الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التعزية
روينا في كتاب الترمذي، و"السنن الكبرى" للبيهقي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أجْرِهِ" وإسناده ضعيف.
وروينا في كتاب الترمذي أيضًا،
ــ
باب التعزية
قوله: (رَوَيْنَا في كِتَاب الترمِذِيِّ الخ) في المشكاة رواه الترمذي وابن ماجة، وقال هذا غريب لا نعرفه مرفوعًا إلَّا من حديث علي بن عاصم الراوي، قال ورواه بعضهم عن محمد بن سوقة أي بضم المهملة وسكون الواو بعدها قاف بهذا الإسناد موقوفًا أي على ابن مسعود قال ابن حجر في شرحه ومثله لا يقال من قبل الرأي له حكم المرفوع فساوى موقوفه ومرفوعه وقال الحافظ بعد التخريج هذا حديث غريب وأخرجه البزار وقال الترمذي حديث غريب إلّا من حديث علي بن عاصم وهو أكبر ما أنكر عليه.
وروى بعضهم عن محمد بن سوقة فلم يرفعه وقال البيهقي بعد تخريجه من وجه آخر عن علي بن عاصم نحو ما قال الترمذي وزاد، وقد روي عن غيره. ثم ذكر الحافظ من رواه عن ابن سوقة غير علي بن عاصم وذكر من خرج كل رواية بما فيه طول. ثم قال بعد ذكر من خرج كل طريق من المتابعين لعلي بن عاصم في محمد بن سوقة، وهؤلاء كلهم متهمون بسرقة الحديث ولم يذكر الترمذي في الباب غيره كعادته وقد روي من حديث جابر بلفظه أخرجه ابن عدي ومن حديث غيره اهـ. قوله:(مَنْ عزَّى) من التعزية وهي لغة التصبير لمن أصيب بما يعز عليه وقد يطلق على الصبر على المكروه وشرعا الحمل على الصبر بوعد الأجر والتذكير بأن الأمور جميعها مرجعها لله تعالى وإن له ما أخذ وما أعطي والتحذير من الوزر بالجزع والدعاء للميت المسلم بالمغفرة ونحو ذلك. قوله: (مُصَابًا) أي بموت وغيره أي من حمل المصاب على التصبر والتأسف بمن أصيب بمثل مصيبته فصبر فللمعزي مثل أجر المصاب لدلالته على ذلك وقد ورد الدال على خير كفاعله. قوله: (إسنَادُه ضَعيفٌ) قال السيوطي في حاشيته على سنن ابن ماجة بل أورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال تفرد به علي بن عاصم عن محمد بن سوقة وقد كذبه شعبة ويزيد بن هارون ويحيى بن معين
عن أبي برزة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدًا فِي الجَنَّةِ". قال الترمذي: ليس إسناده بالقويِّ.
ــ
في آخرين وقال الترمذي بعد إخراجه فقال أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم هذا الحديث نقموه عليه وقال البيهقي هذا الحديث مما أنكره النّاس على علي بن عاصم وكان أكثر كلامهم فيه بسببه ثم ذكر له متابعين قال الحافظ ابن حجر كل متابعيه أضعف منه بكثير وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلّا طريق إسرائيل ذكرها صاحب الكمال من طريق وكيع عنه ولم أقف بعد على إسنادها وقال الصلاح العلائي قد رواه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي عن وكيع عن قيس بن الربيع صدوق متكلم فيه لكن حديثه يؤيد
رواية علي بن عاصم ويخرج به عن أن يكون ضعيفًا واهيًا فضلًا عن كونه موضوعًا اهـ. قوله: (عَنْ أَبِي بَرْزة الأسلمي) بفتح الهمزة من ولد أسلم بن قصي اختلف في اسمه واسم أبيه فقيل خالد بن نضلة قاله بعض ولده، وقيل عبد الله بن نضلة، وقيل عبيد بن نضلة وهو الصحيح وقيل اسم أبيه عبد الله، وقيل عايذ بتحتية فذال معجمة، وقيل عمرو وأبوه برزة صحابي جليل مشهور أسلم وشهد غزوات. منها أحد وخيبر وفتح مكة، وهو قاتل عبد الله بن خطل الذي تعلق بأستار الكعبة يوم الفتح ولم يزل يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي صلى الله عليه وسلم فتحول إلى البصرة وله بها دار، وكان يقوم جوف الليل وهو شيخ كبير فيتوضأ ولا يوقظ أحدًا من خدمه ثم يصلي* روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قيل ستة وأربعون حديث اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بأربعة، وكان مع معاوية بالشام وغزا خراسان * ومات رضي الله عنه بمرو، وقيل بالبصرة، وقيل بخراسان، وقيل بمفازة بين سجستان وهراة وقال ابن حبان الأشبه سنة أربعة وستين، وقيل ستين قبل موت معاوية قاله ابن عبد البر وآخرون، ، وقيل سنة خمس وستين ورجحه الحافظ ابن حجر. قوله:(ثكْلى) أي امرأة ثكلى. قال في النهاية الثكل فقد الولد وامرأة ثاكل وثكلى ورجل ثاكل وثكلان اهـ، ويندب تعزية المصاب كما سيأتي ولو نساء لكن لا يعزيهن إلا زوج أو ذو محرم ويحرم تعزية غيرهما
وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حديثًا طويلًا فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: "ما أخْرَجَكِ يا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِكِ؟ " قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحَّمتُ إليهم ميِّتَهم أو عزَّيتُهم به".
وروينا في سنن ابن ماجه، والبيهقي، بإسناد حسن، عن عمرو بن حزم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أخاهُ بِمُصِيبَتِهِ إلا كَساهُ الله عز وجل مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
ــ
قال بعض أئمتنا للشابة دون العجوز البرزة قال في فتح الإله والذي يدل عليه كلام الأئمة أن التعزية للمرأة أو منها إن قارنها محرم كنظر أو خلوة أو كلام يخشى منه فتنة يحرم تعزيتها سواء الشابة والعجوز وإن لم يقترن به ذلك كرهت في الشابة وأبيحت في العجوز.
قوله: (وَرَوَينَا في سننِ أَبِي دَاوُدَ والنسَائِي) زاد في الخلاصة وغيرهما بإسناد ضعيف قال الحافظ بعد تخريج الحديث هذا حديث حسن أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وفي سنده ربيعة بن سيف مختلف فيه لينه البخاري، وقال النسائي لا بأس به وقال بعد تخريج حديثه ربيعة صدوق، وفي نسخة ضعيف كذا ذكر المزي في الأطراف وليس له في النسائي إلَّا هذا الحديث اهـ.
تنبيه
وقع في نسخ الأذكار تقديم حديث عبد الله بن عمرو الذي فيه القصة مع فاطمة على حديث عمرو بن حزم وتأخيره أنسب لمناسبة حديث عمرو بن حزم للحديثين المذكورين قبله في الباب لاشتمالهما على الترتيب في التعزية وإنما يستفاد من حديث عبد الله بن عمرو مشروعيتها للنساء والله أعلم. قوله: (عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزمٍ) بالحاء المهملة والزاي ابن زيد بن لواذان الأنصاري الخزرجي نسبه
في بني غنم بن مالك بن النجار، ومنهم من ينسبه في بني مالك بن جشم بن الخزرج، ومنهم من ينسبه لغير ذلك، يكنى أبا الضحاك أول مشاهده الخندق استعمله صلى الله عليه وسلم على أهل نجران، وهو بنو الحارث بن كعب وهو ابن سبع عشرة سنة بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا، وكتب له كتابًا فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات.
توفي بالمدينة سنة إحدى وقيل ثلاث
واعلم أن التعزية هي التصبير، وذكر ما يسلِّي صاحب الميت، ويخفِّف حُزْنَه، ويهوِّن مصيبَته، وهي مستحبَّة، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهي داخلة أيضًا في قول الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وهذا أحسن ما يستدلُّ به في التعزية.
وثبت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ".
واعلم أن التعزية مستحبَّة قبل الدفن وبعدَه. قال أصحابنا: يدخل وقت التعزية من حين يموت،
ــ
وقيل أربع وخمسين، قيل توفي في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة، والصحيح إنه توفي بعد الخمسين لأن محمد بن سيرين روى عنه إنه كلّم معاوية بكلام شديد لما أراد البيعة ليزيد روى عنه ابنه محمد، والنضر بن عبد الله السلمي كذا في أسد الغابة. قوله:(واعْلم أَن التعْزِية الخ) هذا معناها شرعًا وسبق معناها لغة في الحديث أول الباب. قوله: (وذِكْرُ مَا يُسَلى صَاحبَ المَيتِ) أي بوعد الأجر على الصبر على المصائب والتذكير بأن لله تعالى ما أعطى ولله ما أخذ والأمر كله لله وعظم كرم الله للقادم عليه ومزيد إحسانه إليه وقد رضي بقضائه وصبر نفسه على ابتلائه. قوله: (وهي مُسْتحَبةٌ) أي على سبيل التأكيد ويسن تعزية جميع أهل الميت ولو صغارًا أو نساءً بتفصيله السابق فيهن والسيد بمملوكه بل ويعزي كل من حصل له وجد بفقده بخلاف الشامت الفرح بالموت لأن المطلوب بالتعزية من التصبير الخ. منتف في حقه ويندب البداءة بأضعفهم عن حمل المصيبة وتخصيص أفضلهم بمزيد تلطف ودعاء. قوله: (عَلَى الأَمْرِ بالمعروُفِ) وهو الصبر على المصيبة والرضا بالقضاء. قوله: (والنهي عنِ المنكر) من التبرم والضجر من الأقدار والاعتراض على ذلك المقتضى لعظيم الأوزار. قوله: (وهَذًّا) أي اشتمالها على الأمر وعلى النهي عن المنكر ودخولها في التعاون على البر المأمور به بالآية الشريفة. قوله: (وثَبتَ في الصحِيح) أي من جملة حديث طويل رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة هو من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا
ويبقى إلى ثلاثة أيام بعد الدفن. والثلاثة على التقريب لا على التحديد، كذا قاله الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا.
قال أصحابنا: وتكره التعزية بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكونُ قلبه بعد الثلاثة، فلا يجدِّدُ له الحزنُ، هكذا قاله الجماهير من أصحابنا. وقال أبو العباس ابن القاص من أصحابنا: لا بأس بالتعزية بعد الثلاثة، بل يبقى أبدًا وإن طال الزمان، وحكى هذا أيضًا إمام الحرمين عن بعض أصحابنا، والمختار أنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا أو جماعة منهم، وهما إذا كان المعزِّي أو صاحب المصيبة غائبًا حال الدفن، واتفق رجوعه بعد الثلاثة، قال أصحابنا: التعزية بعد الدفن أفضل منها قبلَه، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر، هذا إذا لم ير منهم جزعًا شديدًا، فإن رآه قدَّم التعزية ليسكِّنهم، والله تعالى أعلم.
ــ
والآخرة ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه الحديث. قوله: (ويَبْقى إِلى ثَلاثَةِ أَيامٍ) بعد الدفن وقيل ابتداؤها من الموت وهو
ظاهر كلام الروضة وبه صرح جمع قال في شرح الروض والقول بأنه من الدفن مفرع على ابتداء التعزية منه أيضًا لا من الموت كما أفصح به الخوارزمي فقول النووي في المجموع وغيره وقتها من الموت إلى الدفن وبعدها بثلاثة أيام مراده به ما قلناه بدليل قوله بعد فذكرنا أن مذهبنا استحبابها قبل الدفن وبعده ثلاثة أيام وبه قال أحمد اهـ. لكن المتجه كما قال بعض المتأخرين ما في المجموع وغيره أنها من الدفن وإن صرح جمع بخلافه وأولوا عبارته بما تنبو عنه. قوله: (بعْدَ ثَلاثَةِ أَيامٍ) من الدفن كما علمت ما فيه. قوله: (والمخْتارُ أَنَّها لَا تُفعلُ بعْدَ الثَلاثَةِ الخ) قال المحب الطبري وارتضاه الإسنوي والظاهر ابتداؤها بعد القدوم بثلاثة أيام ويلحق بالغيبة المرض وعدم العلم كما صرح به ابن المقري في شرح الإرشاد ومثله الحبس كما بحثه الأذرعي قال ابن حجر في الامداد وينبغي أن يلحق بهذه ما يشبهها من
فصل: ويستحب أن يعم بالتعزية جميعَ أهل الميت وأقاربَه الكبارَ والصغار والرجال والنساء، إلا أن تكون امرأةٌ شابة، فلا يعزِّيها إلا مِحارمُها وقال أصحابنا: وتعزية الصلحاءِ والضعفاءِ على احتمال المصيبة والصبيانِ آكد.
فصل: قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمعَ أهلُ الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في
حوائجهم ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نصِّ الشافعي رضي الله عنه، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها مُحدَث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرَّمة كما هو الغالب منها في العادة، كان ذلك حرامًا من قبائح المحرَّمات، فإنه مُحدَث.
وثبت في الحديث الصحيح: "أن كلَّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ".
فصل: وأما لفظ التعزية، فلا حَجْر فيه، فبأيِّ لفظ عزَّاه حصلت.
ــ
أعذار الجماعة فتبقى في ذلك إلى زوال المانع أي ويمتد بعده لثلاث اهـ.
قوله: (جَميعَ أَهل المَيِّتِ) قال الزركشي المستحب التعزية لكل من يحصل عليه وجد حتى بالزوجة والصديق وتعبيرهم بالأهل جري على الغالب. قوله: (فَلَا يعزِّيهَا إلا مَحَارِمُها) أي أو من في معناهم من زوجها وعبدها الثقة وسبق تفصيل في تعزية الأجنبي وفي التحفة لابن حجر الشابة لا يعزيها إلَّا نحو محرم أي يكره ذلك كابتدائها السلام ويحتمل الحرمة وكلامهم إليها أقرب لأن في التعزية من الوصلة وخشية الفتنة ما ليس في مجرد السلامة أما تعزيتها له فلا شك في حرمتها عليه كسلامها اهـ، والأوجه ما سبق عنه في فتح الإله من التفصيل. قوله:(يُكْرهُ الجُلوسُ لِلتَّعْزِيةِ) قالوا لأنه محدث وهو بدعة ولأنه يجدد الحزن ويكلف المعزي وما ثبت عن عائشة من إنه صلى الله عليه وسلم لما جاء خبر قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن فلا نسلم أن
جلوسه كان لأجل أن يأتوه النّاس فيعزوه فلم يثبت
واستحب أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم: أعْظَمَ اللهُ أجْرَكَ، وأحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ، وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك. وفي تعزية الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءَك، وغفرَ لميتك. وفي تعزية الكافر بالكافر: أخلف الله عليك.
وأحسن ما يعزَّى به، ما روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "أرسلت إحدى بناتِ النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبرُه أنَّ صبيًّا لها أو ابنًا في
الموت، فقال
ــ
ما يدل عليه. قوله: (وَاستحبَّ بعض أصحابنا) قال الحافظ ولم يذكر دليله من الأثر ثم أسند إلى أبي خالد الوالي بكسر اللام وتخفيف الموحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلًا فقال يرحمه الله يأجرك قال الحافظ بعد تخريجه هذا مرسل حسن الإسناد أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمرو بن الزبير أنهما كانا يقولان في التعزية أعقبك منه عقبى صالحة كما أعقب عباده الصالحين قال الحافظ وسنده حسن ثم أخرج الحافظ عن الشافعي بسنده إلى جعفر الصادق عن أبيه عن جده قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية فسمعوا قائلًا يقول إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفًا من كل هالك ودركًا من كل فإن فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب أخرجه البيهقي قال وروي من وجه آخر عن جابر ومن وجه آخر عن أنس وأوردها في أواخر الدلائل فأما حديث أنس فوقع لنا بعلو في المعجم الأوسط ثم ذكر الحافظ من خرج حديث جابر وما فيه من المخالفة فراجعه اهـ. قوله: (وَأَحْسنَ عَزاءَكَ) بالمد أي جعل صبرك حسنًا وإنما قدم في التعزية الدعاء للمصاب لأنه المخاطب وليوافق قوله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لحينا وميتنا فبدأ بالحي فخولف في تعزية الكافر بالمسلم تقديمًا للمسلم. قوله: (الكافر) ظاهر عبارته شمول الكافر فيها الحربي وغيره أن الحربي يعزى واختلف فيه فأطلق الجيلي وغيره إنه لا يعزى وهو قضية كلام الروضة وقال الشيخ أبو حامد لا يعزى بمعنى أنها تكره قال في شرح الروض وهو الظاهر إلّا أن يرجى إسلامه فينبغي ندبها أخذا من قول السبكي ينبغي إنه لا يندب تعزية الذمي بالذمي أو بالمسلم إلّا إذا رجي إسلامه تألفًا وفي المجموع عدم ندبها قال في المهمات وكلام جماعة منهم
للرَّسولِ: ارْجعْ إلَيْها فأخْبرْها أن لِلهِ تَعالى ما أخذَ، ولَهُ ما أعْطَى، وكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بأجَلٍ مُسَمَّى، فَمُرْها فَلْتَصْبرْ وَلْتَحْتَسِبْ
…
" وذكر تمام الحديث.
قلت: فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام، المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والآداب والصبر على النوازل كلِّها، والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض، ومعنى:"إن لله تعالى ما أخذ"، أن العالم كلَّه ملْكٌ لله تعالى، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية، ومعنى:"وله ما أعطى" أن ما وهبه لكم ليس خارجًا عن مِلْكه، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء، "وكل شيء عنده بأجل مسمى" فلا تجزعوا، فإن من قبضه قد انقضى أجله المسمَّى فمحال تأخُّره أو تقدُّمه عنه، فإذا علمتم هذا
ــ
صاحب التنبيه كالصريح في ندبها اهـ. أي مطلقًا وعبارة هذا الكتاب قريب من ذلك فإنه قال ويعزى الكافر وهو اسم جنس يشمل الحربي وغيره والله أعلم.
قوله: (أَنَّ لله مَا أخَذَ) هو مقتبس من قوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ} [البقرة: 156]، وجملة وله ما أعطى تأكيد مناسب للمقام وقدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخرًا في الواقع لما يقتضيه المقام والمعنى أن الله إذا أراد أن يأخذه فهو الذي أعطاه فإن أخذه أخذ ماله فلا ينبغي الجزع إذا استعيد منه وما، فيه وفيما بعده مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف فعلى الأول التقدير الأخذ والإعطاء وعلى الثاني لله الذي أخذ من الأولاد ما أخذ منهم وله ما أعطى منهم أو مما هو أعم من ذلك وكل شيء أي ما أخذه وأعطاه من الأعمار والأرزاق عنده أي كائن في علمه مكتوب عند ملائكته ملتبس بأجل مسمى معين لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه فغم الجزع حينئذٍ لا فائدة له بل هو سبب لفقد الثواب وعظم المصاب والجملة ابتدائية معطوفة على الجملة قبلها ويجوز في كل النصب عطفًا على اسم أن فيستحب التأكيد أيضًا عليه. قوله:(فلْتصْبِرْ) أي بأن تحتمل مرارة فقده من غير أن يظهر عليها شيء من أنواع الجزع. قوله: (ولْتحتَسبْ) أي تدخر ثواب فقده والصبر عليه عند الله وكل من تصبر وتحتسب أمر للغائبة المؤنثة قال في فتح الإله أو الحاضرة
كله، فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم، والله أعلم.
وروينا في كتاب النسائي بإسناد حسن، عن معاوية بن قُرَّة بن إياس، عن أبيه رضي الله عنه.
"أن النبي صلى الله عليه وسلم فَقَدَ بعض أصحابه، فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله! بُنَيُّهُ الذي رأيتَه هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بُنَيِّهِ، فأخبره أنه هلكَ فعزَّاه عليه ثم قال: "يا فُلانُ! أيُّما كانَ أحَبُّ إلَيكَ؟ أنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ أوْ لَا تأتِي غَدًا بابًا مِنْ
ــ
نظير فبذلك فليفرحوا وعلى هذا فالمبلغ هذا اللفظ بعينه وعلى الأول المبلغ معناه ويؤخذ من الخبر ندب أمر ذي المصيبة بالصبر قبل وقوعها ليخف قلقه عند وقوعها اهـ، ولم يظهر قوله أو الحاضرة إذ لو كان للمؤنثة الحاضرة لتعين الإتيان بياء المخاطبة والله تعالى أعلم.
قوله: (وَرَوَينَا في كِتَاب النَّسَائي الخ) ولفظه كان يختلف إليه رجل من الأنصار ومعه ابن له فقال له صلى الله عليه وسلم ذات يوم أتحبه يا فلان قال نعم فأحبك الله كما أحبه قال ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقالوا يا رسول الله مات ابنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن لا تأتي يوم القيامة بابًا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى حتى يفتحه لك فقال رجل يا رسول الله أله وحده أو لكلنا قال بل لكلكم قال الحافظ بعد تخريجه هذا حديث صحيح أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون ووكيع فرقهما عن شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي الغلاس عن يحيى بن سعيد القطان عن شعبة وهؤلاء
متفق على التخريج لهم في الصحيحين وكذا معاوية بن قرة لم يبق إلَّا الصحابي فعجب من اقتصار الشيخ على تحسين سنده وقد صححه ابن حبان والحاكم وأخرجه ابن حبان من رواية وكيع والحاكم من رواية آدم ابن أبي إياس عن شعبة وله شاهد عند أحمد من رواية حسان بن كريب عن حوشب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه وفيه أن الصبي كان كمأدب وفيه إنه فقده ستة أيام وفي آخره أتحب أن يكون كهلًا كأفضل الكهول أو يقال أدخل الجنة جزاء بما أخذ منك وشاهد آخر عند الطبراني من حديث ابن عمرو زاد فيه بعد قوله أحبك الله كما أحبه فقال إن الله أشد حبًّا لي منك وفي آخره أترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش قال بلى اهـ. قوله: (عَنْ أَبِيهِ) أي قرة بضم القاف وتشديد الراء وهو ابن إياس المزني جد إياس بن معاوية بن قرة قاضي البصرة
أبْوَاب الجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ؟ " قال: يا نبيَّ اللهِ، بل يسبقني إلى
ــ
الموصوف بالذكاء وكان قرة يسكن البصرة روى شعبة عن أبي إياس معاوية بن قرة قال جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير فمسح رأسه واستغفر له قال شعبة فقلت أله صحبة قال لا ولكنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال أتيت رسول لله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أرني الخاتم قال أدخل يدك قال فأدخلت يدي في جربانه فجعلت ألمس انظر إلى الخاتم فإذا هو على نغض كقفه مثل البيضة فما منعه ذلك أن يدعو إليّ وإن يدي لفي جربانه قال أبو عمر قرة هذا قتلته الأزارقة وذلك أن عبد الرحمن بن عنبس وهو ابن عبد الله بن عامر بن كريز وكان في عسكر قرة بن إياس المزني وابنه معاوية فقتل قرة ذلك اليوم وقتل معاوية قاتل أبيه كذا في أسد الغابة لابن الأثير وفي النهاية حديث قرة المزني قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلت يدي في جربانه الجربان بالضم أي للجيم والراء وتشديد الموحدة جيب القميص والألف والنون زائدتان اهـ. قوله: (إلا وجدتَه قدْ سبَقَكَ إِليهِ) قال القرطبي في التذكرة في هذا الخبر دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم بسببهم استحال أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم قال أبو عمر بن عبد البر هذا إجماع في إن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت فجعلهم في المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز مخالفتهم ولا يجوز على مثلهم الغلط والله أعلم. وأما حديث الشقي من شقي في بطن أمه فمخصوص بغير أطفال المسلمين أو من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يشق بدليل الأحاديث والإجماع وأما حديث خلق الله الجنة وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم وكذلك النار فهو ساقط مردود بالإجماع ورواية طلحة بن يحيى ضعيف اهـ. قلت وفي تضعيف الخبر مع كونه في صحيح مسلم وغيره نظر من أن الخبر لا ينافي ما ذكر لما تقرر آنفًا من إمكان حمل من مات من أطفال المسلمين على من خلق للجنة وهم في أصلاب الآباء والله أعلم.
قوله: (يَفْتحُهُ لكَ) أي لتدخل به أو معه وأنت في غاية من السرور بولدك فوق السرور بذلك الفوز
بالنعيم المقيم قال الحافظ. قوله: (روى البيهقيُّ في منَاقِب
الجنة فيفتَحُها لي أحبُّ إليَّ، قال:"فَذلِك لَكَ".
وروى البيهقي بإسناده في "مناقب الشافعي" رحمهما الله، أن الشافعي بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مات له ابن فجزع عليه عبدُ الرحمن جزعًا شديدًا، فبعث إليه الشافعي رحمه الله: يا أخي عزِّ نفسك بما تعزّي به غيرك، واستقبح من فِعْلك ما تستقبحه من فعل غيرك، واعلم أن أمضَّ المصائب فَقْدُ سرورٍ، وحرمان أجرٍ، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزْر؟ فتناول حظَّك يا أخي إذا قَرُبَ منك قبل أن تطلبَه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبرًا، وأحرزَ لنا ولك بالصبر أجرًا، وكتب إليه:
إنِّي مُعَزِّيكَ لا أني على ثِقَةٍ
…
مِنَ الخُلُودِ وَلكِنْ سُنَّةُ الدِّينِ
ــ
الشَّافعيِّ الخ) هو كما قال وقد ذكر الشيخ بعد آثارًا عن بعض الصحابة وعن التابعين بغير سند ولا نسبة لمخرج وبعضها في كتاب التعازي للمدائني بغير سند وبعضها في كتاب العزاء لأبي بكر بن أبي الدنيا بأسانيده فلم أر الإطالة بسوقها. قوله: (ابْن مَهْدِيّ) على وزن مرمى. قوله: (فَجَزِعَ لَهُ جَزَعًا شدِيدًا) قال البيهقي في مناقب الشافعي حتى امتنع من الطعام والشراب فبلغ ذلك الشافعي فكتب الخ. قوله: (عَزِّ نفسكَ) أي صبرها على مضي المصائب بما يصبر به غيرك من التأمل فيما جاء من الأحاديث بوعد الثواب وحسن المآب لمن صبر على مصيبته واحتسب مولاه في بليته. قوله: (واستقْبحْ الخ) أي فإن غيرك يستقبح ما صدر منك من القبيح وإن كان ربما يحسن القبيح ما قام بالإنسان من الميل لذلك الشيء والعنية به. قوله: (أمَضِّ) بفتح الميم وبالضاد المعجمة المشددة أي أوجع المصائب وآلمها. قوله: (وحرمانُ أَجرٍ) الواو على بابها بدليل إنه جاء في رواية أخرى عنه في محلها مع وبدليل قوله بعد فكيف إذا اجتمعا مع وزر أي فتجتمع عليه ثلاث مصيبات فقد السرور وحرمان الأجور واكتساب الوزر الناشئ عن فعل ما نهى عنه مما يدل على الجزع والتبرم من القدر. قوله: (فَتنَاوَلْ حظَّك) أي خذ حظك من الأجر بعظيم الصبر وحفظ اللسان والجنان عما لا يرضى المولى سبحانه. قوله: (وقد نَأَى عنكَ) لكونك كدرته بما فعلت بما يدل على الجزع المانع من الثواب الموجب لعظم المصاب. قوله: (وأَحرزَ) وفي نسخة وأجزل. قوله:
فَمَا المُعزِّي بِبَاقٍ بَعْدَ مَيِّتِهِ
…
وَلا المُعَزَّي وَلَوْ عَاشَا إلى حِينِ
وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزِّيه بابنه: أما بعد: فإن الولد على والده ما عاش حُزْن وفِتنةٌ، فإذا قدَّمه فصلاةٌ ورحمةٌ، فلا تجزع على ما فاتك من حُزْنه وفِتنته، ولا تُضيِّعْ ما عوَّضك الله من صلاته ورحمته.
وقال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سالم وعزَّاه بابنه: أسَرَّك وهو بليَّةٌ وفتنةٌ، وأحزنك وهو صلواتٌ ورحمة؟ ! .
وعزَّى رجل رجلًا فقال: عليك بتقوى الله والصبر، فبه يأخذ المحتسب، وإليه يرجع الجازع. وعزَّى رجل رجلًا فقال: إنَّ من كان لك في الآخرة أجرًا، خير ممن كان لك في الدنيا سرورًا.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه دفن ابنًا له وضحك عند قبره، فقيل له:
ــ
(ثِقَةٍ) بكسر المثلثة مصدر حذف فاؤه كعده أي لست على وثوق الخلود وفي نسخة على طمع والخلود المكث الطويل وذلك إن الإنسان خفي عليه وقت وفاته وزمن انصرام حياته. قوله: (حزْنٌ) أي إن كان له عاقًا وفي الأمور شاقًّا. قوله: (وفِتْنَةٌ) أي إن كان بضد ذلك فإنه ربما يفتتن بمحبته بمقتضى الطبع البشري ويتقاعد بها عن نيل على المقام من الطاعات السنية والمقامات العلية قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، أي فلا يفتتن المرء بهما فيؤثر محبتهما على ما عند الله تعالى فيجمع المال
ويؤثر حب الدنيا على طاعة الله عز وجل فإن الله عنده أجر عظيم. قوله: (فإِذَا قدَّمَهُ) بتشديد الدال أي إذا مات قبله واحتسب أجر مصيبته فيه عند ربه فهو له صلاة ورحمة قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]. قوله: (ولا تضيِّعْ) مضارع من التضييع أي لا تتسبب في ضياع ما عوضك الله به عند الصلوات والرحمة بأن تفعل ما يمنع الأجر ويجلب الوزر. قوله: (والصَّبرِ فيهِ) أي في فقد المصاب به المفهوم من المقام. قوله: (يأخذُ المحتسِبُ) بالرفع فاعل يأخذ وحذف مفعوله للتعميم أي يأخذ المحتسب من جزيل الصلاة ما أشار إليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]. قوله: (وإِليهِ) أي إلى الصبر يرجع الجازع لطول المدة وهون الشدة فتسلوا كما يسلوا البهائم ويذهب
أتضحك عند القبر؟ قال: أردتُ أن أُرغِمَ أنف الشيطان. وعن ابن جريج رحمه الله قال: من لم يتعزَّ عند مصيبته بالأجر والاحتساب، سلا كما تسلو البهائم.
وعن حميد الأعرج قال: رأيت سعيد بن جبير رحمه الله يقول في ابنه ونظر إليه: إني لأعلم خير خَلَّة فيك، قيل: ما هي؟ قال: يموت فأحتسبه.
وعن الحسن البصري رحمه الله، أن رجلًا جزع على ولده، وشكا ذلك إليه، فقال الحسن:
كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم كانت غيبتُه أكثر من حضوره، قال: فاتركه غائبًا، فإنه لم يغب عنك، غيبةُ الأجر لك فيها أعظم من هذه، فقال: يا أبا سعيد! هوَّنت عني وجْدي على ابني.
وعن ميمون بن مهران، قال: عزَّى
ــ
سروره وينعدم على تلك المصيبة لجزعه أجوره. قوله: (أْنْ أُرغِمَ أَنفَ الشَّيْطَانِ) بضم الهمزة مضارع أرغم يقال أرغم الله أنفه أي ألصقه بالتراب فهو كناية عن التحقير والاستقذار. قوله: (ابْنِ جُرَيجٍ) بجيم مضمومة بعدها راء مفتوحة ثم مثناة ساكنة ثم جيم. قوله: (مَنْ لمْ يَتعَزَّ عِنْدَ مُصِيبتِهِ بالأجرِ) أي من لم يتكلف من الصبر ومشقته عند نزول مصيبته ووجود صدقها بتذكر الأجر الذي وعد الله به من صبر واسترجع ووعده عز وجل لا يخلف. قوله: (سلا كَما تسلُوا البهائِم) أي نسي المصيبة وذهب عنه ألمها لتطاول الأزمان وتعاقب الليالي والأيام فيصير في ذلك كسلو البهائم التي ليس لها على مصائبها أجر والله أعلم، وقد عزى كلام ابن جريج هذا لعلي رضي الله عنه وعقده من قال:
وقال علي في التعازي لأشعث
…
وخاف عليه بعض تلك الملائم
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة
…
فتؤجر أم تسلوا سلو البهائم
قوله: (أَنَّ رجلًا جزع عَلَى ولدِهِ) أي لموته وعظم ألم فقده. قوله: (وشكَا ذلكَ) أي إلى أبي
الحسن. قوله: (كَانَ ابنُك الخ) أي كان كما في نسخة. قوله: (فاتْرُكهُ غائبًا) أي فقدر إنه كان غائبًا متروكًا في غيبته لم يؤب من سفره فكما كنت صابرًا على فراقه في السفر فاصبر على فراق مماته وإن هذا الفراق أعظم ثوابًا لك وأجرًا. قوله: (وجْدِي) هو بفتح الواو وإسكان الجيم أي محبتي أو حزني فهو مشترك بين مصدري وجد على وزن فعل بمعنى أحب ومصدر فعل بالكسر معنى حزن كما في القاموس وغيره. قوله: (مَيمُونَ بنِ مهرَانَ)
رجل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على ابنه عبد الملك رضي الله عنه، فقال عمر: الأمر الذي نزل بعبد الملك أمر كنا نعرفه، فلما وقع لم ننكره.
وعن بشر بن عبد الله قال: قام عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال: رحمك الله يا بني فقد كنت سارًّا مولودًا، وبارًّا ناشئًا، وما أُحِبُّ أني دعوتك فأجبتني.
وعن مسلمة قال: لما مات عبد الملك بن عمر كشف أبوه عن وجهه وقال: رحمك الله يا بنيَّ، فقد سُرِرتُ بك يوم بُشِّرتُ بك، ولقد عُمِّرتُ مسرورًا بك، وما أتت عليَّ ساعة أنا فيها أسرُّ من ساعتي هذه، أما والله إن كنت لتدعو أباك إلى الجنة.
قال أبو الحسن المدائني: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال: يا بنيَّ كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحقِّ، قال يا بنيَّ لأن تكون في ميزاني أحبُّ إليَّ من أن أكونَ في ميزانك، فقال:
ــ
ميمون بوزن مفعول بين ميمية تحتية ساكنة وآخره نون ومهران بكسر الميم وإسكان الهاء بعدها راء آخره نون. قوله: (بشرِ بنِ عبد الله) ضبطه الطاهر الأهدل بحاشية أصله إنه بالسين المهملة وهو الحلواني قال ووقع في بعض النسخ بالمعجمة يا بني بفتح الياء أو كسرها أو سكونها وسبق بيان وجوهها في باب ما يقول إذا دخل بيته. قوله: (فقَد سُررتُ بكَ) بالبناء للمفعول أي بمقتضى الطبع البشري أو الباعث الإيماني لما فيه من تكثير سواد الأمة المحمدية المباهي بكثرتها يوم القيامة سيد البرية صلى الله عليه وسلم. قوله: (أَمَا والله الخ) أما فيه للاستفتاح والقسم لتأكيد ما سبقه من كونه في تلك الساعة أسر به منه في سائر الساعات لكونه يدعوه للجنة كما ورد في من مات له فرط إنه لا يأتي بابًا من الجنة إلَّا وجده قد سبقه إليه فإن في قوله إن كنت بفتح الهمزة كما هو مضبوط في نسخة صحيحة فهي مصدرية ولام العلة محذوف ويحتمل أن تكون بكسر الهمزة وتكون إن بمعنى إذ أو تكون شرطية حذف جوابها لسبق ما يدل عليه وعليه فإما أن يقال إنها وضعت موضع إذا الموضوعة للتحقيق وإما أن يقال إن تحقيق هذا المقام موقوف على الصبر على جريان الأقدار والرضا بالقضاء وذلك قل لا يحصل فيفوته هذا المقام فحسن الإتيان بما لا يدل على الجزم والله أعلم. قوله: (في الحَقّ) أي الموت
يا أبت لأن يكون ما تحبُّ أحبُّ إليَّ من أن يكون ما أُحب.
وعن جويرية ابن أسماء عن عمه أن إخوة ثلاثة شهدوا يوم تُسْتُرَ فاستُشهدوا، فخرجتْ أمُّهم يومًا إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجلٌ حضر تُسْتُرَ، فعرفتْه، فسألته عن أمور بَنِيها، فقال: استُشهدوا، فقالت: مقبلين، أو مدبرين، قال: مقبلين، قالت: الحمد لله، نالوا الفوزَ، وحاطوا الذِّمار، بنفسي هم وأبي وأمي. قلت: الذِّمار بكسر الذال المعجمة، وهم أهل الرجال وغيرهم مما يحق عليه أن يحميَه، وقولها: حاطوا: أي: حفظوا وَرَعَوا.
ومات ابن الإمام الشافعي رضي الله عنه فأنشد:
وما الدَّهرُ إلَّا هكذا فاصْطَبِر لهُ
…
رَزِيَّةُ مالٍ أو فِرَاق حَبِيبِ
قال أبو الحسن المدائني: مات الحسن والد عبيد الله بن الحسن، وعبيدُ الله يومئذ قاضي البصرة وأميرُها، فكثر من يعزِّيه، فذكروا ما يتبين به جزع
ــ
والحق يطلق على كل ثابت سواء كان عينًا كالجنة حق أو لا كالموت حق. قوله: (يا أَبتِ) الياء فيه عوض عن ياء المتكلم فيجوز فيه وفي أمت في
النداء فتح الياء وكسرها والكسر أكثر في كلامهم لكن الفتح أقيس وسمع ضمها تشبيهًا بنحو ثبة وهبه وهو شاذ ولا يجمع بين ياء المتكلم والألف والتاء إلَّا في الضرورة فيقال يا أبتي أو الألف يا أبتا. قوله: (جُوَيْرِيَة) وهو على وزن تصغير جارية وهو ابن أسماء بن عبيد الضبعي توفي سنة ثلاث وسبعين كذا في التقريب للحافظ ابن حجر. قوله: (تُستَرَ) هو بضم التاء الأولى وفتح الثانية بينهما سين مهملة وقد تعجم آخره راء مهملة. قوله: (نالُوا الفوزَ) أي الموعود به في القرآن بقوله عز وجل {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13].قوله: (رَزِيَّة مالٍ) الرزية بفتح الراء كسر الزاي بعدها تحتية بوزن فعيلة من الرزء وهو المصيبة بفقد ما يعز على الإنسان مأخوذ من الرزء وأصله النقص وبعد هذا البيت في نسخة بيت آخر هو قوله:
وقد فارق النّاس الأحبة قبلنا
…
وأعيا دواء الموت كل طبيب
قوله وأعيا في تلميح إلى الحديث المرفوع تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلَّا وضع