الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبلغنى خبر موته فى ذى الحجة من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وأنا بدمشق فى الرحلة الأولى، من ابن أخيه العفيف عبد الله بن محمد بن الضياء الحموى المكى.
1617 ـ عبد الله بن محمد بن عبد الله، يلقب بالعفيف، ويعرف بالأرسوفى:
صاحب المدرسة التى بقرب باب العمرة، والرباط الذى بقربها، المعروف برباط أبى رقيبة.
وهذا الرباط، وقفه ـ عن نفسه، وعن موكله شريكه فيه القاضى الفاضل عبد الرحيم بن علىّ البيسانى ـ على الفقراء والمساكين، العرب والعجم، الرجال دون النساء، القادمين إلى مكة، والمجاورين بها، على أن لا يزيد الساكن فى السكنى فيه على ثلاث سنين، إلا أن تقطع أقدامه، وسكناه فى السفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة.
نقلت هذا من حجر الرباط المذكور، وتاريخه سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
1618 ـ عبد الله بن محمد بن علىّ بن الحسين بن عبد الملك الطبرى، أبو النضر المكى:
سبط سليمان بن خليل، سمع من أبى الحسن بن المقير: اليقين لابن أبى الدنيا، ومن أبى حرمى: نسخة أبى مسهر الغسانى، ويحيى بن صالح الوحاظى، وما معهما، وغير ذلك على جده وغيره. وحدث.
سمع منه: جد أبى، أبو عبد الله الفاسى، بقراءة ابن عبد الحميد، فى يوم عاشوراء، سنة سبع وثمانين وستمائة بالحرم الشريف. ولم أدر متى مات، غير أنا استفدنا حياته فى هذا التاريخ.
1619 ـ عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمى، أبو جعفر المنصور العباسى، ثانى خلفاء بنى العباس:
ولى الخلافة بعد أخيه أبى العباس السفاح، حتى مات.
وكانت مدة خلافته: اثنتين وعشرين سنة، إلا ثمانية أيام ـ على ما ذكر صاحب العقد.
وذكر أنه بويع بالخلافة فى اليوم الذى توفى فيه أخوه، لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى الحجة، سنة ست وثلاثين ومائة. انتهى.
1619 ـ انظر ترجمته فى: (ابن الأثير 5/ 172، 6/ 6، الطبرى 9/ 292 ـ 322، البدء والتاريخ 6/ 90، اليعقوبى 3/ 100، تاريخ الخميس 2/ 324، 329، الأعلام 4/ 117).
وذكر غيره: أن الذى أخذ له البيعة: عمه عيسى؛ لأنه غائبا فى الحج فى هذه السنة، وهو الذى حج بالناس فيها.
وفى سنة أربعين ومائة، على ما ذكر خليفة بن خياط؛ والفسوى فى سنة أربع وأربعين، وفى سنة اثنتين وخمسين.
وذكر الفسوى: أنه حج بالناس أيضا سنة سبع وأربعين.
وفى سنة سبع وثلاثين: أمر بالزيادة فى المسجد الحرام. فزيد فيه من جانبه الشامى، ومن جانبه الغربى، ضعف ما كان عليه. وفرغ من ذلك، فى سنة أربعين ومائة.
وكان المنصور كاملا فى الرأى، والعقل، والدهاء، والحزم، والعزم، ذا هبية وجبروت، وسطوة وظلم، وعلم وفقه وشجاعة، يخالط آية الملك بزى ذوى النسك، كأن عينيه لسانان ناطقان، بخيلا بالمال إلا عند النوائب.
كان عمه عبد الله ـ بعد موت السفاح ـ زعم أن السفاح عهد إليه فى حياته بالخلافة بعده، وأنه على ذلك حارب مروان، حتى هزمه واستأصله، وأقام بذلك شهودا، ودعا إلى نفسه، وبايعه جيشه وعسكره بدابق (1). فجهز المنصور لحربه أبا مسلم الخراسانى، فالتقى الجيشان بنصيبين (2)، وتمت وقعة هائلة، انهزم فيها الشاميون، وفر عبد الله إلى البصرة، فاختفى فيها عند نائبها أخيه سليمان واستولى أبو مسلم الخراسانى على خزانته وكانت عظيمة، لما فيها من ذخائر بنى أمية ونعمتهم، التى استولى عليها عبد الله حين قاتل بنى أمية.
وأمر المنصور أبا مسلم الخراسانى بالاحتفاظ بها، فعظم ذلك عليه، وعزم على خلع المنصور. وتوجه إلى خراسان فى جيوشه، ليقيم بها علويّا خليفة. فبعث إليه المنصور يستعطفه ويعتذر إليه، ولم يزل يتحيل على أبى مسلم، حتى حضر إلى خدمته، فبالغ فى تعظيمه.
(1) دابق: مدينة فى أقاصى فارس يذكر ويؤنث، وهو مذكور فى حديث مسلم بن الحجاج:«ينزل الروم بدابق أو الأعماق» أو ما هذا معناه قال عياض: بفتح الباء جاء فى كتاب مسلم. انظر: معجم البلدان 4/ 72، الروض المعطار 231.
(2)
نصيبين: مدينة فى ديار ربيعة العظمى، وهى من بلاد الجزيرة بين دجلة والفرات.
انظر: الروض المعطار 577، معجم البلدان 288/ 5 وما بعدها، اليعقوبى 362، نزهة المشتاق 199، رحلة ابن جبير 239، الكرخى 52، ابن حوقل 193، 194، المقدسى 140، آثار البلاد 467، ابن الوردى 28.
ثم إن أبا مسلم، دخل على المنصور يوما، وقد أعد له عشرين نفرا بالسلاح فى مجلسه من وراء الستر، فأخذ المنصور يعنفه ويعدد عليه ذنوبه، فبقى أبو مسلم يعتذر، وهو لا يقبل له عذرا، وصفق المنصور بيده، وكان ذلك إشارة بينه وبين من أحضرهم لقتل أبى مسلم فى الإذن فى قتله. فخرجوا إليه، فقطعوه فى الحال، ولف فى بساط، وألقى رأسه إلى أصحابه مع ذهب عظيم، فاشتغلوا بذلك.
ثم خرج على المنصور، محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب بالمدينة فى سنة خمس وأربعين ومائة. وكان خرج وهو راكب حمارا فى مائتين وخمسين رجلا، ووثبوا على رباح أمير المدينة، فسجنوه، وبويع محمد بالخلافة طوعا وكرها. وقال: إنه خرج غضبا لله ورسوله. وبعث بعض أعوانه إلى مكة واليمن، فملكوا ذلك، وبعث بعضهم إلى الشام فلم يمكنوا من ذلك.
ولما بلغ المنصور خروجه، ندب لقتاله، ولى العهد عيسى بن موسى العباسى، وقال: لا أبالى أيهما قتل الآخر، يعنى: إن قتل عيسى محمدا فبها ونعمت، وإن قتل محمد عيسى، استراح منه ليعهد إلى ابنه المهدى. فسار عيسى فى أربعة آلاف فارس، وكتب إلى أشراف المدينة يستميلهم ويمنيهم، فتفرق عن محمد بعض جمعه، فأشير عليه بأن يلحق بمصر ليتقوى منها، فأبى وحصن المدينة، وعمق الخندق.
فلما قرب منه عيسى، حارب، فولى محمد، وقال لمن معه: أنتم من مبايعتى فى حل، فانسلوا عنه، وبقى فى طائفة، فبعث إليه عيسى يدعوه إلى الإنابة، وبذل له الأمان، فلم يقبل، ثم إن عيسى أنذر أهل المدينة وخوفهم، وناشدهم الله أياما، فأبوا، فزحف عليهم، ولام محمد بن عبد الله، ومحمد لا يرعوى.
فالتحم القتال، فقتل محمد، بعد أن قتل بيده من عسكر العراق سبعين نفرا. وحمل رأسه إلى المنصور. وكان معه حين قاتل ثلاثمائة مقاتل. وكان أسود، ضخما، فى حديثه تتمة وفيه فضيلة.
وذكر صاحب العقد، كتابا كتبه المنصور إليه، وجوابا إلى المنصور، وجوابا من المنصور إليه عن جوابه. وقد رأيت أن أثبت ذلك لما فيه من بيان فضلهما.
قال صاحب العقد، بعد أن ذكر شيئا من تحيل المنصور على معرفة مكان محمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم، وقبضه على أبيهما وغيره من آل أبى طالب بالمدينة، فى سنة أربع وأربعين ومائة. فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، وخرج محمد بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر:
من عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله:(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 33، 34] ولك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أنتما أنبتما ورجعتما، من قبل أن أقدر عليكما، وأن يقع بينى وبينكما سفك الدماء، أن أؤمنكما وجميع ولديكما، ومن يتابعكما أو يبايعكما على دمائكم وأموالكم، وأوسعكما ما أصبتما من دم أو مال، وأعطيكما ألف ألف درهم لكل واحد منكما، وما سألتما من الحوائج، ولكما من البلاد حيث شئتما، وأطلق من الحبس جميع ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحدا منكما بذنب سلف منه أبدا. فلا تشمت بنا وبكم أعداؤنا من قريش. فإن أحببت الأخذ لك من الأمان والمواثيق والعهود ما تأمن به وتطمئن إليه، إن شاء الله تعالى.
فأجابه محمد بن عبد الله: من محمد بن محمد بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى عبد الله ابن محمد (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)[القصص: 1 ـ 6] وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضت علىّ، فإن الحق معنا، وإنما دعيتم بهذا الأمر بنا، وخرجتم إليه بشيعتنا، وحظيتم بفعلنا، وإن أبانا عليا كان الإمام، فكيف ورثتم ولاية ولده، وقد علمتم أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الطوار، ولا من أبناء الطلقاء، وأنه ليس يمت أحد بمثل ما نمت به من القرابة والسابقة والفضل. وأنا بنو أم أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة ابنة عمرو فى الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته فى الإسلام دونكم، وأن الله تعالى اختارنا، واختار لنا، فولدنا من النبيين أفضلهم، ومن السلف أولهم إسلاما: علىّ بن أبى طالب.
ومن النساء: خديجة بنت خويلد، وأول من صلى إلى القبلة منهم.
ومن البنات: فاطمة، سيدة نساء العالمين، ونساء أهل الجنة، ولدت الحسن والحسين، سيدى أهل الجنة، صلوات الله عليهما، وأن هاشما ولد عليّا مرتين، وأن عبد المطلب ولد حسنا مرتين، وأن النبى صلى الله عليه وسلم ولدنى مرتين، وأنى من أوسط بنى هاشم نسبا، وأشرفهم أبا وأما، لم تعرق فى العجم، ولم تنازع فى أمهات الأولاد، فمازال الله بمنه
وفضله، يختار لى فى الأمهات والآباء فى الجاهلية والإسلام، حتى اختار لى فى النار. فآبائى أرفع الناس درجة فى الجنة، وأهونهم عذابا فى النار، وإنى خير أهل الجنة، وأبى خير أهل النار، فأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، ولك والله إن دخلت فى طاعتى، وأجبت دعوتى، أن أؤمنك على نفسك ومالك، ودمك وكل أمر أحدثته، إلا حدّا من حدود الله تعالى، أو حق امرئ مسلم أو معاهد. فقد علمت ما يزيلك من ذلك. فأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؛ لأنك لا تعطى من العهد أكثر ما أعطيت رجالا قبلى، فأى الأمانات تعطى؟ . أمان ابن هبيرة، أو أمان عمك عبد الله بن علىّ، أو أمان أبى مسلم؟ والسلام.
فكتب إليه أبو جعفر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حسن.
أما بعد: فقد بلغنى كتابك، وفهمت كلامك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضل به الغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة الأولياء؛ لأن الله تعالى جعل العم أبا، وبدأ به فى القرآن على الولد الأدنى. ولو كان اختيار الله تعالى لهن على قدر قرابتهن؛ لكانت آمنة أقربهن رحما، وأعظمهن حقا، وأول من يدخل الجنة غدا، ولكن الله اختار لخلقه على قدر علمه الماضى لهن.
فأما ما ذكرت من فاطمة جدته عليه السلام، وولادتها لك، فإن الله تعالى لم يرزق واحد من ولدها دين الإسلام، ولو أن أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة، لكان عبد الله بن عبد المطلب، أولاهم بكل خير فى الدنيا والآخرة، ولكن الأمر لله، يختار لدينه من يشاء (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 117].
ولقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وله عمومة أربعة، فأنزل الله عليه:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فدعاهم فأنذرهم، فأجابه اثنان، أحدهما أبى، وأبى عليه اثنان، أحدهما أبوك. فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثا. وقد زعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار، وليس فى الشر خيار، ولا فخر فى النار، وسترد، فتعلم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلده هاشم إلا مرة واحدة، وزعمت أنك أوسط بنى هاشم نسبا، وأكرمهم أما وأبا، وأنك لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بنى هاشم طرا، فانظر أين أنت؟ ويحك من الله غدا! فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا فخرت على إبراهيم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل خيار ولد أبيك خاصة، وأهل الفضل منهم إلا بنو
أمهات أولاد؟ وما ولد منكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من على بن الحسين، وهو لأم ولد، وهو خير من جدك حسن بن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علىّ، وهو خير منك، ولدته أم ولد.
وأما قولك: إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول:(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)[الأحزاب: 40] ولكنكم بنو ابنته، وهى امرأة ولا تحوز ميراثا، ولا ترث الولاء، ولا يحل لها أن تؤم، فكيف تورث بها إمامة. ولقد ظلمها أبوك بكل وجه، فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا. فأبى الناس إلا تقديم الشيخين وتفضيلهما. ولقد كانت السنة التى لا اختلاف فيها: أن الجد أب الأم والخال والخالة، لا يرثون ولا يورثون.
وأما ما فخرت به من علىّ وسابقته، فقد حضرت النبى صلى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل، فما أخذوه. وكان فى الستة من أصحاب الشورى، فتركوه كلهم: رفضه عبد الرحمن بن عوف، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق بابه دونه، وبايع معاوية بعده، ثم طلبها علىّ بكل وجه. فقاتل عليها، ثم حكم الحكمين، ورضى بهما، وأعطاهما عهد الله وميثاقه، فاجتمعا على خلعه. واختلفا فى معاوية، وسالمه الحسن، وباع الخلافة بخرق ودراهم، وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأموال إلى غير أهلها، وأخذ مالا من غير ولاته. فإن كان لكم فيها حق، فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك الحسين بن علىّ على ابن مرجانة. وكان الناس معه عليه، حتى قتلوه وأتوه برأسه، ثم خرجتم على بنى أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زيد بأرض خراسان، وقتلوا رجالكم، وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم كالسبى المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم، فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأردنا إشراككم فى ملكنا فأبيتم إلا الخروج علينا، وأنزلت ما رأيت من ذكرنا أباك، وتفضيلنا إياه، أنا نقدمه على العباس وحمزة وجعفر، وليس كما ظننت، ولكن هؤلاء سالمون، مسلم منهم، مجتمع بالفضل عليهم، وابتلى أبوك بالحرب، فكانت بنو أمية تلعنه على المنابر، كما تلعن أهل الكفر فى الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له، وذكرنا فضله، وعنفناهم، وطلبناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أن المكرمة فى الجاهلية سقاية الحاج الأعظم، وولاية بئر زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته. وقد نازعه فيها أبوك، فقضى بها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نزل نليها فى الجاهلية والإسلام.
وقد علمت أنه لم يبق أحد من بعد النبى صلى الله عليه وسلم، من بنى عبد المطلب، غير العباس وحده، وارثه مرتين، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بنى هاشم، فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايتنا، وميراث النبى صلى الله عليه وسلم ميراثنا، والخلافة فى أيدينا، فلم يبق فضل ولا شرف فى الجاهلية والإسلام، إلا والعباس وارثه ومورثه والسلام. انتهى.
وفى سنة خمس وأربعين ومائة، خرج على المنصور أيضا، إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أخو محمد بن عبد الله بن الحسن المقدم ذكره بالبصرة. وكان قدمها فى عشرة أنفس، واختفى بها، واتفق له فى اختفائه أمور يتعجب منها، وحاصل الأمر، أنه بايعه نحو أربعة آلاف.
فلما بلغ المنصور خروجه، اشتد قلقه لكثرة خوفه ووجله، فنزل بالكوفة ليأمن غائلة الشيعة بها، وألزم الناس حينئذ بلبس السواد حتى العوام، وجعل يسجن ويقتل كل من اتهمه، والشيعة يعلون بها، ويبايعون سرّا لإبراهيم، حتى اتسع الخرق، وعظم الخطب، وخرج إبراهيم والخلائق مقبلة إليه، فتحصن منه نائب البصرة، ثم نزل إليه نائب البصرة بأمان، وأنفق إبراهيم فى عسكره ما وجده فى الخزانة، وكان ستمائة ألف، وبعث سراياه إلى الأهواز (3) وفارس وواسط (4) وبعث المنصور لحربه عامرا المكى فى خمسة آلاف فارس، فالتقوا أياما. فقتل من جموع إبراهيم خلق كثير، ثم التقى عسكره مع عسكر عيسى بن موسى بعد رجوعه من المدينة مظفرا، والمنصور فى ذلك كله لا يقر ولا ينام، لما حصل فى نفسه من الخور، وإلا حوله بالكوفة مائة ألف سيف كامنة مضمرة للشر، ولولا سعادته لزال ملكه، ولو هجم إبراهيم الكوفة لاستولى على الأمر، وظفر بالمنصور، ولكنه ترك ذلك تدينا. وقال: أخشى إن هجمنا الكوفة أن يستباح الصغار والنساء. وكان جنده يختلفون عليه، وكل واحد يشير برأى، إلى أن التقى
(3) الأهواز: آخره زاى وهى جمع هوز وأصله حوز فلما كثر استعمال الفرس لهذه اللفظة غيرتها حتى أذهبت أصلها جملة. وكان اسمها فى أيام الفرس خوزستان وفى خوزستان مواضع يقال لكل واحد منها خوز كذا منها خوز بنى أسد وغيرها فالأهواز اسم للكورة بأسرها، وأما البلد الذى يغلب عليه هذا الاسم عند العامة اليوم فإنما هو سوق الأهواز.
انظر: معجم البلدان (الأهواز).
(4)
واسط: مدينتان على جانبى دجلة، والمدينة القديمة فى الجانب الشرقى، وابتنى الحجاج مدينة فى الجانب الغربى، وجعل بينهما جسرا بالسفين. انظر: الروض المعطار 599، اليعقوبى 322، معجم ما استعجم 4/ 1363، نزهة المشتاق 120، الكرخى 58، ابن حوقل 214.
الفريقان بباخمرا (5) على يومين من الكوفة، فالتحم القتال. فاستظهر أصحاب إبراهيم، وانهزم حميد بن قحطبة، مقدم جيش المنصور، وثبت عيسى بن موسى فى نحو مائة، وقال: لا أزول ولو قتلت، لما أشير عليه بالفرار، ثم إن ابنى سليمان بن علىّ، عطفا مع جماعة من الفرسان، وحملوا على عسكر إبراهيم حملة صادقة، من وراء إبراهيم. فانهزم أصحاب إبراهيم، حتى بقى فى نحو من سبعين مقاتل، وتراجع المنهزمون من أصحاب المنصور، وحمى الحرب، وأصاب إبراهيم سهم غرب فى حلقه، فأنزل وهو يقول:(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)[الأحزاب: 38]، أردنا أمرا وأراد الله غيره، وحف به أصحابه يحمونه، فحمل عليهم حميد بن قحطبة، فنزل إليه جماعة، واحتزوا رأسه، وحمل إلى المنصور على رمح، فخر ساجدا، وذلك فى الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة خمس وأربعين، ولما جاءه الرأس، تمثل بقول معقر [من الطويل]:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينا بالإياب المسافر
وكان لما وصل إليه المنهزمون من أصحابه، قد هيأ النجائب للهرب إلى الرى (6) وكان بها ولده فى أكثر جيش، وتمثل حين اشتد قلقه بقول القائل [من الكامل]:
ونصبت نفسى للرماح دريئة
…
إن الرئيس لمثل ذاك فعول
وفى سنة خمسين ومائة، خرجت جيوش خراسان عن طاعته، فبعث لحربهم حازم ابن خزيمة فى جيش عرمرم يسد الفضاء، فالتقى الجيشان، وصبر الفريقان. فانهزم الملك أستاذ سيس (7) الذى انضم إليه جيش خراسان، ثم حوصر مدة، فسلم نفسه وقتل.
وفى سنة ثلاث وخمسين، غلبت الخوارج الأباضية على مملكة أفريقية، وقتلوا نائب المنصور بها، وهزموا عسكره، وكان رءوس الخوارج ثلاثة: أبو قرة فى أربعين ألفا من الصفرية، وأبو حاتم فى مائتى ألف من الفرسان، وأبو عاد، وبويع أبو قرة بالخلافة.
ولما بلغ المنصور خبرهم أهمه ذلك، وبعث فى سنة أربع وخمسين، يزيد بن حاتم فى خمسين ألف فارس، وأنفق على الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم.
(5) باخمرا: بالراء، موضع بين الكوفة وواسط وهو إلى الكوفة أقرب، قالوا: بين باجرا والكوفة سبعة عشر فرسخا. انظر: معجم البلدان (باخمرا).
(6)
الرى: بفتح أوله، وتشديد ثانيه .. وهى مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن.
انظر: معجم البلدان 3/ 116 وما بعدها.
(7)
سيس: بلد هو اليوم من أعظم مدن الثغورا الشامية بين أنطاكية وطرسوس. انظر: معجم البلدان 3/ 297.