الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: في معرفة الخصال التي تَمَيَّز بها الإمام أَحمد
- رحمه الله تعالى-
قال ابن أَبي يعلى في: " الطبقات 1/406 " في ترجمة يحيى ابن معين، المتوفى سنة (233 هـ) عن شيخه الإمام أَحمد:
" كان في أَحمد بن حنبل ست خصال، ما رأيتها في عَالم قَط: كان محدثًا وكان حافظًا. وكان عالمًا. وكان ورعًا. وكان زاهدا. وكان عاقلا " انتهى.
وقال قَبْل في ترجمة الإمام أَحمد: (1/5- 16) :
" وقال الربيع بن سليمان: قال لنا الشافعي: أَحمد إِمام في ثمان خصال: إِمام في الحديث، إِمام في الفقه، إِمام في اللغة، إِمام في القرآن، إِمام في الفقر، إِمام في الزهد، إِمام في الورع، إِمام في السنة ". وصدق الشافعي في هذا الحصر.
أَما قوله: " إِمام في الحديث " فهذا ما لا خلاف فيه ولا نزاع، حصل به الوفاق والإجماع، أَكثر من التصنيف، والجمع والتأليف، وله: الجرح والتعديل، والمعرفة والتعليل، والبيان والتأويل. قال أَبو عاصم النبيل يومًا: مَنْ تَعُدُّون في الحديث ببغداد؟ فقالوا: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبا خيثمة، ونحوهم. فقال: من تعدون
بالبصرة عندنا؟ فقالوا: على بن المديني، وابن الشاذكوني، وغيرهما. فقال: من تعدون بالكوفة؟ قلنا: ابن أَبي شيبة، وابن نُمير، وغيرهما، فقال أَبو عاصم- وتنفس-: ها، ها، ما أَحد من هؤلاء إِلَاّ وقد جاءنا ورأيناه، فما رأيت في القوم مثل ذلك الفتى أَحمد بن حنبل.
وقال أَبو عبيد القاسم بن سَلَاّم: انتهى العلم إلى أَربعة. أَحمد ابن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأَبي بكر بن أَبي شيبة. وكان أَحمد بن حنبل أَفقههم فيه.
ودخلَ الشافعي يومًا على أَحمد بن حنبل، فقال: يا أَبا عبد الله؟ كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا، فلو كان معي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فدفع إِليه أَحمد ثلاثة أَحاديث. فقال له: جزاك الله خيرًا.
وقال الشافعي لِإمامنا أَحمد يوما: أَنتم أَعلم بالحديث والرجال، فإِذا كان الحديث الصحيح فأَعلموني، إِن شاء يكون كوفيًا، أو شاء شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا.
وهذا من دين الشافعي حيث سلم هذا العلم لأَهله.
وقال عبد الوهاب الوراق: ما رأيت مثل أَحمد بن حنبل. قالوا له: وإيش الذي بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين أَلف مسألة، فأَجاب فيها بأَن قال:" أخبرنا " و " حدَّثنا ".
وقال إبراهيم الحربي- وقد ذكر أحمد-: كأَن الله قد جمع له
علم الأولين من كل صنف، يقول ما يرى، ويمسك ما يشاء.
وقال أَبو زُرعة الرازي: حَزَرنا حفظ أَحمد بن حنبل بالمذاكَرة على سبعمائة أَلف حديث. وفي لفظ آخر قال أَبو زرعة الرازي: كان أَحمد يحفظ أَلف أَلف. فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته، فأخذت عليه الأَبواب.
وأَما الخصلة الثانية، وهي قوله:" إِمام في الفقه " فالصدق فيه لائح، والحق فيه واضح، إِذ كان أَصل الفقه: كتاب الله وسنة رسوله وأَقوال صحابته، وبعد هذه الثلاثة: القياس. ثم قد سُلّم له الثلاث، فالقياس تابع، وإنما لم يكن للمتقدمين من أَئمة السنة والدِّين تصنيف في الفقه، ولايرون وضع الكتب ولا الكلام، إِنما كانوا يحفظون السنن والآثار ويجمعون الأخبار ويفتون بها فمن نقل عنهم العلم والفقه كان رواية يتلقاها عنهم ودراية يتفهمها منهم ومن دقق النظر وحقق الفكر شاهد جميع ما ذكرته.
وأَما نقلة الفقه عن إمامنا أَحمد فهم أَعيان البلدان، وأَئمة الأَزمان، منهم: ابناه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل، وإسحاق بن منصور الكوسَج المروزي، وأَبو داود السجستاني، وأَبو إِسحاق إبراهيم الحربي، وأَبو بكر الأَثرم، وأَبو بكر المروزي، وعبد الملك الميموني، ومُهنا الشامي، وحرب الكرماني، وأَبو زرعة وأَبو حاتم الرازيان، وأَبو زرعة الدمشقي، ومثنى بن جامع الأنباري، وأبو طالب المشكاني، والحسن بن ثواب، وابن مشيش، وابن بدينا الموصلي، وأَحمد ابن
القاسم، والقاضي الرّقي، وأَحمد بن أصرم المزني، وعلي بن سعيد النسوي، وأَبو الصقر، والرزاطي، والبغوي، والشالَنْجِي، وعبد الرحمن المتطبب، وأَحمد بن الحسن الترمذي، وأَحمد بن أَبي عبدة، وأَحمد ابن نصر الخفاف، وأحمد بن واصل المقري، وأَحمد بن هشام الأَنطاكي، وأَحمد بن يحيى الحلواني، وأَحمد بن محمد الصائغ، وأَحمد بن محمد بن صدقة. وهم مائة ونيف وعشرون نفسًا.
وأَما نقلة الحديث عنه: فقد جمعت فيهم المصنفات، وساقهم الأئمة الثقات، وقال الأَثرم: قلت يوما - ونحن عند أَبي عبيد القاسم ابن سلام - في مسألة. فقال بعض من حضر هذا قول من؟ فقلت: من ليس بغرب ولا شرق أكبر منه: أَحمد بن حنبل. قال أَبو عبيد: صدق.
وقال إِسحاق بن راهويه: سمعت يحيى بن آدم يقول: أَحمد بن حنبل إِمامنا. وقال أبو ثور أحمد بن حنبل: أَعلم من الثوري وأَفقه.
وأَما الخصله الثالثة، وهي قوله:" إِما في اللغة "، فهو كما قاله.
قال المروزي: كان أَبو عبد الله لا يلحن في الكلام، ولما نوظر بين يدي الخليفة كان يقول: كيف أَقول ما لم يُقَل؟
وقال أَحمد - فيما رواه عنه محمد بن حبيب -: كتبت من العربية أَكثر مما كتب أَبو عمرو بن العلاء، وكان يُسأل عن أَلفاظ من اللغة تتعلق بالتفسير والأخبار فيجيب عن ذلك بأوضح جواب، وأفصح خطاب
فروى عبد الله بن أَحمد: سألت أَبي عن حديث إسماعيل ابن عُلَيَّة عن أَيوب عن أَبي معشر قال: " يكره التكفير في الصلاة "؟ قال أَبي: التكفير أَن يضع يمينه عند صدره في الصلاة.
وقال عبد الله أيضا: قرأت على أَبي: أَبو خالد الأَحمر عن ابن جريج عن عطاء قال: " في الوطواط ثلثي درهم " سألت أَبي عن الوطواط؟ قال: هو الخُطَّاف.
وقال عبد الله أيضا: سألت أَبي عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المجبر؟ فقال: يعني ما في الأَرحام.
وقال عبد الله أيضا: سئل أَبي عن حَبل الحَبَلة؟ قال: التي في بطنها إذا وضعت وتحمل، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه لأَنه غرر، يقول: نتاج الجنين.
وقال عبد الله بن أَحمد أيضا: سمعت أَبي في حديث ابن مسعود: " كفى بالمَعْك ظلمًا " قال أَبي: المعك: المطْل.
وقال عبد الله بن أَحمد: حدَّثني أَبي حدَّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير " كان رجل يداين الناس، له كاتب ومتجاز " قال أَبي: " المتجازي " المتقاضي.
وقال حرب الكرماني: قلت لأَحمد: ما تفسير " لا تقضية في ميراث إلَّا ما حمل القَسْم "؟ قال: إِن كان شيئًا إِن قسم أضَرَّ بالورثة، مثل الحمام وغير ذلك مما لا يمكن قَسْمه.
وأما الخصلة الرابعة، وهي قوله:" إمام في القرآن " فهو واضح
لا يمكن البيان، لائح البرهان. قال أَبو الحسين بن المنادي: صنف أَحمد في القرآن: التفسير، وهو مائة أَلف وعشرون أَلفًا، يعني حديثاَ، والناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى، وجواب القرآن، وغير ذلك.
وقال عبد الله بن أَحمده كان أَبي يقرأ القرآن في كل أسبوع ختمتين، إِحداهما بالليل، والأخرى بالنهار.
وقد ختم إِمامنا أَحمد القرآن في ليلة بمكة مصليًا به.
وأَما الخصلة الخامسة، وهي قوله:" إِمام في الفقر " فيا لها من خَلة مقصودة، وحالة محمودة، منازل السادة الأَنبياء، والصفوة الأَتقياء.
أَنبأنا الوالد السعيد بإِسناده عن أَبي جعفر في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ)[الفرقان/75] قال: الجنة (بِمَا صَبَرُوا) قال: على الفقر في الدنيا. وبإِسناده عن أَبي بَرْزة الأَسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أَغنيائهم بمقدار أَربعين خريفاً، حتى يتمنى أَغنياء المسلمين يوم القيامة أَنهم كانوا في الدنيا فقراء ". وبإِسناده عن أَبي سعيد الخدري قال: سمعته النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم توفني فقيرا، ولا تتوفني غنيًا ". وبإِسناده عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الفقر على المؤمن أَزين من العذار على خد الفرس ". وأخبرنا بهذا الحديث جدي جابر قال: أَخبرنا أبو طاهر المخلص، حدثنا محمد بن العباس بن الفضل المروزي أبو جعفر، حدثنا أبي، حدَّثنا إسحاق بن بشر، حدَّثنا شريك عن أبي
إِسحاق السَّبيعي، عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الفقر على المؤمن أزين من العذار على خَدِّ الفرس ". وبإِسناده عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القه فقيرًا ولا تلقه غنياَ. قال: فقلت: كيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: إذا رزقت فلا تَخْبأ، وإذا سُئلت فلا تمنع. قال: قلت: وكيف لي بذلك، يا رسول الله؟ قال: هو ذاك، وإلًا فهو النار ".
وأَما الخصلة السادسة، وهي قوله:" إِمام في الزهد " فحاله في ذلك أَظهر وأَشهر أَتته الدنيا فأَباها، والرياسة فنفاها، عرضت عليه الأَموال، وفرضت عليه الأَحوال، وهو يرد ذلك بتعفُّف وتعلُّل وتقلُّل. ويقول: قليل الدُّنيا يجزي وكثيرها لا يجزي، ويقول: أَنا أَفرح إذا لم يكن عندي شيء. ويقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأَيام قلائل.
وقال إِسحاق بن هانئ: بكَّرت يومًا لأعارض أَحمد بالزهد، فبسطت له حصيرًا ومَخَدَّة، فنظر إلى الحصير والمخدة، فقال: ما هذا؟ قلت: لتجلس عليه فقال: ارفعه، الزهد لا يحسن إلَّا بالزهد فرفعته، وجلس على التراب.
وقال أَبو عمير عيسى بن محمد بن عيسى- وذكر عنده أَحمد ابن حنبل- فقال: رحمه الله، عن الدنَيا ما كان أَصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدُّنيا فأباها " والبدع فنفاها.
وأَما الخصلة السابعة، وهي قوله:" إِمام في الورع " فصدق في قوله وبرع، فمن بعض ورعه:
قال أَبو عبد الله السمسار كانت لأم عبد الله بن أَحمد دار معنا في الدرب، يأخذ منها أَحمد درهمًا بحق ميراثه، فاحتاجت إلى نفقة لتصلحها، فأَصلحها ابنه عبد الله، فترك أَبو عبد الله أَحمد الدرهم الذي كان يأخذه، وقال: قد أَفسده علي.
قلت: إِنَّما تورع من أخذ حقه من الأجرة، خشية أَن يكون ابنه أَنفق على الدار مما يصل إليه من مال الخليفة.
ونهى ولديه وعمه عن أَخذ العطاء من مال الخليفة، فاعتذروا بالحاجة، فهجرهم شهرًا لأَخذ العطاء. ووصف له دهن اللوز في مرضه، قال حنبل: فلما جئناه به، قال: ما هذا؟ قلنا: دهن اللوز فأَبى أَن يذوقه وقال: الشّيرج. فلما ثقل واشتدت علته جئناه بدهن اللوز فلما تبين أَنه دهن اللوز كرهه ودفعه، فتركناه ولم نَعُد له. ووصف له في علته قَرعة تشوى ويؤخذ ماؤها، فلما جاءوا بالقرعة قال بعض من حضر اجعلوها في تَنور صالح، فإنهم قد خبزوا، فقال بيده: لا وأَبى أَن يوجه بها إلى منزل صالح، قال حنبل: ومثل هذا كثير
قال حنبل: وأخبرني أبي - يعني إسحاق عم أحمد - قال: لما وصلنا العسكر أنزلنا السلطان دارًا لإيتاخ ولم يعلم أبو عبد الله، فسأل بعد ذلك: لمن هذا الدار؟ فقالوا: هذه دار لإيتاخ، فقال: حولوني
واكتروا لي دارًا، قالوا: هذه دار أَنزلكها أَمير المؤمنين. فقال: لا أبيتُ هاهنا، فاكترينا له دارًا غيرها، وتحول عنها وكانت تأتينا في كل يوم مائدة أَمر بها المتوكل، فيها ألوان الطعام والفاكهة والثلج وغير ذلك، فما نظر إليها أَبو عبد الله، ولا ذاق منها شيئًا، وكانت نفقة المائدة في كل يوم مائة وعشرين درهمًا، فما نظر إليها أَبو عبد الله، ودامت العلة بأَبي عبد الله، وضعف ضعفا شديدًا، وكان يواصل، فمكث ثمانية أَيام مواصلًا لا يأكل ولا يشرب، فلما كان في اليوم الثامن كاد أَن يطفأ، فقلت: يا أَبا عبد الله، ابن الزبير كان يواصل سبعة أَيام، وهذا لك اليوم ثمانية أَيام، فقال: إِنِّي مطيق. قلت: بحَقي عليك. فقال. إِن حَلَّفتني بحقك فإِني أَفعل، فأَتيته بسويق فشرب. وأَجرى المتوكل على ولده وأَهله أَربعة آلاف درهم في كل شهر، فبعث إِليه أَبو عبد الله: إِنهم في كفاية، فبعث إِليه المتوكل: إِنما هذا لولدك، مالك ولهذا؟ فقال له أَحمد: يا عمِّ، ما بقي من أَعمارنا؟ كأَنك بالأَمر قد نزل، فالله الله، فإِن أَولادنا إِنما يريدون يتأملون بنا، وإنما هي أَيام قلائل، لو كشف للعبد عما قد حجب عنه لعرف ما هو عليه من خير أَو شر، صبر قليل، وثواب طويل، إِنما هذ فتنة. فلما طالت علة أَحمد كان المتوكل يبعث بابن ماسَويه المتطبب، فيصف له الأَدوية، فلا يتعالج، فدخل ابن ماسَويه على المتوكل، فقال له المتوكل: ويحك، ابن حنبل، ما نجح فيه الدواء؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، إِن أحمد بن حنبل ليست به علة في بدنه، إنما هذا من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة، فسكت المتوكل
ولما توفي أَحمد وَجَّه ابن طاهر الأَكفان، فردت عليه. وقال عم أَحمد للرسول: قل له: أَحمد لم يدع غلامي يُرَوِّحه، يعني خشية أَن أَكون اشتريته من مال السلطان، فكيف نكفنه بمالك؟.
وقال ابن المنادي: امتنع أحمد من التحديث قبل أَن يموت بثمان سنين، أو أَقل، أو أكثر وذلك: أَن المتوكل وجه يقرأ عليه السلام، ويسأله أَن يجعل المعتز في حجره، ويعلمه العلم، فقال للرسول: اقرأ على أَمير المؤمنين السلام، وأَعلمه أَن عليَّ يمينًا: أَني لا أتم حديثًا حتى أَموت، وقد كان أَعفاني مما أَكره، وهذا مما أَكره.
وقال المروزي: سمعت أَحمد يقول: الخوف قد منعني أَكل الطعام والشراب فما أشتهيه.
وكان أَحمد يزرع داره التي يسكنها، ويخرج عنا الخراج الذي وظفه عمر رضي الله عنه على السواد.
وكان أَحمد إذا نظر إلى نصراني غمض عينيه، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أَقدر أَنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه.
وقال إِسحاق عم أحمد: دخلت على أَحمد ويده تحت خده، فقلت له: يا ابن أَخي: أي شيء هذا الحزن؟ فرفع رأسه وقال: طوبى لمن أَخمل الله ذكره.
وقال إسماعيل بن حرب: أُحْصِيَ ما رَدَّ أَحمد بن حنبل حين جيء به إلى العسكر فإذا هو سبعون ألفاً.
وقال صالح بن أحمد: كان أبي لا يدع أحدا يستقي له الماء لوضوئه.
وأَما الخصلة الثامنة، وهي قوله:" إِمام في السنة "(1) فلا يختلف العلماء الأوائل والأَواخر أَنه في السنة: الإمام الفاخر والبحر الزاخر أوذي في الله عز وجل فصبر، ولكتابه نصر ولسنة رسول الله صلى عليه وسلم انتصر، أَفصح الله فيها لسانه، وأَوضح بيانه، وأَرجح ميزانه، لا رَهَب ما حُذِّر ولا جَبُن حين أُنذر أَبان حقاً، وقال صدقاً، وزان نطقاً وسبقاً، ظهر على العلماء، وقهر العظماء، ففي الصادقين ما أَوجهه، وبالسابقين ما أَشبهه، وعن الدنيا وأَسبابها ما كان أَنزهه، جزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين فهو للسنة كما قال الله في كتابه المبين:(وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[الصف: 13] .
قال علي بن المديني: أيَّد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما:
أبو بكر الصديق يوم الردِّة وأحمد بن حنبل في يو المحنة.
وقيل لبشر بن الحارث، يوم ضُرِب أَحمد: قد وجب عليك أَن تتكلم فقال: تريدون مني مقام الأَنبياء؟ ليس هذا عندي، حفظ الله أحمد بن حنبل من بين يديه ومن خلفه. ثم قال، بعد ما ضرب أَحمد: لقد أدخل الكير فخرج ذهبة حمراء.
وقال الربيع بن سليمان: قال الشافعي: من أَبغض أَحمد بن حنبل فهو كافر.
(1) انظر: الفتاوى: 3/ 358 ففيها بيان سبب قرن الإمامة باسمه، وأيضا: ص/ 170، ومعنى قول المغاربة: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل.
فقلت: تطلق عليه اسم الكفر؟ فقال: نعم، من أَبغض أَحمد بن حنبل عاند السنة، ومن عاند السنة قصد الصحابة، ومن قصد الصحابة أَبغض النبي، ومن أَبغض النبي صلى الله عليه وسلم كفر بالله العظيم.
وقال أَحمد بن إِسحاق بن راهويه: سمعت أبي يقول: لولا أَحمد بن حنبل وبَذْلُ نفسه لما بذلها؛ لذهب الِإسلام.
وقال عبد الوهاب الوراق: أَبو عبد الله أحمد بن حنبل إمامنا، وهو من الراسخين في العلم. إذا وقفت غدا بين يدي الله تعالى فسألني: بمن اقتديت؟ أقول: أحمد. وأي شيء ذهب على أبي عبد الله من أمر الإسلام؟ وقد بلي عشرين سنة في هذا الأَمر.
وأنبأنا محمد بن الأَبنوسي عن الدارقطني. قال: أخبرنا محمد ابن مخلد قال:
سمعت العباس الدُّري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: أَراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا نقدر على أحمد، ولا على طريق أحمد.
وحدثنا الوالد السعيد - إملاء بجامع المنصور - عن عبد الله بن عبد الرحمن أن عبد الله بن إِسحاق المدائني حدثه قال: حدثنا أَبو الفضل الوراق قال: حدثني أَحمد بن هانئ عن صدقة المقابري، قال: كان في نفسي على أحمد بن حنبل، قال: فرأيت في النوم كأن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في طريق، وهو آخذ بيد أحمد بن حنبل، وهما يمشيان على تؤدة ورفق، وأنا خلفهما أَجد نفسي في أن أَلحق بهما
فما أَقدر، فلما استيقظت ذهب ما كان في نفسي، ثم رأيت بعد كأَني في الموسم، وكأَن الناس مجتمعون. فنادى مناد: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فنادى: يَؤُمكم أَحمد بن حنبل، فإِذا أَحمد ابن حنبل، فصلى بالناس، وكنت بعدُ إذا سُئلت عن شيء؟ قلت: عليكم بالإمام، يعني أَحمد بن حنبل.
فهذه الثمان التي ذكرها الشافعي، ويقرن بها أيضا ثمان خصال انفرد بها:
إِحداها: الإجماع على أصوله التي اعتقدها، والأَخذ بصحة الأَخبار التي اعتمدها، حتى إِنَّ من زاغ عن هذا الأَصل كفروه، وحذروا منه وهجروه، فانتهت إِليه فيها الحجة، ووقفت دونه المحجة، واِن كانت كذلك مذاهب المتقدمين من أهل السنة والدين، فصار إِمامًا متبعًا، وعلماً متلمعاً، وما أَشبهه بالقراءات المأثورة عن السلف، ثم انتهت إلى القراء السبعة خير الخلف.
الثانية: اتفاق الأَلسن عليه بالصلاح، وإليه يشار بالتوفيق والفلاح، فإِذا ذكر بحضرة الكافة من العلماء على اختلاف مذاهبهم في مجالسهم أو مدارسهم قالوا: أَحمد رجل من أهل الحديث صالح، لعمري إِنهما خلتان جليلتان، سأل الصلاح الأَنبياء، والتمسه الأصفياء، قال الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام:(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[الشعراء/ 83] ، وفي قصة سليمان عليه
السلام (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[النمل/19] .
الثالثة: أَنه ما أحبه أحد- إما محب صادق وإما عدو منافق- إلاّ وانتفت عنه الظنون، وأُضيفت إِليه السنن، ولا انزوى عنه رفضا، وظهر له عنادا وبغضا؛ إلَّا واتفقت الأَلسن على ضلالته، وسفه في عقله وجهالته، وقد قدمنا قول الشافعي: من أَبغض أَحمد بن حنبل فقد كفر ".
وقال قتيبة بن سعيد: أَحمد بن حنبل إمامنا، من لم يرض به فهو مبتدع.
الرابعة: ما ألقى الله عز وجل له في قلوب الخلق من هيبة أَصحابه ومحبيه، أَهل مذهبه ومخالصيه، فلهم التعظيم والِإكبار، والمعروف والِإنكار، والمصالح والأَعمال، والمقال والفِعال. بَسْطتهم سامية، وسَطوتهم عَالية، فالموافق التقي يكرمهم ديانة ورياسة، والمنافق الشقي يعظمهم رعاية وسياسة. ولما ذكر لأَمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله- رحمه الله بعد موت إِمامنا أَحمد- غفر الله لنَا وله- أَن أَصحاب إمامنا يأتون على أهل البدع حتى يكون بينهما الشر فقال لصاحب الخبر لاترفع إِليَّ من خَبرهم شَيئا وَشُدَّ على أَيديهم، فإنهم وصاحبَهم من سادات أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد عرف الله تعالى لأحمد صبره، وبلاءه، ورفع عَلَمهُ أيام حَياته وبعد موته، أصحابه أَجلَّ الأصحاب، وأنا أظن أَن الله يعطي
أَحمد ثوابَ الصدّيقين.
الخامسة: ما أَحدٌ من أَصحابه المتمسكين بمعتقده قديما وحديثًا، تابع ومَتبوع، إِلَاّ وهو من الطعن سليم، ومن الوهن مستقيم، لا يضاف إِليه ما يضاف إلى مخالف، ومجانف، من وَسْمٍ ببدعة، أو رسم بشنعة، أو تحريف مقال، أو تقبيح فعال.
السادسة: اتفاق القول الأَخير والقديم: أَن له الاحتياط في التحليل والتحريم، يعتمد في فقه على العزائم، كما لم تأخذه في أصوله المقربة إلى الله عز وجل لومة لائم، يعتمد على كتاب ناطق، أو خبر موافق، أو قول صحابي جليل صادق، ويقدم ذلك على الرأي والقياس.
السابعة: أَن كلام أَحمد في أهل البدع مسموع، وإليه فيهم الرجوع. فمن ظهر في قوله نكيره، ولما يعتقده تغييره: فقد ثبت تكفيره، مثل ما قال في اللفظيه والمرجئة والرافضة والقدرية والجهمية، وإن كان قد سبق النطق بضلالهم، لكن له القدَم العالي في شرح فساد مذاهبهم، وبيان قبيح مثالبهم، والتحذير من ضلالهم.
الثامنة: ما أَظهره الله تعالى له في حياته من المراتب، ونشر له بعد مماته من المناقب، ورفع له بذلك العلم بين سائر الأمم، فتنافس حين موته في الصلاة عليه العلماء والكبراء، والأغنياء والفقراء، والصلحاء والأولياء، لأنه توفي في شهر ربيع الآخر من سنة
إِحدى وأَربعين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة، فقال المتوكل على الله لمحمد بن عبد الله بن طاهر: طوبى لك، صليت على أحمد ابن حنبل.
وروى الأَئمة الثقات، والحفاظ الأَثبات: أَن عبد الوهاب الوراق قال: " ما بلغنا أَنه كان للمسلمين جمع أَكبر منهم على جنازة أَحمد ابن حنبل، إلَّا جنازة في بني إسرائيل " انتهى بطوله.