الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الاجتهاد في الفقه الإسلامي وأثره في الثروة الفقهية في كل مذهب
وإِذ تمهدت هذه المقدمات عن حقيقة المذهب، وحقيقة:" الفقه " وأَن مدار فقه الإمام أَحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- صاحب المذهب الفقهي المنسوب إِليه، ومدار فقه المذاهب الأربعة، والاختلاف بينها- بل بين العلماء سلفا وخلفا- في الفروعيات هو على:" المسائل الاجتهادية في أَفعال المكلفين " تأتي المناسبة جلية ظاهرة في عقد هذا التمهيد عن: " الاجتهاد في الفقه الإسلامي " وبيان مجالاته فيه، وتشخيص سبب كثرة الثروة الفقهية باختلاف فهوم الأَئمة فيما شاء الله من الفروع الفقهية. وإليك البيان: معلوم في مطالع الشرع المطهَّر صلاحيته لكل زمان ومكان، إِذْ جاءت أَحكامه رحمة للناس مبنية على رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ورفع الحرج والمشقة عَن مَنْ أتم الله عليهم النعمة بالإيمان بها، غاية في إقامة القسط والعدل: العدل الذي ترسم معالمه الشريعة ذاتها، لا على التفلسف، والملاينة، والنزول على الرغبات، ومجاراة الناس، وتسويغ أعمالهم
وتأسيسا على هذا أعطى الشرع المطهر من انبسطت يداه،
ودَرَجَتْ خُطَاه في سَنَنِ التحقيق: منصبَ إِعمال الفِكْر، وإجالةَ النظر بالتفهم والتفقه والتدبّر في فهم النصوص وتطبيقها على الواقعات المستجدة، وباستخراج الدليل للواقعة من الكتاب والسنة، وإلحاق ما لا نص فيه منها على ما ورد به النص بما اكتسبَ بَعْدُ اسم " الاجتهاد " ومعتمله اسم:" المجتهد ".
وقد تسلَّم الصحابة رضي الله عنهم منصب الأستاذية في هذا، وتتابع عليه أَهلوه من علماء الشريعة على توالي العصور، بالتفقه وبذل الجهد الفِكري.
وبه: استمر دُولاب الحياة مترابط الحلقات بالدِّين، وحبل الله المتين، وصار جسراً ممتداً في الإسلام، معلناً الخلود والنفاذ واستلهام الحوادث والواقعات، والصمود أَما ظروف الحياة ومواجهات العصور وإذا سبرت الحال لميزان عصور القوة والنضوج والترقي من عصور الضعف والتهري، حملك هذا إلى معرفة مدى توفر العقول الحاملة لملكة الاجتهاد الحقيقي في الأُمة، الذي يسعى به مكتمل أَدواته إلى ما يريده الله من عباده.
كل هذا قد عُلِمَ في سُلَّم المسلمات الشرعية في إِطار الطواعية والانقياد لله تعالى، ومنها ما أَوجبه الله من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع الناس كما في نحو أَربعين موضعاً من التنزيل الكريم، وطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى، وهذا عين العبودية لله وحده لا شريك له، وذلك دين الإسلام. والأصل: الأخذ بالنص عند ظهوره، فيسقط معه كل اجتهاد أو قياس أو تقليد، وهذه لا تكون إلَّا عند الاضطرار
ولذا كان الأَصل في شأن الفقيه: أن يكون مستقلاً لا يتقيد بمذهب معين، إنما يتقيد بنصوص الكتاب والسنة وما يؤدِّيه إِليه اجتهاده المقبول، وهو مأجور أَخطأ أَم أَصاب. وهذا كما أَنه عين الطواعية لله ورسوله، فهو من أَعظم الأَسباب لِإثراء الفقه، وتنميه الملكات الفقهية، والنشوء والتربية على مبدأ البحث واستقلال الفكر سَيْرا على منهاج النبوة.
وعليه فقد انعقدَ الإجماع على أَنَّه لا يجوز لِعَالِم أَن يُقلِّد غيره
إِذا كان قد اجتهدَ وتبين له الحق، والِإجماعُ أيضا على أَن التقليد المحرَّم بالنص والِإجماع هو كل تقليد يعارض قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وأَن الشريعة لا يمكن حصرها بمذهب معين، أو قول مقنن، وأَنها حجة على كل مذهب ولا يجوز بحال أَن يحتج بالمذهب عليها، وما المذهب إلَّا قطرة من بحرها الزاخر.
وما الأَخذ بالدليل إِلاّ َتقليد في صورة ترك التقليد، لقول كل إِمام:" إِذا صحَّ الحديث فهو مذهبي " ولذا رفض العلماء مقولة من قال بسد باب الاجتهاد، ورأوها عمليه إِجهاض للفقه الإسلامي، وأَن الذمم مشغولة بتحقيقه، ولا تبرأ بسده على أَهله، بل قال الشوكاني - رحمه الله تعالى- كلمته المشهورة:" سَدُّ باب الاجتهاد دعوة إلى نسخ الشريعة " نعم: سد الباب على غير المتأهل، دفعاً لفساد الفتيا بغير علم، والقول على الله بلا علم أساس كُلِّ بَلِيّهٍ في الدِّين؛ ولذا صار حفظ الدين رأس مقاصد الإسلام الخمسة: حفظ الدين، فالنفس، فالعقل، فالعرض، فالمال
وقد عُلِمَ على سبيل اليقين والقطع ضرورة الحياة وسياسة العمران إلى قيام منصب الاجتهاد الفقهي، إذْ الواقعات متجددة لا تقبل الحصر والنص لم يرد في كل حادثة، وهي غير متناهية، فصار نصب القياس والتفقه واجباً، وهذا الواجب لا يتم إلَّا بأَن يسعى مَنْ بَسَطَ الله يده إلى سبل التعلم التي تؤهل الكفاءات العلمية في مهد عنايتها، وتنمية مداركهم على يد من استقامت موازينهم وخلصت نِيَّاتُهم، لاسيما والآلات العلمية متوفرة في هذا الزمن أكثر وأَسهل من ذي قبل، فالشأن في التوجيه لحملها على سنن الشرع، وبهذا يكون في ساحة المسلمين واحدة من كبرى الضمانات التي تعصمهم من التموج والأَهواء والاضطراب في أَمر الدِّين والدّنيا.
وقد صَنَّفَ أهل العلم: أَصْحَابَ المدارِك الفقهية إلى طبقات ومراتب بين الاجتهاد والتقليد، على اختلاف بينهم، فمنهم من جعلهم ثلاث طبقات
1-
طبقة المجتهدين، ويقال: بإطلاق.
2-
طبقة المجتهدين في المذهب.
3-
طبقة أَرباب الترجيح.
ومنهم من زاد:
4-
طبقة المحافظين في المذهب.
5-
طبقة المقلدة.
إلى غير ذلك مما يُعلم من النظر في تفاريق كلام الأصوليين في أخريات مباحث الاجتهاد والتقليد من كتب الأصول
والمتعين على أهل العلم والإيمان أَن يقولوا من حيث يعلمون وأَن يكفوا عما لا يعلمون، وأن يسيروا في الأُمة سيرة سلفهم الصالح في رعاياهم، وَمَنْ لم تنبسط حاله في الفقه فإنه يقف عند حده ولا يتجاوز طوره. والمتأهل ينزل في الساحة ولا يتخلى عنها لمتعالم يُفسِد على الناس دينهم ودنياهم؛ ولذا تَخَلَّصوا وخلَّصوا الأمة من أَسْر الضغط بالتقليد في جميع صوره وأَشكاله، وسلكوا بها طريقاَ بين ذلك قواماَ " فيبذل الفقيه المتأهل الوسع في الطلب، بحيث يحس من نفسه العجز عن زيد الطلب لاستخراج الأَحكام العملية من أَدلتها التفصيلية " وهذه حقيقة الاجتهاد وكلمة " الاستخراج " هنا أَولى على سبيل التنظير أو الاجتهاد في تطبيق النص على الواقعة، وبذله هذا لا يخلو أَن يكون واجباً عينياً إن وقعت له الحادثة أو سئل عنها وخاف فَوْتَهَا، أو وجوبا كفائيا إِن لم يخف فَوْتَها، أو سبيله الندب فيما عدا ذلك.
وهذا الذي له حق بذل الوسع هو من يملك أَسبابه من فقيه النفس المتبحِّر في الكتاب والسنة والأحكام الشرعية المشتركة بينهما، راسخا في أصول الفقه بالبيّنة لا بالتبعية المذهبيّة، بصيراً بمواطن الإجماع والخلاف الفقهي ومداركه، قائلاً بالقياس عالماً به، عارفاً بوجوه دلالة اللفظ المختلفة، وعلوم الآلة، صدراً في اللغة العربية وبالجملة: تمكِّنه هذه الأسباب من إناطة الأحكَام بمداركها الشرعيّة، قد أنس من نفسه ذلك، وكثيراَ ما تنتشر في الناس أهليّته، فمتى كان
كذلك؛ صح وصف العالم بالمجتهد، وصح اجتهاده، وصار قبوله متى كان عدلَا مقيماَ للفرائض والسنن.
ولعلَه بعد هذا التطواف المعتصر من كلام أهل العلم، تستشرف النفس إلى معرفة مجالات الاجتهاد، ومن هنا فاعلم أَنَّ الأَحكام تدور في قالبين:
* الأول: ما كان من كتاب أو سنة أو إِجماع قطعي الثبوت والدلالة، أو معلوماً من الدِّين بالضرورة، كمسائل الاعتقاد وأَركان الإسلام، والحدود، والفضائل، والمقدرات كالمواريث، والكفارات
…
ونحو ذلك. فهذه لا مسرح للاجتهاد فيها بإِجماع، وطالما أَنَّها ليست محلاً للاجتهاد فلا يُقال فيها: كل مجتهد مصيب، بل المجتهد فيها مقطوع بخطئه وإثمِه، بل وكفره في مواضع.
* الثاني: ما سوى ذلك؛ وهو ما كان بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو عكسِهِ، أو طرفاه ظنيان، أو لا نص فيه مطلقاً من الواقعات والمسائل، والاقضيات المستجدة، فهذه محل الاجتهاد في أُطرِ الشريعة، وعلى هذا معظم أَحكام الشريعة؛ فهذا محل الاجتهاد ومجاله.
ولا يسبق إلى فهمك هنا أَنَّ المراد بالقطعي: " الحديث المتواتر " وبالظني: " حديث الآحاد " على ما دَرَجَ عليه عامة أهل الأصول؛ كلا، ثم كلا، لأنَّهم بهذا يُفرِّقون بين شرعي وشرعي،
ويستدلون للتفريق؛ بل في جميع مباحث الأصول، بآحاد الأَدلَّة من مفردات العربية، وأَبيات الأَعراب، فانظر كيف يستدلون على الشرع بالآحاد وينكرون دلالة السنة الآحادية في الشرع في الاعتقاد، أو يجعلونها ظنية الثبوت في الأَحكام؛ فما هذا أريد، ولكن أريد بالظنِّي هنا " ما وقع فيه خلاف له حظ من النظر بين التحسين والتضعيف، أَو الحديث الضعيف ضعف حفظ وما جرى مجرى ذلك.. والله أعلم
وقد يكون الحكم هنا من الوضوح والبيان ما يلتحق بالقسم الأول، وقد تتزاحم الدلائل فيكون التفهم والتفقه والتفتيش عن وجوه الترجيح لأَحد القولين أَو الأقوال من غيره، وهنا يصح أن يقال في حق من له بذل الوسع. " كل مجتهد عند نفسه مصيب " لا يلحقه إِثم وإن أَخطأ فالمصيب مأجور والمخطئ معذور إذ الحق في واحِد من القولين أو الأقوال كما أَن القبلة في واحدة من الجهات.
* وهناك قالب ثالث: هو مجال لنظر الفقيه، وذلك في فهم النص ومدى انطباقه على الواقعة، ومن جهة ما يرد عليه من إِطلاق أو تقييد، أو ربطه بعلة وتحرير قيامها أو زوالها، وهل النص مما سار فيه النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى العادة أو الجِبلة أو لَا؟ أو أن النصّ مما قام الدليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم به أو لا؟ إلى غير ذلك من وجوه التفقُه في الأدلَّة، وما ترمي إليه مقاصد الشرع من حفظ
المصالح ودرء المفاسد في مصادره الأَصليّة، وقواعده الكليّة، ومصادره التبعيّة: كالاستحسان، والاستصلاح، والعرف، والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع. ونحوها من مسالك التفقُّه المقدَّرة بميزان الشرع الصحيح لا بالهوى والتشهِّي.
تنبيه مهم:
لقد أخطا خَطأً فاحشاً من قال بشمول: تغيُّر الفتوى (1) بتغيُّر الزمان في القالبين المذكورين، فإِنَّها بالنسبة للأَول ثابتة لا تتغير ولا تتبدَّل. وما علمت في المتقدمين من قال عن هذه القاعدة بشمولها، بل كلامهم عنها يفيد أَنَّها قاعدة فرعية صورية وليست حقيقية، إِذْ يضربون لها المثال بتغير الأَعراف، وهذا محكوم بقواعد العرف والعادة، ومن هنا فهي صورية لا حقيقية، وابن القيم- رحمه الله تعالى- مع جلالة قدره قد توسع بضرب المثال لها بما لا يسلم له- رحمه الله.
وليعلم هنا أن هذه القاعدة مع مسألة البحث هذه " فتح باب الاجتهاد " يستغلهما فقهاء المدرسة العصرانية الذين اعتلّت أَذواقهم، وساورتهم الأَهواء، ومجاراة الأَغراض، فهذا يشيد حججاً لإباحة الربا، وذلك لوقف تنفيذ الحدود
…
وهكذا وكلها شبه على أًساس
(1) حصل من بعض المعاصرين خَطأ في قوله: تغير الأحكام فالحكم ثابت لا يتغير وإنما الفتوى به حسب المقتضى الشرعي، كما في سهم المؤلفة قلوبهم. والله أعلم
هار مُتَدَاع للسقوط وبأَول معول. فيجب على من ولَاّه الله أَمرَ المسلمين: معالجةُ هذه الأَذواق الفاسدة بتحجيمها، والقضاء عليها، لتسلم الأمَّة من أَمراضها واعتلالها، ورضي الله عن ابن مسعود إِذْ يقول:" اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأَمر العتيق ".
* وإذْ قَدْ تَمهدت هذه الجمل المهمة في تحرير محل الخلاف مما لا يقبل الخلاف، وأَن أَصل التشريع لا خلاف فيه البتة، وأَن الخلاف الحاصل إِنَّما جاء في بعض الفروعيات من قبل اختلاف " فهوم المجتهدين " لا غير، تعلم الجواب عن السؤال الجاري، وتصويره كالآتي:
" مع عقد الِإيمان بكمال الدِّين وشموله، وإحكامه، ومقتضاه:
أَن لله سبحانه وتعالى في كل قضيّة حكْماً مَعلُوْما لا يتعدد؛ إِذْ الحق واحد لا يتعدد، لكن نرى مواضع خلاف بين فقهاء الشرع، ونحن نُسَلِّم ونُؤْمِن بالشرع المطهر في مواطن الإجماع ومواضع الخلاف، لكن كيف ندفع سؤال من يرد على خاطره التساؤل في مواطن الاختلاف من جهتين:
* الأُولى: من جهة أَن الدين المنزَّل من عند الله لا يختلف ولا تضطرب أحكامه، فكيف حصل هذا الاختلاف المتناقض في عين واحدة، يُقال فيها: حلال، وحَرام، في آن واحد؟
* الثانية: من جهة المجتهدين، كيف يقول المجتهد: هذا
حلال، ويقول الآخر هذا حرام، والعين واحدة؟ وأَن هذا يؤدِّي إلى القدح في ثقة المجتهدين، فكيف الجواب عن السؤال؟؟
*الجواب:
قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف: 54]
قال ابن أَبي يعلى، المتوفى سنة (526 هـ) في ترجمة ابن أَبي حاتم الرازي: عبد الرحمن بن محمد بن إِدريس الرازي، المتوفى سنة (327 هـ) : " قرأت في كتاب الرد على الجهمية: حدثنا صالح بن أَحمد بن حنبل قال: سمعت أَبي- رضي الله عنه يقول: قال الله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فأخبر بالخلق، ثم قال: والأمر، فأَخبر أن الأَمر غير الخلق (1)
يقول. قد مَيَّزَ الله بين الخلق والأمر، سَمى هذا أمرا، وسَمَّى هذا خلقاً، وفَرَّقَ بينهما، فقال. أَلا له الخلق والأمر، وكل مخلوق داخل في الخلق. وبقي الأمر والأمر ليس بمخلوق قال الله تعالى:(ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ، فأَنزل كلامه غير مخلوق " انتهى.
(1) ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه: " السنة: " 1/103 "
وهذا الفهم الثاقب من الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى- ومن أَحمد بن سنان الواسطي- رحمه الله تعالى- في رواية ابن أَبي حاتم عنه- رحمهما الله تعالى- لتفسير قول الله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) هو من التفسير السهل الممتنع، وقد أَزال إِشكالاً يُثار في سبب اختلاف علماء الأَمصار مع عقد الِإيمان على كمال الشرع المطهر وإحكام أَحكامه
…
وقد طالت في الجواب عنه مطارحات العلماء لتحصيل الجواب، على أن ذلك الاختلاف غير قادح في الدين، ولا في علماء الشرع المجتهدين المختلفين، بدءاً من سؤال أَبي حيان التوحيدي، المتوفى سنة (414 هـ) والجواب عنه لمسكويه، المتوفى سنة (421 هـ) كما في كتابهما:" الهوامل والشوامل ": (ص: 328- 332) .
ومروراً بكلمات العلماء الكاشفة لوجه الحق في الجواب. منهم: ابن قتيبة في: " تأويل مشكل القرآن ": (ص: 40- 42)، والداني في: (الجامع. ص 47 " وابن الجزري في: " النشر 1/ 49 " وأَبو حيان في: " البحر المحيط: 3/ 355 " والشاطبي في: " الموافقات: 3/ 85- 87 " وابن تيمية في: " الفتاوى: 13/ 391- 392 " و " اقتضاء الصراط المستقيم: ص 37- 39 " و " رفع الملام عن الأَئمة الأعلام " وغيرها له.
والسيوطي في كتابه: " جزيل المواهب في اختلاف المذاهب " والشوكاني في: " الأَجوبة الشوكانية على الأسئلة الحفظية ".
وابن الوزير في: " العواصم: 3/ 28 " والمعلمي في: " الأَنوار الكاشفة: ص 34 " وبدر الدين الحسيني في: " التعليم والِإرشاد: ص 136 - 140 " وما حررته في: " التقنين والِإلزام " من كتاب: " فقه النوازل ".
ولم يعرج واحد منهم على حل الِإشكال بهذه الآية الكريمة، وتفسير الإمام أَحمد لها، الذي مفاده: أَن الله- سبحانه- قد ميَز بين الخلق والأَمر وهذا دليل تغايرهما، وإثبات الفرق بين المخلوق وغير المخلوق؟ ولهذا صارت هذه الآية الكريمة من أَشد الأدلة القرآنية على الجهمية في دعواهم الباطلة بخلق القرآن، والخلق قد تم في ستة أَيام، ومع ذلك مازال الانتفاع يتجدد، واكتشاف المخلوقين لمخلوقات الله يَحْصُل شيئاً فشيئاَ، وكله خلق الله منذ الأَزل، وكذلك " الأَمر " أَمر الله، والدين دينه، والشرع شرعه، الذي تنزل على قلب نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ديناَ قيِّماً كاملاً تماماً على الذي أنزل، لينفذ في خلقه أَمره في علاقتهم مع خالقهم، وفي علاقتهم مع خلقه، وقرنَ سبحانه خبر خلقه بأَمره؛ لحملهم على العمل بأَمره- أَي: دينه وشرعه- في شؤون دنياهم وأخراهم، وكما أَن خلقه لا يخرج عنه شيء لغيره سبحانه، فكذلك أَمره، وتشريعه:(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) سبحانه، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وسمانا مسلمين، وجعلَ من أصول الإسلام ومعاقد الإيمان: ملازمة الإسلام حتى الممات، وإسلامَ الوجه لله على الإخلاص والِإحسان والرضا والتسليم بشرع الله وحكمه، وأَن الله- سبحانه- قد أَكملَ الدِّين وأَتمَّ النعمة ببعثة خاتم
الأَنبياء والمرسلين، وأَن هذه الشريعة الإسلامية المباركة هي روح العالم، ونوره، وحياته، والدنيا مظلمة ملعونة إلَّا ما طلع عليه نور هذه الشريعة الميمونة، وأَن من معاقد الِإيمان: التسليم بنسخها لجميع الشرائع، وصلاحيتها لكل زمان وجنس ومكان، وأَنها وافية شاملة لجميع المستجدات والجزئيات، لا يعزب عن حكم الله فيها ذرة في الأَرض ولا في السموات.
وَأَنَ مَنْ لَمْ يُشْرق في قلبه نور هذه الشريعة؛ فهو في موت وظلمة وضلالة، وكُفر وعِمَايَة.
وأن جميع أَحكام الشريعة تقوم على نوعين من الأَحكام هما نعمتان من نعم الله على هذه الأمة المرحومة أمة الإسلام:
الأول: نوع لا يقبل الخلاف أَصلاً، وهو نعمة الأسس الكبرى التي يلتقون عليها، ويبنون عليها جامعتهم، مهما تناءت ديَارُهم وتنوعت أَجناسهم، في مصادر الدِّين الأصلية وأصوله المليّة، ويسميها بعضهم:" القطعيات "، فتوحيد الله والشهادتان وأَركان الإسلام، ومعاقد الِإيمان، وركن ألِإحسان، وأصول الشريعة الملية، وقواعدها الكلية، والضروريات الخمس التي تدور على المحافظة عليها أَحكام الشريعة، والأَخلاقيات والفضائل والمقدرات، وحجية الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، هي مسَلَّمَة لا شِية فيها، فلا يتطرق إليها خلاف، ولا يحوم حولها اختلاف
وهي أَوعية رحيبة تَحْوي جميع الفروع والجزئيات، وتصبُّ فيها جميع المستجدات والواقعات.
وأَن جملة واسعة عن هذه التفريعات هي كذلك محل إجماع، ولا يعرف فيها خلاف بين علماء الإسلام.
وأَن من محامد الشرع المطهَّر وجود اختلاف التنوع في بعض من هذه الجزئيات وهذا من رحمة الله بعباده، وتكثير أُجور أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعث الشوق للتنقل من صفة عبادة إلى صفة لها أخرى. وهذه المسلمات بمنزلة الدِّين المشترك بين الأَنبياء ليس لأَحد الخروج عنه البتة.
فهي فوق مستوى الخلاف والجدل، فكل المسلمين يؤمنون بها ويذعنون لها، ويرجعون إليها، وتجمع بين المسلمين علماً، واعتقاداً، وعملاً، ملتقين على روح الاجتماع ونبذ التفرُّق والنزاع.
وأَن الخلاف في شيء منها: شقوة وعذاب، وفتنة وفساد، وكُفر وضلال وعلى هذا تتنزل الآيات والسنن الناهية عن الفرقة والاختلاف، وإثارة الخلاف المحرم المحروم من الصواب في جهاته الثلاث:
1-
خلاف في ما لا يقبل الخلاف أَصلاً من الأصول والكليات.
2-
وخلاف في محل إجماع وما لا يعرف فيه خلاف من الفروع.
والجزئيات. وهو مندرج في النوع قبله.
3-
وخلاف يحمله التشهي.
ومن دوافعه: الغرور النفسي، إعجاب كل ذي رأي برأيه، والنار الموقدة بين الجوانح لحب الصدارة، والتطلع إلى المناصب، والشهرة:" ها أنذا فاعرفوني " والعصبية لمقلد، أو مذهب، أو جنس، أو بلد، أو حزب، أو جماعة، والملاينة لِوَالٍ على غرار " خُفّ أو جَنَاح ". وكل هذا من الهلكة في الحق، واتباع الهوى، والبغي، والغِش للمسلمين بإِخراج القول على الله ودينه وشرعه بلا علم في صورة العلم، والفِرية في صُورة القُربة
والآيات في ذم هذا الخلاف، وأَنَّ أَربابه هم دعاة التفرق- كثيرة في كتاب الله تعالى- كما في سورة البقرة: 213، وآل عمران: 19، 103، 105، والأنعام: 159، والأنفال: 46، والروم: 30- 32، والجاثية: 16، 17، وغيرها.- والله أعلم
فهذه الثلاثة لا تأتي بها الشريعة، وهي محل المروي في ذم الرأي وأَنه عن واحد من الخلاف في هذه الجهات الثلاث يصدر أَهل الأَهواء وأَهواؤهم، والمبتدعة- وبدعهم، وتنجم الفرق الضالة، وتنفصل عن الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة: جماعة المسلمين؛ لأَنهم قدَّموا الهوى على الشرع، ومن هنا سُمُّوا بأَهل الأَهواء؛ لغلبته
على عقولهم واشتهاره فيهم، فآلت النسبة بين الرأيين المحمود والمذموم بعيدة الملتمس.
وبهذا التقرير تعلم أَنه لم يرد في الشرع المطهر خلاف في أيٍّ منه أَصلاً أو فرعا البتة، وأَن الخلاف الدائر والحوار الحاصل بين علماء الشرع المطهَّر من الصحابة- رضي الله عنهم فمن بعدهم إِنما جاء من قِبَلِ فُهوم المجتهدين لا من حيث الواقع في نفس الأَمر وأَن خلافهم هذا منحصر في فروعيات تنطوي تحت أي من الأصول المذكورة، خاصة في الفقهيات العملية المكتسبة وبعض المصادر التبعية، ويسميها بعضهم:" الظنيات ".
وهذا هو " النوع الثاني " من الأَحكام التي يدور عليها حكم كثير من الفقهيات في فقه الشريعة، وهي نعمة إِعطاء المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حق النظر، وحق تقرير المصالح في حدود الأَصل المجمع عليه:" طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم " والخلاف فيها لا يمس وحدة المسلمين الحقيقية.
وبهذا التقرير فقولهم: " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " فيه عموم وإطلاق، يخرج عن حَدِّ المراد، وهو " الاجتهاد في أَحكام أَفعال العبيد الفقهية لا العقدية، ولا في باب الفضائل والأَخلاق، فهذه لا خلاف فيها أصلاً، والخلاف في جزئيات من فروعها يُعدّ من: الخلاف النادر ثم هو خلاف في مرتبة الحكم التكليفي لا في أصل