المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كائنة الحنابلة مع الطبري: - المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب - جـ ١

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب

- ‌المبحث الأَول: التعريف بلفظ: " المذهب

- ‌1- ماهية " المذهب " وحقيقته لغة

- ‌2- حقيقته العرفية:

- ‌3- ماهية " المذهب " وحقيقته اصطلاحًا

- ‌المبحث الثاني: التعريف بلفظ: " الفقه

- ‌1- ماهية: " الفقه " لغة

- ‌2- ماهية: " الفقه " شرعاً:

- ‌3- الفقه الأكبر

- ‌4- لقب: " القُرَّاء

- ‌5- ماهية: " الفقه " اصطلاحًا:

- ‌المبحث الثالث: أنواع الفقه المدوَّن في كل مذهب

- ‌النوع الأَول: أَحكام التوحيد

- ‌النوع الثالث: أَحكام فقهية اجتهادية

- ‌المبحث الرابع: تاريخ التمذهب، والحث على فقه الدليل

- ‌المبحث الخامس: الاجتهاد في الفقه الإسلامي وأثره في الثروة الفقهية في كل مذهب

- ‌1- من له حق الاجتهاد:

- ‌2- مجالاته:

- ‌3- أَسبابه:

- ‌4- أنواعه:

- ‌5- حُكْمُه:

- ‌6- حِكْمَته:

- ‌المبحث السادس: في شروط نقل المذهب، والتوقِّي من الغلط فيه وأسباب الغلط

- ‌ الأَمر الأول: شروط نقل المذهب

- ‌ الأَمر الثاني: في التوقي من الغلط في نقل المذهب وأسباب الغلط:

- ‌المدخل الثاني: في معارف عامة عن المذهب الحنبلي

- ‌الدور الأول: دور نشأته في حياة الإمام أَحمد

- ‌الدور الثاني: دور النقل والنمو:

- ‌الدور الثالث: دور تحرير المذهب وتنقيحه:

- ‌الدور الرابع: دور الاستقرار:

- ‌الدور الخامس: دور إِحياء التراث

- ‌المبحث الثاني: في مزايا الفقه الحنبلي

- ‌ فقه الدليل

- ‌ كثرة المسائل العلمية والعملية

- ‌ البعد عن الفقه التقديري في المذهب:

- ‌ البعد عن الِإغراق في الرأي:

- ‌ التيسير في الأحكام من العبادات والمعاملات والشروط والنكاح وغيرها:

- ‌المبحث الثالث: في معرفة ما كتب عن التعريف بالمذهب

- ‌ فائدة:

- ‌المذهب الحنفي:

- ‌المذهب المالكي:

- ‌المذهب الشافعي:

- ‌المدخل الثالث: في أصول المذهب

- ‌فصل:الأَصل الثالث من أصوله:

- ‌فصل:الأَصل الرابع: الأَخذ بالمرسَلِ والحديثِ الضعيف

- ‌المدخل الرابع: في معرفة مصطلحات المذهب وتفسيرها

- ‌ تمهيد:

- ‌الفصل الأول: في ألفاظ الإمام أحمد في أجوبته ومراتبها الحكمية

- ‌الفصل الثاني: في مصطلحات الأصحاب العامة

- ‌ القسم الأول

- ‌ القسم الثاني:

- ‌ القسم الثالث:

- ‌ القسم الرابع:

- ‌ القسم الخامس:

- ‌الفصل الثالث: في مصطلحات الأصحاب في نقل بعضهم عن بعض

- ‌المدخل الخامس: في التعريف بطرق معرفة المذهب ومسالك الترجيح فيه

- ‌التمهيد الأول: في ماهية المذهب

- ‌التمهيد الثاني: عناية الأصحاب في بيان هذه الطرق

- ‌التمهيد الثالث: مراتب الناس فيها

- ‌الفصل الأول: في طرق معرفة المذهب

- ‌الطريق الأول: القول:

- ‌أَولَا: أقسام أقواله من جهة القبول أو الرد:

- ‌ القسم الأول:

- ‌ القسم الثاني

- ‌ القسم الثالث:

- ‌ القسم الرابع:

- ‌ القسم الخامس:

- ‌ ثانياً: أَقسام أقواله من جهة إِفادتها مرتبة الحكم التكليفي في منطوقها:

- ‌ القسم الأول:

- ‌ القسم الثاني:

- ‌ القسم الثالث:

- ‌ القسم الرابع:

- ‌ الطريق الثالث: السكوت:

- ‌ الطريق الرابع: التوقف

- ‌ القسم الاول:

- ‌ القسم الثاني:

- ‌الفصل الثاني: في طرق معرفة المذهب، اصطلاحًا من تصرفات الأصحاب في التخريج على المذهب ولازمه

- ‌الطريق الأول

- ‌ الطريق الثاني:

- ‌ الطريق الثالث:

- ‌الفصل الثالث: في مسالك الترجيح عند الاختلاف في المذهب

- ‌المبحث الأول: أنواع الاختلاف في المذهب

- ‌المبحث الثاني: مسالك الترجيح عند الاختلاف

- ‌المبحث الثالث: المرجحات (1)

- ‌المبحث الرابع: من له حق الترجيح في المذهب

- ‌المبحث الخامس: اصطلاح الأصحاب في حكاية الخلاف

- ‌المدخل السادس: في التعريف بالإمام أحمد

- ‌المبحث الأول: عيون المعارف في ترجمته

- ‌نَسَبُهُ:

- ‌منازل بني شيبان في الإسلام:

- ‌تاريخ ولادته ووفاته:

- ‌ابن حنبل:

- ‌ كنيته

- ‌ آل الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى

- ‌ صفته:

- ‌ فراسة العلماء عنه في صغره:

- ‌ أَحمد في صِغَرِهِ يرفض أَن يكون وَشَّاء:

- ‌ تواضعه (2) :

- ‌ إِجابته الدعوة:

- ‌ تعبده وزهده غير المتكلف:

- ‌ حبه للوحدة:

- ‌ بعده عن الشهرة:

- ‌ إِجلال علماء زمانه له وهيبته عندهم (2) :

- ‌ كرمه:

- ‌ مصدر نفقته:

- ‌تقوته من عمل يده:

- ‌ حوانيت كان يؤجرها:

- ‌رفضه أعطيات السلطان:

- ‌ تاريخ بدء طلبه للحديث:

- ‌ رحلاته:

- ‌كثرة شيوخه (1) :

- ‌ أَدب أَحمد مع شيوخه:

- ‌ رواية شيوخه عنه (2) :

- ‌ كثرة تلامذته:

- ‌ غرامه بالكتب (1) :

- ‌ إِمامته في علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال:

- ‌ روايته في الكتب الستة (1) :

- ‌ من نفائس أقواله:

- ‌ مؤلفاته:

- ‌ تاريخ تأليفه للمسند:

- ‌ سعة حفظه:

- ‌المبحث الثاني: إِمامته في الفقه (1)

- ‌ كائنة الحنابلة مع الطبري:

- ‌المبحث الثالث: مَدَى تأثر فقه أحمد ومذهبه بفقه الشافعي ومذهبه

- ‌المبحث الرابع: خَبَر القول بخلق القرآن: فِتْنَةٌ. ثم مِحْنةٌ. ثم نصْرةٌ

- ‌ دور فِتْنه القول بخلق القرآن:

- ‌دَوْرُ المحنهِ:

- ‌ المحنة في عهد المأمون: " دور نشأة الامتحان بها

- ‌ المحنة في عهد المعتصم: " دور استفحال المحنة " (2) :

- ‌ دَوْرُ النُّصْرَة:

- ‌ عفوه عمَّن آذاه إلَّا صاحب بدعة:

- ‌ المحنة في عهد الواثق: " دور استمرارها

- ‌ رفع الفتنة والمحنة في عهد المتوكل:

- ‌ المدَّعِي: أَحمد البدعة:

- ‌ المدَّعى عليه: أحمد السنة:

- ‌ الظرف العقدي لزمن الفتنة:

- ‌ محل الدعوى:

- ‌ موضوع الدعوى: " القرآن مخلوق

- ‌ مدة الدعوى:

- ‌ حجة المدعي:

- ‌ حجة المدعى عليه:

- ‌ ماذا لحق المدعى عليه من الأَذى:

- ‌ كسب الدعوى:

- ‌ شهداء الفتنة:

- ‌ الذين لاذوا بِالتَّقِيَّة:

- ‌ الثابت في المحنة:

- ‌ دور النصرة

- ‌ المحنة الثانية:

- ‌ المحنه الثالثة:

- ‌ المحنة الرابعة:

- ‌المبحث الخامس: في معرفة الخصال التي تَمَيَّز بها الإمام أَحمد

- ‌المدخل السابع: في التعريف بعلماء المذهب

- ‌الفصل الأول: في معرفة التآليف المفردة عن علماء المذهب

- ‌ تمهيد:

- ‌ النوع الأول: تسميه الكتب المفردة في ترجمة الإمام أَحمد

- ‌ النوع الثاني: كتب في تراجم تلاميذ الإمام وأَصحاب الرواية عنه:

- ‌ النوع الثالث: كتب في تراجم الأصحاب على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم:

- ‌ النوع الرابع: كتب تختص بتراجم الأصحاب حسب بلدانهم:

- ‌ النوع الخامس: كتب تختص بترجمة واحد من علماء المذهب:

- ‌ النوع السادس: التراجم الذاتية:

- ‌ النوع السابع: مؤلفات في تفضيل المذهب، والدفاع عنه وعن أَتباعه:

- ‌الفصل الثاني: في طبقات الأصحاب

- ‌ تمهيد:

- ‌الفصل الثالث: في معارف عامة عن الأصحاب

- ‌المبحث الأول: نظرة تقريبية لعدد علماء الحنابلة من طبقاتهم المطبوعة

- ‌المبحث الثاني: آفاق الحنابلة وأَوطانهم (1)

- ‌ في بغداد:

- ‌ في الشام:

- ‌ وفي مصر:

- ‌ وفي بلاد العجم:

- ‌ وفي جزيرة العرب:

- ‌المبحث الثالث: في معرفة بيوت الحنابلة

- ‌ في: بغداد

- ‌ في بغداد والشام:

- ‌ في الشام:

- ‌ في مصر:

- ‌ الحنابلة في بلاد العجم:

- ‌ في جزيرة العرب:

- ‌المبحث الرابع: التحول المذهبي

- ‌ المبحث الأول: الذين تحولوا إلى مذهب الِإمام أَحمد:

- ‌ المبحث الثاني: الذين تحولوا عن المذهب الحنبلي: منهم:

- ‌ المبحث الثالث: الذين حصل تردد في نسبتهم إلى المذهب الحنبلي:

- ‌ المبحث الرابع: الذين تحولوا من التقليد للمذهب إلى الاجتهاد:

- ‌ المبحث الخامس: من كان متمذهبًا في الفروع حنبليًا في الأصول:

- ‌ المبحث السادس: أصحاب الإمام أحمد والآخذون عنه وهم من غير أهل مذهبه:

- ‌المبحث الخامس: في مشتبه الأسماء

- ‌المبحث السادس: في الكنى والألقاب، والمبهمات

- ‌المبحث السابع: في الأوائل الحنبلية

الفصل: ‌ كائنة الحنابلة مع الطبري:

ومع هذا فإِن العصبية دفعت بأَقوام إلى الشغب على الِإمام والنيل من أهل مذهبه فصاغوا قولتهم عن الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى- بأَنه: " محدث وليس بفقيه ".

واستقوها من تصرف الإمام الطبري: محمد بن جعفر المولود سنة (224 هـ) والمتوفى مدفونًا بداره ليلا في بغداد سنة (310 هـ) في كتابه: " اختلاف الفقهاء " من أَنه لم يضم إلى خلاف الثلاثة خلاف الإمام أَحمد

(1) ؟

من هنا نبيّن كائنة الحنابلة مع الإمام الطبري وأقوال الناس في توجيهها، ومحملها، حتى يتبين للمنصف اضمحلال تلك المقولة، وضمور مستندها.

*‌

‌ كائنة الحنابلة مع الطبري:

في ترجمة: الإمام محمد بن جرير الطبري، شيخ المفسرين، المتوفى سنة (310 هـ) - رحمه الله تعالى- ذكر ياقوت ت سنة (626 هـ) في تاريخه " معجم الأدباء " وابن الأثير في:" تاريخه: الكامل "(6/ 171) وابن السبكي ت سنة (771 هـ) في: الطبقات 3/ 124- 125 " وابن كثير ت سنة (774 هـ) : في تاريخه:

(1) ذكر الحجوي في: الفكر السامي: 2/ 25 من كتب في الخلافيات، ولم يذكر مذهب الإمام أحمد، وجميعهم بعد الطبري، وهم: من الحنفية: الطحاوي، والدبوسي، والنسفي، والسمرقندي، والفراهي، والأصيلي المالكي، والغزالي الشافعي في:" الوجيز "

ثم ذكر من اعتمده في الخلافيات وبخاصة الإمام الترمذي في جامعه، مع عدم ذكره لمذهب الإمام أبي حنيفة إلا نادراً.

ص: 361

11/145 ": كائنة الحنابلة مع الطبري:

(فلما قدم- أي الطبري- إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها: تعصب عليه أَبو عبد الله الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي، وقصده الحنابلة فسألوه عن أَحمد بن حنبل في الجامعِ يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أَبو جعفر أما أَحمد بن حنبل فلا يعد خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته رُوي عنه ولا رأيت له أَصحابًا يُعَوَّلُ عليهم، وأَما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أَنشد:

سبحان من ليس له أَنيس

ولا له في عرشه جليس

فلما سمع ذلك الحنابلة منه، وأَصحاب الحديث، وثبوا ورموه بمحابرهم، وقيل: كانت ألوفًا، فقام أَبو جعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه يومًا إلى الليل وأَمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه:

سبحان من ليس له أَنيس

ولا له في عرشه جليس

فأَمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أَصحاب الحديث:

لأَحمد منزل لا شك عامل

إذا وافى إلى الرحمن وافد

فَيُدْنِيْهِ ويُقْعِدُهُ كريمًا

على رغم لهم في أنف حاسد

فَخَلا في داره، وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر

ص: 362

مذهبه، واعتقاده، وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم، وفيه فضل أَحمد بن حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يزل في ذكره إلى أَن مات ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات، فوجدوه مدفونا في التراب فأَخرجوه ونسخوه، أعني " اختلاف الفقهاء " انتهى.

فهذه المصادر تتفق هي وغيرها على أمور

1-

أَن ابن جرير- رحمه الله تعالى- احتجب في داره.

2-

وأنه لما مات سنة (310 هـ) دفن في داره ليلًا ومنعوا من دفنه نهارًاه.

3-

وأن ذلك بسبب ما وصل إِليه من أَذى.

ثم اختلفوا فيمن آذاه وسببه.

* فياقوت يُعَلِّلُهُ بأَمرين من الحنابلة، هما:

1-

تأويله حديث الاقعاد على العرش

2-

عدم ذكره لخلاف أحمد في كتابه: " اختلاف الفقهاء ".

* وابن الأَثير، يذكر قول ابن مسكويه من أن سببه:

دعوى العامة عليه: الرفض والِإلحاد، لكن يرده ابن الأَثير ويذكر أن السبب تأليفه كتابه المذكور، وقيام الحنابلة عليه.

* وابن السبكي يرى أَنه إنَّما احتجب عن الأراذل من العامة، وأَما الحنابلة فهم أقل شأنًا من أن يمنع بسببهم.

* وابن كثير: يرى أَن السبب رمي داود الظاهري له بالرفض

ص: 363

والإلحاد، بسبب تأليفه كتابا عن: غديرخم في مجلدين، وكتابًا جمع فيه طرق حديث الطير، وأنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء، فقلد الحنابلة داود فآذوا ابن جرير تدينًا.

هذه خلاصة ما ذكره المؤرخون في هذه الكائنة، ومعلوم أَن الفقرتين (1، 2) لا خلاف فيهما، وتبقى الفقرة الثالثة في معرفة من آذاه، وسببه، ويظهر ما يلي:

1-

ما ذكره ابن السبكي، لا ينبغي الالتفات إِليه، ولا التعويل عليه؛ لما عرف من العداوة بينه وبين الحنابلة، فهذا من تقادح الأَقران، بل بلغ به الحال- تجاوز الله عنا وعنه- إلى الوقوع في شيخه الإمام الذهبي كما في ترجمته له وفي ترجمته لوالده، وفي ترجمته أبي الحجاج المزي من كتابه:" طبقات الشافعية الكبرى 10/399-400، 9/103 " وقد رد عليه الحافظ السخاوي - رحمه الله تعالى- في: " الإعلان بالتوبيخ ص/ 101، 135- 136 " والشوكاني في: " البدر الطالع ".

2-

ما ذكره ابن الأَثير عن ابن مسكويه، وذكره بأَبسط منه ابن كثير من أَن السبب ما رُمي به من الرفض والإلحاد فيكفينا في رده، بعد المطالبة بثبوته، ودونه خَرْطُ القتاد: رد ابن الأَثير له، ورد ابن كثير كذلك في قولهما: وحاشاه من ذلك.

3-

بقي السبب الثالث الذي ذكره ياقوت وابن الأثير وهو تأليفه كتابه: " اختلاف الفقهاء " وفيه خلاف الأئمة الثلاثة دون ذكر

ص: 364

خلاف الإمام أحمد، زاد ياقوت: وتأويله حديث الجلوس على العرش.

قال ابن الأثير: " فقيل له- أي ابن جرير- في ذلك فقال: لم يكن فقيهًا وإنَّما كان محدثا، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحْصَوْنَ كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وقالوا ما أَرادوا

".

أقول: لِنفرض أَن هذا هو السبب، فإن اعتذار ابن جرير- رحمه الله تعالى- في عدم ذكر الإمام أحمد في كتابه اختلاف الفقهاء، واضح، أنه لا يريد نفي كون الإمام أحمد فقيهًا وإنَّما يريد نفي كونه فقيهًا متبوعًا؛ فابن جرير ولد سنة (224 هـ) في حياة الإمام أَحمد المتوفى سنة (241 هـ) ثم توفي ابن جرير سنة (310 هـ) ومذهب الإمام أَحمد لم يتكون إقراء فروعه في هذه الفترة، فكان في طور رواية تلامذته له، وجمع الخلال له، المتوفى سنة (311 هـ) أي بعد ابن جرير بعام واحد، وأول مختصر في فقهه كان من تأليف الخِرَقي المتوفي سن (334 هـ) ، فصار بدءُ إقرائه في الكتاتيب كما في تلقن القاضي أَبي يعلى له، وعلى يد أبي يعلى، المتوفى سنة (458 هـ) الذي تولى القضاء وشيخه الحسن بن حامد، المتوفى سنة (403 هـ) بدأ ظهور المذهب، وتكونه، وتكاثر أَتباعه، والاشتغال في تهذيبه، وتدوين المتون والأصول، وكل هذا بعد وفاة الإمام ابن جرير بزمن كما هو ظاهر فرحم الله ابن جرير ما أبره حينما قال: " أما أحمد فلا يعد خلافه، فقالوا له، فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما

ص: 365

رأيته رُوي عنه، ولارأيت له أُصحابًا يعول عليهم " انتهى.

أَي يعول عليهم في التمذهب الفروعي كما جرى عليه أَتباع الأَئمة الثلاثة: أَبي حنيفة، ومالك، والشافعي؛ لتقدمهم عليه في الرتبة الزمانية، ثم صار التمذهب بمذهب أَحمد في مرحلة زمانية متأخرة عن وفاة ابن جرير على ما بينته.

وهذا من الوضوح بمكان مكين لمن تأمله، لكن ما فهم الأَصحاب كلامه ومراده فوقع ما وقع. ولله الأَمر من قبل ومن بعد.

ولا أرى هذا التخريج في الاعتذار عن ابن جرير إلَّا من وضع الأمور في نصابها.

وله نظائر تخرج من مآزق في التحطط على أهل العلم والإيمان.

منها ما أعتذر به ابن كثير- رحمه الله تعالى- عما نسب إلى ابن جرير من أَنه يقول بقول الرافضة من أَن فرض القدمين في الوضوء هو " المسح ".

قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (والذي عوَّل عليه كلامه في التفسير أَنه يوجب غسل القدمين، ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عَبَّرَعن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أَنه يوجب الغسل والمسح، وهو الدلك، والله أعلم) انتهى

وذكرت لهذا نظائر في: (التعالم) والله أعلم.

ويزاد هنا نظير قول الطبري: " ولا رأيت له- أي أحمد-

ص: 366

أصحابًا يعول عليهم ": قول الإمام أَحمد، لما سُئِلَ عن أبي حنيفة، وعمرو بن عبيد، قال: أَبو حنيفة أَشد على المسلمين من عمرو بن عبيد؛ لأَن له أَصحابًا

".

كما في: " تاريخ بغداد: 13/114 " فإن أحمد لم يُرد أَن عمرو بن عبيد لا أَصحاب له البتة؛ وِانما أَرأد أَنه ليس له أَصحاب في مثل غلوه في الاعتزال والقدر (1) .

هكذا تنزل كلمات الأَئمة منازلها، فهي بحاجة إلى نظر سديد، وتأمل دقيق، وتخلص العصبية والهوى. والله المستعان

ثم يبدو بَعْدُ أَمران لابد من التنبيه عليهما:

الأول: أن ابن جرير يلتقي مع الإمام أحمد وأصحابه في صفاء الاعتقاد، والجري فيه على طريقة السلف بلا تأويل، ولا تفويض، ولا تشبيه، مع النزوع إلى فقه الدليل، وكان- رحمه الله تعالى- رأسًا في العلم، حتى انتسب له بعض أهل العلم مثل: المعافى بن زكريا النهرواني الجريري ت سنة (390 هـ) نسبة إلى ابن جرير في التمذهب؛ ولهذا ترى في تراجم بعضهم: وكان جريري المذهب، فهو- رحمه الله تعالى- رأس منافس في الترأس والاتباع، فلعلَّ ما هنا أثَر على ما هنالك، واِن كان- رحمه الله تعالى- أَجَلَّ وَأَوْرَعَ وَأَتْقَى لِرَبّه مِن التَّأثرِ بِذَلك.

الثاني: إن كان المتعصبة يريدون بقولتهم " ليس بفقيه " فقه

(1) انظر التنكيل للمعلمي: 1/169

ص: 367

الرأي الذي لم يؤصل على الدليل فنعم، وهي منقبة، وإن أريد أنه غير فَقيه: فقه الدليل، فهذا من جحود المحسوس، ونكران الملموس. وعلى كل حال فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، وتحتجر المقولة في صدر قائلها؛ إِذ لا رصيد لها من الواقع، ولا دليل يسندها، والعبرة بالحقائق، والكُلُ إلى الله صائر.

ولعله بهذا تحصل القناعة للمنصفين، وتنقشع عن أبصارهم غشاوة المُشَنِّعين، ونكون قد أدينا بعض ما لعلمائنا علينا من حرمة يجب أن تُرعى، وحق يلزم أن يُؤَدَّى.

وإذا تجلَّى الحق لناظريه، فليعلم الناظر فيه، أَن هذه الدعوى:" الإمام أحمد محدِّث وليس بفقيه " هي من ولائد التحطط على عموم المحدثين، ورميهم من المغبونين، بأنهم:" زوامل أَسفار "؟

وقد قام الخطيب البغدادي ت سنة (463 هـ) بتفنيد هذه الفرية وأن بواعثها أغراض نفسانية بلا مرية، وكشف عنها في كتابه النافع:" الفقيه والمتفقه " فاستجلى أَسبابها وجلى عن وجوه ردها، وسار من بعده على نهجه، فهم بها عيال عليه.

ص: 368