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قد حج تلك السنة، فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله، واكفف هذه الحجارة عن الناس، فإنك فى شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض، ليؤدوا الفريضة ويزدادوا خيرا، وإن المنجنيق قد منعهم من الطواف، فاكفف عن الرمى، حتى يقضوا ما وجب عليهم بمكة. فبطل الرمى حتى عاد الناس من عرفات، وطافوا وسعوا، فلما فرغوا من طواف الزيارة، نادى منادى الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير، وأول ما رمى بالمنجنيق إلى الكعبة، رعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق بيده، فوضعها فيه، ورمى بها معهم، فلما أصبحوا جاءت الصواعق، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا، فانكسر أهل الشام فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإنى ابن تهامة، وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر فأبشروا.
فلما كان الغد، جاءت الصواعق، فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة، وهم على خلافها.
ولم يزل القتال بينهم دائما، فغلت الأسعار عند ابن الزبير، وأصاب الناس مجاعة شديدة، حتى ذبح فرسه وقسمها لحما بين أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد بعشرين، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابى قوية ما لم يفن، فلما كان قبيل مقتله، تفرق عنه الناس، وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه: ابناه حمزة وخبيب، أخذا لأنفسهما أمانا.
ولما تفرق أصحابه عنه، خطب الناس الحجاج وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير، وما هم فيه من الجهد والضيق، ففرحوا واستبشروا وتقدموا، فملؤوا ما بين الحجون إلى الأبواب، فحمل ابن الزبير على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، فقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا، فقال له: بئس الشيخ أنا إذا فى الإسلام، لئن أوقعت قوما فقتلوا، ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يابن ذات النطاقين، فيقول:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1)
وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجالا من أهل كل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذى يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بنى شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بنى جمح، ولأهل قنسرين باب بنى سهم.
وكان الحجاج بناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير فى هذه الناحية ومرة فى هذه الناحية؛ فكأنه أسد فى أجمة ما تقدم عليه الرجال، يعدو فى إثر القوم حتى يخرجهم، ثم يصيح: أبا صفوان ويل أمه فتحا، لو كان له رجال، أو كان قرنى واحد كفيته، فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: إى والله، وألف.
فلما رأى الحجاج أن الناس لا يقدمون على ابن الزبير، غضب وترجل وأقبل يسوق الناس وصمد بهم، صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه. فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه، وضاربهم فانكشفوا، وعرج وصلى ركعتين عند المقام فحملوا على صاحب علمه فقتلوه على باب بنى شيبة، وصار العلم بأيدى أصحاب الحجاج، ثم حمل على أهل الشام، حتى بلغ الحجون، فرمى بآخرة، رماه رجل من السكون، فأصابته فى وجهه، فأرعش لها ودمى وجهه، فلما وجد الدم على وجهه قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
…
ولكن على أقدامنا يقطر الدم (2)
وقاتلهم قتالا شديدا، فتعاونوا عليه، فقتلوه، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فسجد، وسار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا! فقال الحجاج: أتمدح من يخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان عذر، إنا محاصروه منذ سبعة أشهر، وهو فى غير جند ولا حصن ولا منعة، وينتصف منا، بل يتفضل علينا، فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوب طارقا، وبعث الحجاج برأسى ابن الزبير وعبد الله بن صفوان إلى عبد الملك، وأخذ جثة ابن الزبير فصلبها منكسة على الثنية اليمنى بالحجون، ومنع من تكفينه ودفنه، ووكل بالخشبة من يحرسها.
ولما صلب ابن الزبير، ظهر منه ريح المسك، فصلب معه كلبا منتنا، فغلب على ريح
(1) انظر البيت فى: (ابن الأثير 4/ 354).
(2)
فى الكامل لابن الأثير 4/ 356:
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
المسك، وقيل: بل صلب معه سنورا. وذهب عروة بن الزبير إلى عبد الملك يستوهبه لأمه جثة ابن الزبير، ففعل عبد الملك، وأمر عروة فعاد إلى مكة، وكانت غيبته عنها ثلاثين يوما، فأنزل الحجاج جثة عبد الله بن الزبير، وبعث بها إلى أمه، فغسلته وصلى عليه عروة ودفنه.
وكان قتل ابن الزبير، على ما قال الواقدى، وعمرو بن على، وخليفة بن خياط، يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وقيل: قتل فى النصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وذكره صاحب الكمال. وقال ضمرة، وأبو نعيم، وعثمان بن أبى شيبة: قتل ابن الزبير سنة اثنتين وسبعين، والأول أصح، وكان له من العمر يوم قتل، إحدى وسبعون سنة، لأنه ولد فى السنة الثانية من الهجرة بالمدينة، وقيل كان ابن اثنتين وسبعون سنة، وهو أول من ولد بها من قريش، وكانت خلافته تسع سنين، وكان آدم نحيفا ليس بطويل، أطلس لا لحية له، فصيحا مفوها، نهاية فى الشجاعة والعبادة، وله فى ذلك أخبار.
فمن أخباره فى العبادة: أنه قسم الدهر ثلاث ليال: ليلة يصلى قائما إلى الصباح، وليلة راكعا إلى الصباح، وليلة ساجدا إلى الصباح. وقيل: إنه لم يكن الناس يعجزون عن عبادة إلا تكلفها، حتى إنه جاء سيل فكثر الماء حول البيت فطاف سبعا.
ومن أخباره فى الشجاعة: أنه غزا أفريقية مع عبد الله بن أبى سرح، أتاهم ملكها فى مائة ألف وعشرين ألفا، وكان المسلمون فى عشرين ألفا، فرأى ابن الزبير ملكهم قد خرج من عسكره، فأخذ جماعة وقصده فقتله، فكان الفتح على يديه.
وقد تقدم شيء من خبره فى الشجاعة، وهو أنه كانت الطوائف تدخل عليه من أبواب المسجد، فيحمل على كل طائفة حتى يخرجها، وكان يأخذ على يد الشاب فيكاد يحطمها.
قال الزبير: وأخبرنى عبد العزيز بن أبى سلمة، عن إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن ابن عوف الزهرى، عن أنس بن مالك، قال: إن عثمان بن عفان رضى الله عنه، أمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ينسخوا القرآن فى المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد فى شيء من القرآن: فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم ففعلوا، فى حديث يطول.
قال الزبير: حدثنا محمد بن حسن، عن نوفل بن عمارة، قال: سئل سعيد بن المسيب
عن خطباء قريش فى الجاهلية، فقال: الأسود بن المطلب بن أسد، وسهيل بن عمرو. وسئل عن خطبائهم فى الإسلام، فقال: معاوية وابنه، وسعيد وابنه، وعبد الله بن الزبير. قال الزبير: وحدثنى إبراهيم بن المنذر، عن عثمان بن طلحة، قال: كان عبد الله بن الزبير لا ينازع فى ثلاث: شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة.
قال الزبير: وحدثنى محمد بن الضحاك، عن جدى عبد الله بن مصعب، عن هشام ابن عروة، قال: رأيت ابن الزبير يرمى بالمنجنيق، فلا يلتفت ولا يرعد صوته، قال: وربما مرت الشظية منه قريبا من خده.
قال الزبير: وحدثنى عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة، ويوسف بن عبد العزيز بن الماجشون، عن ابن أبى مليكة، عن أبيه، أو عن أبيه، عن جده، قال: كنت أطوف بالبيت مع عمر بن عبد العزيز، فلما بلغت الملتزم تخلفت عنده أدعو، ثم لحقت عمر بن عبد العزيز، فقال لى: ما خلفك؟ . فقلت: كنت أدعو فى مواضع رأيت عبد الله بن الزبير يدعو عندها، فقال: ما تترك تحنانك على ابن الزبير أبدا! . فقلت له: والله ما رأيت أحدا أشد جلدا على لحم، ولا لحما على عظم من ابن الزبير، ولا رأيت أحدا أثبت قائما، ولا أحسن مصليا من ابن الزبير، ولقد مر حجر من المنجنيق، جاء فأصاب شرفة من المسجد، فمرت قذاذة منه بين لحيته وحلقه، فما زال من مقامه، ولا عرفنا ذلك فى صوته، فقال عمر: لا إله إلا الله، جاد ما وصفت.
قال الزبير: وسمعت إسماعيل بن يعقوب التيمى، يحدث مثل ما قال عمر بن عبد العزيز لابن أبى مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير، فإنه يزمزم على أصحابنا فيعشرموا عليه، فقال: عن أى حالة تسألنى؟ عن دينه أو عن دنياه؟ فقال: عن كلّ. قال: والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم، ولا لحما على عصب، ولا عصبا على عظم، مثل جلده على لحمه، ولا مثل لحمه على عصبه، ولا مثل عصبه على عظمه، ولا رأيت نفسا زكت بين جنبين، مثل نفس له زكت بين جنبيه، ولقد قام يوما إلى الصلاة، فمر حجر من حجارة المنجنيق بلبنة مبطوحة من شرفات المسجد، فمرت بين لحيته وصدره، فو الله ما خشع له بصره، ولا قطع له قراءته، ولا ركع دون الركوع الذى كان يركع ابن الزبير، كان إذا دخل فى الصلاة خرج من كل شيء إليها، ولقد كان يركع فيكاد يقع الرخم على ظهره، ويسجد وكأنه ثوب مطروح.
وقال الزبير: وحدثنى خالد بن وضاح قال: حدثنى أبو الحصيب نافع بن ميسرة، مولى آل الزبير، عن هشام بن عروة قال: سمعت عمى عبد الله بن الزبير يقول: والله لن أبالى إذا وجدت ثلاثمائة يصبرون صبرى، لواصلت على أهل الأرض.
وقال الزبير: وحدثنى محمد بن الضحاك، عن جدى عبد الله بن مصعب، عن هشام ابن عروة قال: أوصى الزبير بثلث ماله، قال: وقسم عبد الله بن الزبير ثلث ماله وهو حى.
قال الزبير: وحدثنى وهب بن جرير، عن أبيه قال: لما ظهر طلحة والزبير، على عثمان بن حنيف، وكان عاملا لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه على البصرة، أمر عبد الله بن الزبير، وكان يصلى بالناس، وكان أول ما علم من ابن الزبير، أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبى، فمر رجل فصاح عليهم، ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى وقال: يا صبيان، اجعلونى أميركم، وشدوا بنا عليه.
ومر به عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو صبى يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف، فقال له: ما لك لم تفر مع أصحابك؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
وقال الزبير: وحدثنى عمى مصعب بن عبد الله، أن عبد الله بن الزبير، استقطع من أبى بكر رضى الله عنه فى خلافته سلعا، فقال له أبو بكر الصديق رضى الله عنه: ما تصنع به؟ فقال له ابن الزبير: إن لنا جبلا بمكة يقال له جبل خويلد، فأحب أن يكون لنا بالمدينة مثله، فأقطعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه ناحية من سلع، فبنى عليه ابن الزبير [ .... ](3) ولا يعرف لهما اليوم أثر.
قال الزبير: وحدثنى عمى مصعب بن عبد الله، قال: غزا عبد الله بن الزبير أفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبى سرح العامرى، فحدثنى الزبير بن خبيب، وأبى، عبد الله بن مصعب، قالا: قال عبد الله بن الزبير: هجم علينا جرجير معسكرا فى عشرين ومائة ألف، فأحاطوا بنا من كل مكان، وسقط فى أيدى المسلمين، ونحن فى عشرين ألفا من المسلمين، واختلف الناس على ابن أبى سرح، فدخل فسطاطا له فخلا فيه، فرأيت غرة من جرجير، بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب، معه جاريتان تظللان عليه بريش الطواويس، بينه وبين جنده أرض بيضاء ليس فيها أحد، فخرجت أطلب ابن أبى سرح، فقيل قد خلا فى فسطاطه، فأتيت حاجبه، فأبى يأذن لى عليه، فدرت من كسر الفسطاط، فدخلت عليه فوجدته مستلقيا على ظهره، فلما دخلت عليه، فزع واستوى جالسا، فقلت له:«إيه إيه. كل أزب نفور! » قال: ما أدخلك على يابن الزبير؟ . قلت: إنى رأيت عورة من العدو، فاخرج فاندب لى الناس، قال: وما هى؟ . قال: فأخبرته،
(3) ما بين المعقوفتين بياض فى الأصل.
فخرج معى سريعا، فقال: أيها الناس! انتدبوا مع ابن الزبير، فاخترت ثلاثين فارسا، وقلت لسائرهم: اثبتوا على مصافكم، وحملت على الوجه الذى رأيت فيه جرجير، وقلت لأصحابى: احموا لى ظهرى، فو الله ما نشبت أن خرقت الصف إليه، فخرجت صامدا له، وما يحسب هو ولا أصحابه إلا أنى رسول، حتى دنوت منه، فعرف الشر، فثنى برذونه موليا، فأدركته فطعنته فسقط، وسقطت الجاريتان عليه، وأهويت إليه مبادرا، فدفعت عليه بالسيف، فأصبت يد إحدى الجاريتين فقطعتها، ثم احتززت رأسه، فنصبته فى رمحى وكبرت، وحمل المسلمون فى الوجه الذى كنت فيه، وارفض العدو فى كل وجه، ومنح الله المسلمين أكتافهم.
قال الزبير: فلما أراد ابن أبى سرح أن يوجه بشيرا إلى عثمان رضى الله عنه، قال: أنت أولى من هاهنا بذلك، فانطلق إلى أمير المؤمنين فأخبره الخبر. وقدمت على عثمان فأخبرته بفتح الله عزوجل ونصره وصنعه، ووصفت له أمرنا كيف كان.
فلما فرغت من ذلك قال: هل تستطيع أن تؤدى هذا إلى الناس؟ . قال: قلت: وما يمنعنى من ذلك؟ قال: فاخرج إلى الناس فأخبرهم، فخرجت حتى جئت المنبر، فاستقبلت الناس، فتلقانى وجه أبى، الزبير بن العوام، فدخلتنى له هيبة، فعرفها أبى فىّ، فقبض قبضة من حصى، وجمع وجهه فى وجهى، وهم أن يحصبنى، فتكلمت. فزعموا أن الزبير قال: والله لكأنى سمعت كلام أبى بكر الصديق رضى الله عنه: من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها أو أخيها، فإنما تأتيه بأحدهما.
وبشر عبد الله بن الزبير، مقدمة من أفريقية، بابنه خبيب بن عبد الله، وبأخيه عروة ابن الزبير. وكان خبيب أكبر من عروة، وكان عبد الله يكنى أبا بكر وأبا خبيب، ويكنى أبا خبيب بابنه خبيب بن عبد الله، وكان يقال لعبد الله بن الزبير «عائذ الله» .
قالت أم هاشم (زجلة) بنت منظور بن زبان الفزارية للحجاج [من البسيط]:
أبعد عائذ بيت الله تخطبنى
…
جهلا وغب الجهل مذموم
وقال عمر بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل [من الطويل]:
فإن ينج منها عائذ البيت سالما
…
فما نالنا منكم وإن شفنا جلل
وقال جرير أو غيره (4)[من الوافر]:
وعائذ بيت ربك قد أجرنا
…
وأبلينا فما نسى البلاء
(4) انظر البيت فى: (نسب قريش 6/ 233).
وقال الزبير: حدثنى عمى مصعب بن عبد الله، قال: زعموا أن الذى دعا عبد الله ابن الزبير إلى التعوذ بالبيت، شيء سمعه من أبيه حين سار من مكة إلى البصرة، قال: التفت الزبير إلى الكعبة بعد ما ودع وتوجه يريد الركوب، ثم أقبل على ابنه عبد الله بن الزبير ثم قال: أما والله ما رأيت مثلها لطالب رغبة، أو خائف رهبة. وكان ذلك سبب تعوذ ابن الزبير بها يوم مات معاوية.
وقال الزبير: سمعت أبى يقول: كان ابن الزبير قد صحب عبد الله بن أبى السرح، فلقيته بعد العتمة ملتثما، لا تبدو منه إلا عيناه، فعرفته، فأخذت بيده وقلت: ابن أبى السرح! كيف كنت بعدى؟ كيف تركت أمير المؤمنين؟ ، فلم يكلمنى، فقلت: ما لك، أمات أمير المؤمنين؟ فلم يكلمنى، فخليته، ثم أثبت معرفته، ثم خرجت حتى لقيت الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فأخبرته خبره، وقلت: سيأتيك الرسول فانظر ما أنت صانع! واعلم أن رواحلى فى الدار معدة، فالموعد بينى وبينك أن تغفل عنا عيونهم، ثم فارقته، فلم ألبث أن أتى رسول الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، فجئته، فوجدت الحسين عنده، ووجدت عنده مروان، فنعى إلىّ معاوية، فاسترجعت فأقبل علىّ الوليد فقال: هلم إلى بيعة يزيد، فقد كتب إلينا يأمرنا أن نأخذها عليك، فقلت: إنى قد علمت أن فى نفسه علىّ شيئا، لتركى بيعته فى حياة أبيه، وإن بايعت له على هذه الحال توهم أنى مكره، فلم يقع ذلك منى بحيث أريد، ولكن أصبح وتجتمع الناس، ويكون ذلك علانية إن شاء الله تعالى، فنظر إلى مروان، فقال مروان: هو الذى قلت لك، إن يخرج لم تره، فأحببت أن ألقى بينى وبين مروان شيئا نتشاغل به، فأقبلت على مروان فقلت له: وما قلت يابن الزرقاء؟ فقال لى وقلت له، حتى تواثبنا، فتناصيت أنا وهو، وقام الوليد يحجز بيننا، فقال له مروان: أتحجز بيننا وتدع أن تأمر أعوانك، فقال له الوليد: قد أرى ما تريد، ولا أتولى ذلك والله منه أبدا، اذهب يابن الزبير حيث شئت، فأخذت بيد الحسين فخرجنا من الباب جميعا، حتى صرنا إلى المسجد وابن الزبير يقول (5) [من الطويل]:
ولا تحسبنى يا مسافر شحمة
…
تعجلها من جانب القدر جائع
فلما دخل المسجد هو والحسين، افترق هو والحسين، وعمد كل رجل منهما إلى مصلاه يصلى فيه، وجعل الرسل تختلف إليهما، ويسمع وقعهم فى الحصباء، حتى هدأ عنهما الحس، ثم انصرفا إلى منازلهما، فأتى ابن الزبير رواحله فقعد عليها، وخرج من أدنى داره، ووافاه الحسين للموعد، فخرجا جميعا من ليلتهما، وسلكوا طريق الفرع، حتى نزلوا بالجثجاثة، وبها جعفر بن الزبير قد ازدرعها، وعمى عليهم من إبلهم، فانتهوا
(5) انظر ترجمته فى: (نسب قريش 7/ 239).