المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الطبعة الأولى - المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب - جـ ١

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب

- ‌المبحث الأَول: التعريف بلفظ: " المذهب

- ‌1- ماهية " المذهب " وحقيقته لغة

- ‌2- حقيقته العرفية:

- ‌3- ماهية " المذهب " وحقيقته اصطلاحًا

- ‌المبحث الثاني: التعريف بلفظ: " الفقه

- ‌1- ماهية: " الفقه " لغة

- ‌2- ماهية: " الفقه " شرعاً:

- ‌3- الفقه الأكبر

- ‌4- لقب: " القُرَّاء

- ‌5- ماهية: " الفقه " اصطلاحًا:

- ‌المبحث الثالث: أنواع الفقه المدوَّن في كل مذهب

- ‌النوع الأَول: أَحكام التوحيد

- ‌النوع الثالث: أَحكام فقهية اجتهادية

- ‌المبحث الرابع: تاريخ التمذهب، والحث على فقه الدليل

- ‌المبحث الخامس: الاجتهاد في الفقه الإسلامي وأثره في الثروة الفقهية في كل مذهب

- ‌1- من له حق الاجتهاد:

- ‌2- مجالاته:

- ‌3- أَسبابه:

- ‌4- أنواعه:

- ‌5- حُكْمُه:

- ‌6- حِكْمَته:

- ‌المبحث السادس: في شروط نقل المذهب، والتوقِّي من الغلط فيه وأسباب الغلط

- ‌ الأَمر الأول: شروط نقل المذهب

- ‌ الأَمر الثاني: في التوقي من الغلط في نقل المذهب وأسباب الغلط:

- ‌المدخل الثاني: في معارف عامة عن المذهب الحنبلي

- ‌الدور الأول: دور نشأته في حياة الإمام أَحمد

- ‌الدور الثاني: دور النقل والنمو:

- ‌الدور الثالث: دور تحرير المذهب وتنقيحه:

- ‌الدور الرابع: دور الاستقرار:

- ‌الدور الخامس: دور إِحياء التراث

- ‌المبحث الثاني: في مزايا الفقه الحنبلي

- ‌ فقه الدليل

- ‌ كثرة المسائل العلمية والعملية

- ‌ البعد عن الفقه التقديري في المذهب:

- ‌ البعد عن الِإغراق في الرأي:

- ‌ التيسير في الأحكام من العبادات والمعاملات والشروط والنكاح وغيرها:

- ‌المبحث الثالث: في معرفة ما كتب عن التعريف بالمذهب

- ‌ فائدة:

- ‌المذهب الحنفي:

- ‌المذهب المالكي:

- ‌المذهب الشافعي:

- ‌المدخل الثالث: في أصول المذهب

- ‌فصل:الأَصل الثالث من أصوله:

- ‌فصل:الأَصل الرابع: الأَخذ بالمرسَلِ والحديثِ الضعيف

- ‌المدخل الرابع: في معرفة مصطلحات المذهب وتفسيرها

- ‌ تمهيد:

- ‌الفصل الأول: في ألفاظ الإمام أحمد في أجوبته ومراتبها الحكمية

- ‌الفصل الثاني: في مصطلحات الأصحاب العامة

- ‌ القسم الأول

- ‌ القسم الثاني:

- ‌ القسم الثالث:

- ‌ القسم الرابع:

- ‌ القسم الخامس:

- ‌الفصل الثالث: في مصطلحات الأصحاب في نقل بعضهم عن بعض

- ‌المدخل الخامس: في التعريف بطرق معرفة المذهب ومسالك الترجيح فيه

- ‌التمهيد الأول: في ماهية المذهب

- ‌التمهيد الثاني: عناية الأصحاب في بيان هذه الطرق

- ‌التمهيد الثالث: مراتب الناس فيها

- ‌الفصل الأول: في طرق معرفة المذهب

- ‌الطريق الأول: القول:

- ‌أَولَا: أقسام أقواله من جهة القبول أو الرد:

- ‌ القسم الأول:

- ‌ القسم الثاني

- ‌ القسم الثالث:

- ‌ القسم الرابع:

- ‌ القسم الخامس:

- ‌ ثانياً: أَقسام أقواله من جهة إِفادتها مرتبة الحكم التكليفي في منطوقها:

- ‌ القسم الأول:

- ‌ القسم الثاني:

- ‌ القسم الثالث:

- ‌ القسم الرابع:

- ‌ الطريق الثالث: السكوت:

- ‌ الطريق الرابع: التوقف

- ‌ القسم الاول:

- ‌ القسم الثاني:

- ‌الفصل الثاني: في طرق معرفة المذهب، اصطلاحًا من تصرفات الأصحاب في التخريج على المذهب ولازمه

- ‌الطريق الأول

- ‌ الطريق الثاني:

- ‌ الطريق الثالث:

- ‌الفصل الثالث: في مسالك الترجيح عند الاختلاف في المذهب

- ‌المبحث الأول: أنواع الاختلاف في المذهب

- ‌المبحث الثاني: مسالك الترجيح عند الاختلاف

- ‌المبحث الثالث: المرجحات (1)

- ‌المبحث الرابع: من له حق الترجيح في المذهب

- ‌المبحث الخامس: اصطلاح الأصحاب في حكاية الخلاف

- ‌المدخل السادس: في التعريف بالإمام أحمد

- ‌المبحث الأول: عيون المعارف في ترجمته

- ‌نَسَبُهُ:

- ‌منازل بني شيبان في الإسلام:

- ‌تاريخ ولادته ووفاته:

- ‌ابن حنبل:

- ‌ كنيته

- ‌ آل الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى

- ‌ صفته:

- ‌ فراسة العلماء عنه في صغره:

- ‌ أَحمد في صِغَرِهِ يرفض أَن يكون وَشَّاء:

- ‌ تواضعه (2) :

- ‌ إِجابته الدعوة:

- ‌ تعبده وزهده غير المتكلف:

- ‌ حبه للوحدة:

- ‌ بعده عن الشهرة:

- ‌ إِجلال علماء زمانه له وهيبته عندهم (2) :

- ‌ كرمه:

- ‌ مصدر نفقته:

- ‌تقوته من عمل يده:

- ‌ حوانيت كان يؤجرها:

- ‌رفضه أعطيات السلطان:

- ‌ تاريخ بدء طلبه للحديث:

- ‌ رحلاته:

- ‌كثرة شيوخه (1) :

- ‌ أَدب أَحمد مع شيوخه:

- ‌ رواية شيوخه عنه (2) :

- ‌ كثرة تلامذته:

- ‌ غرامه بالكتب (1) :

- ‌ إِمامته في علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال:

- ‌ روايته في الكتب الستة (1) :

- ‌ من نفائس أقواله:

- ‌ مؤلفاته:

- ‌ تاريخ تأليفه للمسند:

- ‌ سعة حفظه:

- ‌المبحث الثاني: إِمامته في الفقه (1)

- ‌ كائنة الحنابلة مع الطبري:

- ‌المبحث الثالث: مَدَى تأثر فقه أحمد ومذهبه بفقه الشافعي ومذهبه

- ‌المبحث الرابع: خَبَر القول بخلق القرآن: فِتْنَةٌ. ثم مِحْنةٌ. ثم نصْرةٌ

- ‌ دور فِتْنه القول بخلق القرآن:

- ‌دَوْرُ المحنهِ:

- ‌ المحنة في عهد المأمون: " دور نشأة الامتحان بها

- ‌ المحنة في عهد المعتصم: " دور استفحال المحنة " (2) :

- ‌ دَوْرُ النُّصْرَة:

- ‌ عفوه عمَّن آذاه إلَّا صاحب بدعة:

- ‌ المحنة في عهد الواثق: " دور استمرارها

- ‌ رفع الفتنة والمحنة في عهد المتوكل:

- ‌ المدَّعِي: أَحمد البدعة:

- ‌ المدَّعى عليه: أحمد السنة:

- ‌ الظرف العقدي لزمن الفتنة:

- ‌ محل الدعوى:

- ‌ موضوع الدعوى: " القرآن مخلوق

- ‌ مدة الدعوى:

- ‌ حجة المدعي:

- ‌ حجة المدعى عليه:

- ‌ ماذا لحق المدعى عليه من الأَذى:

- ‌ كسب الدعوى:

- ‌ شهداء الفتنة:

- ‌ الذين لاذوا بِالتَّقِيَّة:

- ‌ الثابت في المحنة:

- ‌ دور النصرة

- ‌ المحنة الثانية:

- ‌ المحنه الثالثة:

- ‌ المحنة الرابعة:

- ‌المبحث الخامس: في معرفة الخصال التي تَمَيَّز بها الإمام أَحمد

- ‌المدخل السابع: في التعريف بعلماء المذهب

- ‌الفصل الأول: في معرفة التآليف المفردة عن علماء المذهب

- ‌ تمهيد:

- ‌ النوع الأول: تسميه الكتب المفردة في ترجمة الإمام أَحمد

- ‌ النوع الثاني: كتب في تراجم تلاميذ الإمام وأَصحاب الرواية عنه:

- ‌ النوع الثالث: كتب في تراجم الأصحاب على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم:

- ‌ النوع الرابع: كتب تختص بتراجم الأصحاب حسب بلدانهم:

- ‌ النوع الخامس: كتب تختص بترجمة واحد من علماء المذهب:

- ‌ النوع السادس: التراجم الذاتية:

- ‌ النوع السابع: مؤلفات في تفضيل المذهب، والدفاع عنه وعن أَتباعه:

- ‌الفصل الثاني: في طبقات الأصحاب

- ‌ تمهيد:

- ‌الفصل الثالث: في معارف عامة عن الأصحاب

- ‌المبحث الأول: نظرة تقريبية لعدد علماء الحنابلة من طبقاتهم المطبوعة

- ‌المبحث الثاني: آفاق الحنابلة وأَوطانهم (1)

- ‌ في بغداد:

- ‌ في الشام:

- ‌ وفي مصر:

- ‌ وفي بلاد العجم:

- ‌ وفي جزيرة العرب:

- ‌المبحث الثالث: في معرفة بيوت الحنابلة

- ‌ في: بغداد

- ‌ في بغداد والشام:

- ‌ في الشام:

- ‌ في مصر:

- ‌ الحنابلة في بلاد العجم:

- ‌ في جزيرة العرب:

- ‌المبحث الرابع: التحول المذهبي

- ‌ المبحث الأول: الذين تحولوا إلى مذهب الِإمام أَحمد:

- ‌ المبحث الثاني: الذين تحولوا عن المذهب الحنبلي: منهم:

- ‌ المبحث الثالث: الذين حصل تردد في نسبتهم إلى المذهب الحنبلي:

- ‌ المبحث الرابع: الذين تحولوا من التقليد للمذهب إلى الاجتهاد:

- ‌ المبحث الخامس: من كان متمذهبًا في الفروع حنبليًا في الأصول:

- ‌ المبحث السادس: أصحاب الإمام أحمد والآخذون عنه وهم من غير أهل مذهبه:

- ‌المبحث الخامس: في مشتبه الأسماء

- ‌المبحث السادس: في الكنى والألقاب، والمبهمات

- ‌المبحث السابع: في الأوائل الحنبلية

الفصل: ‌مقدمة الطبعة الأولى

‌مقدمة الطبعة الأولى

الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةِ من الرسل بقايا من أَهل العلم؛ يَدْعُون من ضل إِلى الهدى، ويَصْبرون منهم على الأَذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بِنُوْرِ الله أَهْلَ العَمَى، فكَمْ مِنْ قَتِيْلٍ لِإبليس قَد أَحيوه، وكم من ضال تائهِ قد هَدَوْه، فما أحسن أَثرهم على الناس، وما أَقبح أَثر الناس عليهم، يَنْفُون عن كتاب الله تعالى تحريفا الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الَّذين عقدوا ألوية البدعة، وأَطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، يَقُوْلون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، وَيَتكَلَمُون بالمتشابه من الكلام، ويَخْدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين (1) .

(1) هذه الخطبة اقتباس من الخطبة التي افتتح بها الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - كتابه: " الرد على الزنادقة والجهمية " وقد طبعَ مرارا وانظرها في: إعلام الموقعين ": (1/ 9) ، و " اجتماع الجيوش الإسلامية ": (ص81) ، و " الصواعق المرسلة ": (1/ 107- 108) ، وكتاب الفوائد ": (ص 105)، و " جلاء الأفهام ":(ص 249) . و " طريق الهجرتين ": (ص. 62) وفيها ذكر أن ابن وضاح في كتابه " البدع والنهي عنها " أسندها بنحوه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وهي في كتاب ابن وضّاح برقم/ 3 ص/ 32.

ص: 5

وأَشهد أَن لا إِله إِلَاّ الله وحده لا شريك له في ربوبيَّته، ولا في ألوهيته، ولا في أَسمائه وصفاته، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وعلمه بكلِّ شيء محيط. وأَشهد أَنَّ محمدًا عبده ورسوله المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله، وملائكته، وأَنبياؤه، ورسُلُه، والصَّالحون من عباده عليه، وعلى آله، وعلى أَصحابه، وعلى التَّابعين لهم بإحسان إِلى يوم الدِّين وسلَّم تسليما كثيرا

- أَما بعد: فإِنَ التأسي (1) ، والمُتَابَعَةَ، والاقْتِدَاءَ، بِصَاحِبِ هَذه الشَريْعَةِ الإسلامية المُبَارَكَةِ الغَرَّاء، خَاتَمِ الأَنبياء والمرسلين، وسَيِّد وَلَدِ آدم أجمعين، نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: هو رَأْسُ مَالِ المسلم، اعتقادا، وقولاً، وعملاً، في مَدَارِجِ الشرع المُطَهَّر، الكَامِنِ في الوحيين الشريفين.

- وهذا- وايم الله- عنوان محبة العبد لربه، كما قال- سبحانه -:" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "[آل عمران/31]

- ولُبَابُهُ عِبَادَةُ اللهِ وتوحيده - سبحانه - وهو المقصود من خلق الله للثقلين، كما قال - تعالى -:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ "[الذاريات/ 56]

- وهذا مدار دعوة كل نبي ورسول، كما ذكر الله في القرآن عن دعوة: هود، وصالح، وشعيب:" يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ "[الأعراف/ 65، 73، 85]

(1) انظر عن: التأسي، والمتابعة:" شرح الكوكب المنير " 2/ 196، و " المسودة " ص/ 186.

ص: 6

وقال سبحانه- عن دعوة جميعهم: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ "[النحل/ 36]

- وهذا مقتضى الشهادتين في الإسلام: أَن لا يعبد إِلَاّ الله، وأَن لا يُعبد الله إلَاّ بما شرع.

وعلى هذا تدور رَحَى التشريع، ولهذا صارت سورة الفاتحة جامعة لمعاني القرآن الكريم. ثم هذه في آية واحدة منها:" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".

- وهذا مقتضى أَول أَمر في كتابا الله في أَوائل سورة البقرة: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "[البقرة/ 21]

وفي هذه الآية والآيتين بعدها مضمون الشهادتين.

- وهذا مقتضى ما أَمر الله به، وقضى وأَوجب، وأَلزم وحكم وهو خير الحاكمين، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. قال - تعالى -:" مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "[يوسف/40]

وقال- سبحانه-: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ

ص: 7

إِحْسَانًا " [الإسراء/23]

- وهذا الأَمر العظيم، هو فاتحة كتاب الله، وخاتمته، لِإشعار المسلمين، بأَن ما بين الدفتين من آيات القرآن وسُوره، هو لتحقيق عبودية العبد لربه، وتوحيده له، ذلك أَن الله- سبحانه- افتتح كتابه بتوحيده في ألوهيته، وربوبيته، في قوله -تعالى-:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وبتوحيده- تعالى- في أَسمائه وصفاته في قوله- عَز َشأنه-: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وختم كتابه بذلك في " سورة الناس ": قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (*) مَلِكِ النَّاسِ (*) إِلَهِ النَّاسِ) . ومعلوم أن توحيد الله في أَسمائه، وصفاته في هذه السورة على طريق التضمن والالتزام في نوعي التوحيد المذكورين نصًّا.

وهذا الاتباع والتأسي للشرع المطهر في أَبواب الدين كافة هو الطريق الموصل للعبد إِلى رضوان الله، ونعيم جنته.

قال الله- تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء/19] .

وَمَنْ تتبَع أَسْرَارَ التنزيل، وجَدَ فِيْهِ مِنْ تعظيم أَمر هذا الدِّين عجبا.

فمن تعظيم الله لدينه أَن من أَخلَّ بتوحيده - سبحانه - مشركا معه غيره، فإِن الله لا يغفر له شركه، قال- تعالى-:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا "[النساء/ 48]

ص: 8

وقال- سبحانه- على لسان عيسى بن مريم- عليه السلام: " إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ "[المائدة/ من الآية 72] .

- ومن تعظيمه- سبحانه- لِشَرِيْعَتِهِ: أَنَّ من خَرَجَ على نِظَامِها الفطري الصافي من الدَّخل، ولم يُحَكِّمْها، فَقَدْ حَكَمَ الله عليه، بأَنه: كافر ظالم. فاسق. في ثلاث آيات من: [سورة المائدة/ 44، 45،47]

وانظر إِلى هذه الآيات من سورة محمد، كأَنما أنزلت الساعة - والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- قال الله- تعالى-:

" إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (*) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ "[الآيات: 25، 26، 27، 28] .

فليحذر المسلم من: " سنطيعكم في بعض الأمر ".

وليلتفت المسلم إِلى هذا العقاب الكبير ((إحباط الأَعمال)) لمن اتبع ما يُسْخِطُ الله، مثل: طاعة الكافرين، في تحكيم القوانين الوضعية، فإِنه محبط للأَعمال!

إلى غير ذلك من: نواقض الإسلام، ونواقض الإيمان، وكل هذا من تعظيم هذا الدِّين، وتعظيم شعائره، ورعاية حرمته، وحفظه من العاديات عليه. ونحن نشهد بالله، وكل مسلم يشهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بَلغَ هذا

ص: 9

الأمر، حق البلاغ، في القرآن العظيم، والسُنَّةِ المشرفة، والسُنَّة قطرة من بحر القرآن الزاخر كما في قوله- تعالى-:" وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ "[من الآية/7 من سورة الحشر] .

فدليل التأسي، والمتابعة، والاقتداء، بلغنا كاملا غير منقوص، وافيا غير مبخوس، على لسان المُبَلِّغ به لأمته صلى الله عليه وسلم

قال الله - تعالى -: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "[المائدة/ من الآية 3]

وبوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى " تاريخ التشريع الِإسلامي ".

حاوياً: أَحكام الاعتقاد والفضائل والآداب، والأَحكام الفروعية، تفصيلاً أو تأصيلاً ببيان الأصول والقواعد العامة، التي تتناول مالا يتناهى من واقعات الأَحكام الفروعية، مهما تباعدت الأَوطان، واختلفت الأَزمان، والأَجيال وهذا ينسجم تماما مع عموم الرسالة، كما قال الله- سبحانه-:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "[سبأ/28]

وفي ظل هذه: " الأصول العامة " دخلَ: دور (1) " تاريخ الفقه

(1) إطلاق الدور هنا استعمال عربي فصيح، لأنه بمعنى الحقبة الزمنية، وهذا واضح في تصاريف هذه المادة:" دَوَرَ " من كتب اللغة، إلا أن بعض المعاصرين يرى استعمال كلمة:" الطور "، ابتعاداَ عن الاشتراك اللفظي لكلمة:" الدور " لدى المناطقة، إذ الدور في اصطلاحهم:" هو توقف كل من الشيئين على الآخر " وهذا ممتنع لأنه يؤدي إلى تقدم الشيء على نفسه.

وغير خافي أن المشترك اللفظي من محاسن لغة العرب، فلا ضير إذا في استعمال كلمة:" الدور " هنا، ما دام إطلاقها يصح لغة. والله أعلم.

ص: 10

الِإسلامي " على يد علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لدن الصحابة- رضي الله عنهم مروراً بالتابعين لهم، فَمَنْ بَعْدَهُم إِلى الآخر بما أمرت به هذه الشريعة من واجب " التحمل " و " البلاغ "، على علماء هذه الأُمة المرحومة، وفيما منحته لهم من " فقه الاستدلال وحق الاستنباط ". من هُنا بقي المجال لعلماء أُمته صلى الله عليه وسلم في وظائفهم العلمية، الثلاث: التحمل. والتبليغ. والاستنباط.

قال الله- تعالى-: " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ "[التوبة/ 122]

وفي " الفقيه والمتفقه " للخطيب: (2/ 44- 46) : و " الطَّبقات " لابن أبي يعلى: عن الإمام أَحمد بن محمد بن حنبل ت سنة (241 هـ) - رحمه الله تعالى- أَنه قال: " أصول الِإيمان ثلاثة: دَال، وَدلِيْل، ومستدل.

الدَّالُّ هو الله. والدليل: القرآن. والمبلِّغ: رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمستدلون: هم العلماء فمن طعن على الله وعلى كتابه وعلى رسوله فقد كفر".

أَمام هذه المنحة الشرعية للعلماء وهي: " مرتبة الاستدلال وحق الاستنباط " لقاء واقعات الناس، ونوازلهم، يبذل الفقيه الوسع لاستخراج الأحكام العملية الاجتهادية من أَدلتها التفصيلية.

وهذه المنحة مستمرة باقية لعلماء الأمة، فلا تلتفت إِلى دعوى سَدّ باب الاجتهاد ووجوب التقليد، كما قاله- أول من قاله-: ابن الصلاح الشافعي، المتوفى سنة (643 هـ) - رحمه الله تعالى- ولا تلتفت إلى ما صنفه اللَّقاني، المتوفى سنة (1041 هـ) - رحمه الله تعالى- من إدخال

ص: 11

وجوب التقليد في قضايا الاعتقاد، بقوله نظماً:

فواجب تقليد حَبْر منهم

كذا حكى القوم بلفظ يُفهم

ورحم الله الشوكاني، المتوفى سنة (1250 هـ (1)) ، إِذ قال في رَدِّه دَعْوى سَد بَابِ الاجتهاد، ووجوب التقليد، إِنَّها:" رفع للشريعة بأَسرها ونسخ لها ".

إِنَّهُ بهذه المنحة - السلطة الفقهية - اجتهد، أوْلاءِ الهُدَاة المصلحون، أولو البصائر، في الاعتناء بالفقه في دين الله، والتمكن من إِتقان الاستنباط، وَرَصْد النوازل، والواقعات، وعرضها على الدليل، وساروا في ذلك سَيْراً حثيثاَ، واسْتَمَرَّ بهم دُوْلَابُ الحَيَاة إِلى الإمام قُدُماَ، في الاستدلال، والاستنباط، والتعليل، والتدليل، وإِرجاع الأَقاويل إِلى القسطاس المستقيم، والِإذعان للدليل، فكانوا في دَأَبِهِم كما قيل.

" سير السَوَاني سفر لا ينقطع "

فحازوا على إِرث عظيم، كُلٌّ حَسْبَ القَرَائح والفُهوم، ومَاَ أؤتي من عبقرية، ونبوغ في العلم، والفقه، ونبوغٍ في صناعة التأليف:

(1) شَرَفٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدتهم في التاريخ عن مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة- حرسها الله تعالى- إلى المدينة- حرسها الله تعالى- ولهذه الوحْدَة التاريخية فإن العلماء المتقدمين لم يكونوا يضعون حرف: " هـ " بعد التاريخ، رمزا للتاريخ الهجري؛ لوحدة التاريخ لديهم، وعلمهم به، ولأنه ليس قسيماَ لغيره كالتاريخ الميلادي، وكان في آخر من قفَى عمل المسلمين بعدم وضع الرمز " هـ " وعدم مقابلته بالتاريخ الميلادي هو الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله تعالى- ولهذا لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما وضعت هذا الرمز، لأنه ليس لدينا- معشر المسلمين- تاريخ سواه.

ص: 12

فِتْيَةٌ لَمْ تَلِدْ سِوَاها المَعَالِي

والمعالي قليلة الأَوْلَاد

وخَلفوا - أحسن الله إِليهم - هذه الثروة العظيمة: ألوف المؤلفات، فيها آلاف مؤلفة مِن المسائل، والنوازل، والأقضيات، في أصول الشريعة، وأَحكامها الفقهية الاجتهادية، العائدة إِلى حفظ الدِّين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، حتى إِن الناظر في مآثرهم، وسِيَرِهم، وآثارهم؛ ليعجب مما آتاهم الله، من علم، وعمل، وبصيرة، وفَهْم، بما يَقْطع معه بعدم وجود نظير لهم على مَسْرح العَالَم؛ ولذا طار لهم دَوِيٌّ في أَكناف البسيطة، وَعَكَفَ الهُداة على دراسة شخصياتهم وفقههم، وحسن أَثرهم على الناس، وكانوا شرفا لأَمة محمد صلى الله عليه وسلم تباهي بهم الأمم. وكانت هذه المنحة الإسلامية لهم، من أَسباب سعة هذا الدِّين، وانتشاره، وقبوله، واستقباله ما يرد عليه من قضايا، ومستجدات.

وما أَجْمَلَ ما قاله ابن قتيبة، المتوفى سنة (276 هـ) - رحمه الله تعالى - في وصف حالة صدر هذه الأمة، وسلفها، في طلب العلم، إِذ قال (1) :" كان طالب العلم فيما مضى، يَسمع لِيعلم، ويَعلم لِيعمل، ويَتفقه في دين الله لينتفع وينفع وقد صار الآن: يَسمع ليجمع، ويجمع؛ لِيُذكر، ويحفظ؛ لِيغلِب ويفخر " انتهى

وكان من هؤلاء الأئمة الهُداة، والأثبات الثقات، الذين تبوَّؤا مكان

(1) اختلاف اللفظ ص 18

ص: 13

الصَّدارة، والإمامة في الأُمة، وَتَطَوَّرَتْ مَرَاحِلُ الفقه عَلَى يَدَيْه، بالابتكار والافْتراع: شيخ الِإسلام والمسلمين- في زمانه- أَبو عبد الله أَحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي المولود في 20/3/164، والمتوفى بها ضحوة: 12/ 3/ 241 هـ.- رحمه الله تعالى-؛ إِذْ صَرَفَ وَجْهَ عِنَايَتهِ إِلَى فِقْهِ الدَّليل، وقَفْوِ السُّنن، واتِّباع الأَثر فاستحق هذا الإمام الحُجَّة، أن يُسَمَّى:" إِمام أَهل السنة "؛ وَلذَا سمى الأثرم كتابه في فقه أحمد: " السُّنن "، ورُزق تلامذة يَحْتَذُوْنَ حَذْوَه، وَيقْتَفُوْنَ قَفْوه، فَدَوَّنوا فقهه، وأَسندوه، وتناقلوه، ونشروه، حتى تم تكَوَّن فقهه في خاتمة الفقهاء الأَربعة المشهورين، عَلَى مَشَارِفِ القرن الرابع الهجري، وصار من أَتباعه: فقهاء مبرزون، وقضاة، ومُفْتون، ومن تلاميذ مدرسته: فقهاء محققون على طريقته، ومؤلفون في فقهه ومذهبه، فاشتغلوا في إِرجاع فروعه إِلى أصولها، وفَسْر مصطلحاته، وتهذيبها، ومَدُّوا فقهه بالتخريج عليه، والتنقيب عن مفهومه، ولازمه، والقياس عليه، وما يتبع ذلك من التخاريج، والنقل والتخريج، والوجه، والاحتمال، والتوجيه.

وقد بلغ المُتَرْجَمُ لَهُم منهم نحو أربعة آلاف عالم موزعين على الأَمصار في قاعدته الأولى: " بغداد " ثم في قاعدته الثانية: " الشام " ثم في مصر وما وراء النهر ثم في قاعدته الثالثة: " جزيرة العرب "، وغيرها من الممالك الإسلامية.

وبلغت آثار نحو خمسمائة عالم منهم في: الفقه، وأصوله، وقواعدهما، وضوابطهما، نحو أربعمائة وألف " 1400 " كتاب، بدءاً مِنْ

ص: 14

كُتُبِ الإمام، ثم كُتُب مسائل تلامذته في الرواية عنه، ثم الكتب الجامعة لها، والتي قُدّرَت مسائلها بنحو ستين أَلف مسألة، ومن اشتغال الأَصحاب عليها في متن مختصر، فمتوسط، فمطولٍ، وما يلحق ذلك، من شروح، وحواشٍ، وتفسيرِ غريب، وتخريج أَحاديث، وما يداخل ذلك من تخريجات للأَصحاب في الفرعيات، وفق ضوابط التخريج الفقهي المذهبي.

وقد حصل في طائفة منها: اختلاف في الروايات عن الإمام، واختلاف عن الأَصحاب في التخريجات.

فكانت الحال في هذا المذهب، كالشأن في أي مذهب: من وجود روايتين، أَو قولين، فأَكثر، لِإمام واحد في مسألة واحدة، لكن في وقتين مختلفين أَو أَوقات. وهذا لا إنكار فيه، ولا اعتراض عليه، أَما في وقت واحد فلا يَقَع.

ففي المذهب الحنفي، قال أَبو يوسف، المتوفى سنة (182 هـ) - رحمه الله تعالى- (1) :" ما قلت قولاً خالفت فيه أَبا حنيفة، إلا وهو قول قد قاله أَبو حنيفة، ثم رغب عنه "

وَتعدد الأَقوال والآراء في: " المذهب الحنفي " طبيعة له، يقتضيها الجُنوح إلى الرأي وعن الاختلاف في المذهب المالكي، حَكَى البقاعي، عن شرف الدين يحيى الكندي، أنه سُئِلَ: مَا لمَذهبكم كثير الخلاف؟ قال: " لِكَثْرة

(1) رد المحتار 1/ 67. المذهب عند الحنفية: ص/10

ص: 15

نُظَّاره في زمن إِمامه " (1) .

ولا عجب فقد نُقِلَ عن الإمام مالك- رحمه الله تعالى- إِلى العراق نحو سبعين أَلف مسألة فاختلف الناس في مذهبه لاختلاف نشرها في الآفاق (2) . وعن الاختلاف في المذهب الشافعي، فمعلوم ما للِإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - من القول القديم، ثم القول الجديد، بعد نزوحه إِلى مصر، وقد أَلَّف محمد بن إبراهيم المناوي الشافعي ت سنة (746 هـ) - رحمه الله تعالى- كتابه في ذلك:" فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد ".

وأَشار النووي، المتوفى سنة (676 هـ) - رحمه الله تعالى- في مقدمة:" المجموع: 1/ 4- 5 " إلى ما في كتب المذهب الشافعي من الاختلاف الشديد بين الأَصحاب، وطريق تَعيِينِ المذهب.

فهذه الثروة الفقهية المباركة تكونت من " فروع اجتهادية " على رواية واحدة عن الفقيه الواحد، أَو فيها اختلاف في المذهب على روايتين فأكثر أَو مخالفة التلاميذ لشيخهم، والأَصحاب لإمام المذهب.

أَو خلاف عالٍ مع الأَئمة المجتهدين أَو بعضهم.

أَو فرع اجتهادي مخرج من أَصحاب ذلك الإمام على أصول مذهبه، وقواعده، اتفاقا بين الأَصحاب، أَو اختلافاً في التخريج وكل هذه الأنماط مشمولة باسم: " الاختلاف الفقهي بمعناه العام

(1) نيل الابتهاج: ص/ 358. نظم العقبات: ص/ 177 الاختلاف الفقهي: ص/ 6-7

(2)

المعيار 1/ 211. الاختلاف الفقهي: ص/ 6-7

ص: 16

أمام هذه الثروة الفقهية، حصلت حركة تدوينية، قام بها عدد من الأَصحاب - كالشأن في أتباع كل مذهب متبوع - بعمل مداخل فقهية لكل مذهب، تَضْبِطُهُ أصلاً، وفرعاً، وَتَرْسمُ طريقهُ، روايةً وتخريجاً، وتُعرِّف بكتبه، ومراتبها، وعلمائه، ومراتبهم، وطبقاتهم فيه، اجتهادا، وتقليداً

إلى آخر ما هنالك من معارف، ومعالم، تَعْنِي المتفقه، وَتَرْسِمُ طريقه فيه؛ حتى يعرف المذهب المعتمد على التحقيق، ومسالك الترجيح فيه، وتخطو به خطوات سريعة إلى الدُّربة على التفقّه في السنة والتنزيل، والنقلة إلى فقه الدَّليل. ويكون في مأمن من الاخْتلال والغلط، وجُنوح الفكر واضطراب الفكر وموقف الحائر العاثر المجازف بِالْعَزْو وحكاية المذاهب.

فلا يقول قَائِلٌ هذا المذهب، وعليه الأَصحاب، أَو هذا الراجح فيه رواية، أَو تخريجاً، إلا عن علم وبصيرة، وإدارة لفروعه على أصوله، وأَحكامه على محكماته، قد قَبَضَ على زِمَامِ الأصول، واستعد للجلوس على مِنَصَّة التَّقرِيرِ للفروع.

وكان أَول من عرفته أَفرد كتاباً في تفسير مصطلحات الإمام أَحمد في أَجوبته، هو شيخ المذهب في زمانه، ومحققه، وخاتمة طبقته الأولى (طبقه المتقدمين) الحسن بن حامد ت سنة (403 هـ) - رحمه الله تعالى- في كتابه الفَذِّ:" تهذيب الأَجوبة " وعندي أنه يُشبِهُ إلى حد بَعيْدِ كتاب: " الرسالة " للإمام الشافعي المطلبي- رحمه الله تعالى- في التأصيل، والتقعيد، وحُلو العبارة، ودقة الإشارة وتحليلاته اللغوية، فلله

ص: 17

دَرُّه ما أبهى دُرَره، ثم قَفَاه الناس بعد ذلك، فَمَنْ بَعْدَهُ عيال عليه، إلى الآخر، وكان من آخر من كتب في أبواب التعريف بهذا المذهب: العلَاّمة عبد القادر ابن بدران الدومي، ثم الدمشقي ت سنة (1346 هـ) في كتابه:" المدخل إلى مذهب الإمام أَحمد بن حنبل "

ومن هذين الكتابين، وما بينهما من كتب الفقهاء والأصوليين، وأَبحاث، في كتب التراجم، والطِّباق، ومُقَدِّمَاتِ، وخَوَاتِيْمِ الكتب الفقهية، وما يجري في مباحث الاجتهاد والتقليد من الكتب الأصولية، وغير ذلك، تكون منها رصيد كبير، وتأسيس متين لِمَن أراد أَن يجمع بين فوائِتِها، وَيَضُمَّ إِليها مَا فَاتَها، مثل:

- التتبع والاستقراء لكتب المذهب في الفقه، وعلومه، من لدن الإمام أحمد إلى الآخر وتشخيص المعلومات البيانية عنها

- وعمل دراسة لعلماء المذهب، حسب أَوطانهم، وأَزمانهم، وبيوتاتهم، وطبقاتهم في الاجتهاد والتقليد.

- وإعجام مصطلحات المذهب من أَلفاظ الإمام، أَو الأَصحاب في نقل المذهب، أَو نقل بعضهم عن بعض، وكشف معانيها، وفَسْر المراد منها اتفاقا، أَو اختلافا.

- ورسم الطريق الآمن إلى الطرق التي يُعرف بها المذهب رواية، أَو تخريجاً، ومسالك الترجيح فيه.

إلى آخر ما هنالك من معارف، تشتد حاجة الفقيه إليها.

- إلى غير ذلك من دقائق التعريف بالمذهب، مما بقي عَانِساً في

ص: 18

تفاريق الكتب، فهي بحاجة إلى من يأخذ بيدها وَيَمْسَحُ عن مُحَيَّا وَجْهِها مَا عَلِقَ بِها من جَرَّاء هَجْرِها، ويَضُمُّ هذه المعارف المذهبية، والمداخل التأصيلية، إلى ما مضى، ويجعلها منتظمة في سلك واحد، مجموعة بين دَفَّتَيْن، مُرَتَّبَةً بين لَوْحَتَيْن.

من هذه التصورات، حصلت عندي رغبة ملحة، لم أَستطع الهروب من أَقْطَارِها، ولا النفوذ من سُلْطَانِها، فانتدبت لها نفسي، مع قصوري وعجزي، وقلت كما قال شيخ المعرة:

" وَيَا نَفْسُ جِدِّي إِنَّ دَهْرَكِ هَازِلُ "

حتى لا يظل هذا الجانب مهملَا غير مطروق بِكُلِّيَّتهِ، ومبعثرًا غير مرتب ولا منظوم في قضاياه، ومسائله، فَربطت الجوَاد خَلْفَ المَرْكَبِ، وَلسَانُ حَالِيْ يَقُوْلُ لِطَالبِيْ فِقْه هذا المذهب:" امكثوا إِنِّي آنست ناراً " فَطَفِقْتُ أقْتَبِسُ منها كُلَّ طَرِيْفٍ وتَالِد، وأَستَدِرُّ لهذا المشروع الخيري الفوائد، مِن بُطُونِ الأَسفار للحاضر والعابر، مقيداً ما سقطت عليه من الشوارد، في مَطَاوِي المطالعة، ورحلة النظر (1) إلى كُلِّ طَرِيْفَة وتَالِدَة، فَظفَرْتُ- ولله الحمد- بفوائد علمية، نَادِرَة، مُسْتَجَادة، لا يستهان بأَمثالها، واستنباطات مؤيدة بأَدلتها، ومُطَايَبَات شَتَّى تَسِيْرُ على منوالها، وَكُلُّ نَفْسٍ تُجْزى بِأَعمالها.

(1) قال الكرماني- رحمه الله تعالى-: " النظر إذا استعمل بفي فهو بمعنى التفكر وباللام بمعنى الرأفة، وبإلى بمعنى الرؤية، وبدون الصلة بمعنى الانتظار نحو " انظرونا نقتبس من نوركم " انتهى من: " شرح الأذكار " لابن علان: (6/ 65)

ص: 19

حينئذ أخذت في جمعها، وتنقيحها، وتحريرها، وترتيبها، وعزوها، وتوثيقها، مَعَ مَا ألممت به من جَوَانِبَ أخْرَى بطريق النظر فيها، واستجلاء حقائقها حتى جمعت لها هذا الكتاب المستطاب:" المدخل المفصل إلى فقه (1) الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب (2) "

وعقدت مُحَصَّلَه في مَدَاخِلَ ثمانية هي:

المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب

المدخل الثاني " معارف عامة عن المذهب الحنبلي.

المدخل الثالث: التعريف بأصول المذهب.

المدخل الرابع: التعريف بمصطلحات المذهب

المدخل الخامس: التعريف بطرق كيفية معرفة المذهب، ومسالك الترجيح فيه

المدخل السادس: التعريف بالإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -.

المدخل السابع: التعريف بعلماء المذهب.

المدخل الثامن: التعريف بكتب المذهب

(1)" فقه الإمام ": هو المذهب حقيقة، لكن لم أعَبِّر بلفظ:" المذهب " توَقِّيا مما حَف بالتمذهب من العصبية، وإنما التعصب للدليل

(2)

" تخريج الأصحاب على فقه الإمام ": هو " المذهب اصطلاحا "، والتخريج في كل مذهب يكون على فقه الإمام، ويكون على غيره، ومعلوم أن المخرج على غير فقه الإمام لا يكون مذهبًا له اصطلاحياً فضلا عن: المذهب حقيقة، لهذا قلت:" وتخريجات الأصحاب " ولم أقل: " وتخريجات الأصحاب عليه " فليتنبه

ص: 20

وفي هذا العمل المبارك- إن شاء الله تعالى-: فوائد، منها:

1-

مَعْرِفَةُ مَحَاوِرِ المذهب في أصوله، وجذوره، ومصطلحاته في صعيد واحد.

2-

الوقوف على الطرق التي يُعرف بها المذهب المنصوص عن الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى-.

3-

الوقوف على معرفة الطرق التي يصل بها المتفقه إلى التخريج في المذهب، وفق أصول التخريج وضوابطه.

4-

مسالك الترجيح عند اختلاف الأَنظار فيه.

5-

دلالة الحائر على كتب المذهب حسب تسلسلها الزمني وتقويمها ببيان المعتمد من المنتقد

6-

العمل على إِزالة ما اكتنف هذه المضامين من الغموض، وغشيها من خفاء الرؤية، مما له تأثير عَلَى سَدَادِ النتيجة، وسلامة الموقف من القضايا الفقهية

7-

الوصول إلى تنقية المذهب من الروايات الغريبة، والتخاريج الضعيفة، التي يقع فيها من لا أُنسَ له بالمذهب، أَو يُمسك بها المستضعفون بأَيديهم؛ لينفذوا إلى تسليك المناهي في: سِلْك الِإباحة المطلقة، تحت سلطان التخريج المذهبي، وفي حقيقتها خُرُوْجٌ على المذهب، ومُنَابَذَة للدليل وكانوا في شهوتهم لِضَعِيْفِ الرأي، وشَاذِّه، كما قيل:

ص: 21

وكل المطايا قد ركبنا فَلَمْ نجد

أَلَذَّ وأَشْهَى مِن رُكُوْب الأَرانب

والولوج في هذه: مَعَرَّة لا يغسلها الماء، ولو عُفِّرت السابعة بِالتُّرَاب. وهذه - وايم اللهّ - من تناقص العلم وظواهر رفعه وفشو الجهل وتَرَدِّي الهمم، وفَسَاد الذِّمم، وكم يتوارى خلفها من ويلات تؤذِنُ بالاختلال، والاضطراب.

واتل- رحمك الله تعالى- آية الأَعراف هذه: " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ "[الأعراف: 169]

واستمسك بالعمل بالآية بعدها: " وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ "[الأعراف: 170]

والمسلم راع على جوارحه (1) ، وقواه، وحَوَاسه، فِعْلاً، ونطقاً، واعتقاداً فليتقِّ الله، وليقم بمسؤليته عليها، وفق شرع الله المطهر.

8-

إِنَّا ونحن في عصر اشتبكت فيه الحضارات، وتلاحمت وتعددت فيه المهارات: الطبية، والاقتصادية، وغيرها، وتباينت، قَدْ جَرَّتْ معها: قضايا، ومُسْتَجَدَّات، ونوازل، وواقعات، تَنتظِرُ مِنَ الفقيه أَن يقتبس حكماً موافقاً لها من أحكام التكليف. وكثير منها أعيا الفقهاء، وأتعب

(1) انظر فتح الباري: 13/113

ص: 22

العلماء؛ لهذا كان لابد من الِإسهام في ترقية المدرسة الفقهية، وبعث نشاط المتفقهين، والعمل على بذل الأَسباب لفتح ما انغلق أَمامهم من فقه أسلافهم ليعرفوه وردا وإصدارا واستنباطاً واستدلالا والتوقي من الفُهوم المغلوطة، والبُعْد عن الأَسباب الموصلة إِليه؛ حتى يكون هذا:" المدخل " عَوْنَاً لهم على مهمتهم، في مواجهة قضاياهم الفقهية المعاصرة.

وأخيرا، فَلَا أَدَّعِي أَنًّني أَخذتُ بمجامِع هذه المَداخِل، ولا بلغت بها حدًّا أَقصى، يُخْتَمُ به التأليف في هذا الباب، لا وَأَلْفُ لا ولكن بَذلْت من الجهد ما وسعني، وقد بلغ مني الجَهد؛ حتى لقيت عَرَقَ القِرْبَةِ، والجَهْدَ الجاهد.

وأَدعُ الناظر فيه، لتناجيه مَدَاخِلُ هذا الكتاب، وفُصوله، وأَبحاثه؛ رجاء دعوة صالحة إِن وَجَدَ مَا يُفِيْده، وتقييد ما يلاحظه، وإضافة فائته. آملاً المعاملة بعين الِإنصاف، لا بعين الرضا، أَو السُّخط والاعتساف.

قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أَبي طالب، المتوفى سنة (129 هـ) - رحمه الله تعالى-:

وَعَيْنُ الرِّضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَة

كَمَا أَنًّ عَيْنَ السُّخْطِ تبدِي المَسَاوِيَا

والله من وراء كل عبد وقصده، وما توفيقي إِلَاّ بالله عليه توكلت، وإِليه أنيب.

المؤلف

بكر بن عبد الله أبو زيد

في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 23

مداخل الكتاب

المدخل الأَول: معارف عامة عن التمذهب

المدخل الثاني: معارف عامة عن المذهب الحنبلي

المدخل الثالث: التعريف بأصول المذهب

المدخل الرابع: التعريف بمصطلحات المذهب.

المدخل الخامس: التعريف بطرق كيفية معرفة المذهب، ومسالك الترجيح فيه.

المدخل السادس: التعريف بالِإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -

المدخل السابع: التعريف بعلماء المذهب.

المدخل الثامن: التعريف بكتب المذهب.

ص: 25

المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب

أَبحاث هذا المدخل، صالحة لدراسة كل مذهب فقهي، وإِنَّما تُفرغ المعلومات المناسبة لكل مذهب، في بعض جوانب مباحثه.

ص: 27