المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأصل الثامن: وحدة اللغة، ووجهها: أنه لا يمكن أن يتم الاتحاد - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ ‌الأصل الثامن: وحدة اللغة، ووجهها: أنه لا يمكن أن يتم الاتحاد

‌الأصل الثامن:

وحدة اللغة، ووجهها: أنه لا يمكن أن يتم الاتحاد والإخاء بين الناس وصيرورة الشعوب الكثيرة أمة واحدة إلا بوحدة اللغة «1» وما زال الحكماء الباحثون فى مصالح البشر العامة يتمنّون لو يكون لهم لغة واحدة مشتركة، يتعاونون بها على التعارف والتآلف، ومناهج التعليم والآداب، والاشتراك فى العلوم والفنون والمعاملات الدنيوية، وهذه الأمنية قد حققها الإسلام بجعل لغة الدين والتشريع والحكم لغة جميع المؤمنين به والخاضعين لشريعته. إذ يكون المؤمنون مسوقين باعتقادهم ووجدانهم إلى معرفة لغة كتاب الله وسنة رسوله لفهمهما والتعبد بهما، والاتحاد بأخوتهم فيهما، وهما مناط سيادتهم، وسعادتهم فى الدنيا والآخرة، ولذلك كرّر فى القرآن بيان كونه كتابا عربيا، وحكما عربيا، وكرر الأمر بتدبره والتفقه فيه، والاتعاظ والتأديب به، وأما غير المؤمنين فيتعلمون لغة الشرع الذى يخضعون لحكمه، والحكومة التى يتبعونها لمصالحهم الدنيوية كما هى عادة البشر فى ذلك، وكذلك كان الأمر فى الفتوحات الإسلامية العربية كلها.

وقد فصّلت فى المنار والتفسير مسألة وجوب تعلم اللغة العربية فى دين الإسلام وكونه مجمعا عليه بين المسلمين كما قرره الإمام الشافعى رضى الله عنه فى رسالته، وهو الذى جرى عليه العمل فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ثم خلفاء الأمويين والعباسيين إلى أن كثر الأعاجم، وقلّ العلم، وغلب الجهل، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه الله فى العبادات من القرآن والأذكار «2» .

الشواهد من السنّة على وحدة الجنس واللغة: كان النبى صلى الله عليه وسلم ينكر على المسلمين كل نوع من أنواع التفرقة الذى ينافى وحدتهم وجعلهم أمة واحدة كالجسد الواحد كما شبههم بقوله: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» . رواه الإمام أحمد من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه، وكان يخص بمقته وإنكاره التفرق فى الجنس النسبى أو اللغة. أما الأول فمشهور ومنه أن أبا ذر رضى الله عنه وهو من السابقين الأولين المتقين تغاضب مع بلال الحبشى مولى أبى بكر رضى الله عنه وتسابا فقال

(1) المراد أنه لا يمكن هذا مع حرية الدين التى قررها الإسلام إلا باللغة.

(2)

راجع ذلك فى ص 310 من الجزء التاسع تفسير المنار.

ص: 190

أبو ذر: يا ابن السوداء، فشكاه بلال إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال لأبى ذر:«أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية» . رواه البخارى فى مواضع، ومسلم بدون ذكر اسم بلال، ولفظ البخارى فى كتاب الأدب عن أبى ذر: كان بينى وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرنى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال لى: «أساببت فلانا؟» . قلت: نعم. قال: «أفنلت من أمه؟» . قلت:

نعم. قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . قلت: على ساعتى هذه من كبر السن؟ قال: «نعم هم إخوانكم» . إلخ الحديث .. وسيأتى فى الوصية بالرقيق، وروى أن أبا ذر تاب توبة نصوحا حتى أمر بلالا أن يطأ على وجهه.

وأما الثانى فيجمعه مع الأول ما رواه الحافظ بن عساكر بسنده إلى مالك عن الزهيرى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسى وصهيب الرومى وبلال الحبشى فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا؟ (يعنى- هذا المنافق- بالرجل النبى صلى الله عليه وسلم وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه، فما بال الذى يدعو الفارسى والرومى إلى نصره؟)، فقام إليه معاذ بن جبل رضى الله عنه فأخذ بتلبيبته «1» ؛ ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام النبى صلى الله عليه وسلم مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودى: إن الصلاة جامعة «2» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«يا أيها النّاس إنّ الربّ واحد، والأبّ واحد، وإنّ الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنّما هى اللّسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربىّ» . فقام معاذ فقال: فما تأمرنى بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النّار» ، فكان قيس ممن ارتد فى الردة فقتل.

أرأيت لو ظل المسلمون على هذه التربية المحمدية أكان وقع بينهم من الشقاق والحروب باختلاف الجنس واللغة كل ما وقع وأدى بهم إلى هذا الضعف العام؟ أرأيت لو حافظوا على هذه الأخوة الإسلامية أكانت حدثت فيهم تلك الشعوبية المجوسية الأولى، وهذه العصبية التركية الأخرى؟ كلا إنهم لو حافظوا عليهما لعمموا أخواتها، ولأصلحوا بها شعوب الأرض كلّها.

يعترض بعض أولى النظر القصير، والبصر الكليل على توحيد اللغة فى الشعوب المختلفة بأنه خلاف طبيعة البشر، ويرد عليهم بأنّ توحيد الدين أبعد من توحيد الله عن

(1) اللبب بفتحتين موضع النحر، وتلبيه ما على لببه ونحره من الثياب أى قبض عليه وجذبه بها.

(2)

هذه الجملة يدعى بها إلى صلاة العيدين وكل اجتماع عام فى المسجد بلفظ «الصلاة جامعة» ولفظ الصلاة فيها منصوب بتقدير احضروا الصلاة، أو الزموها.

ص: 191

طبيعة البشر إن أريد بالبشر جميع أفرادهم، وأن الحكماء ما زالوا يسعون لجمع البشر على لغة واحدة مشتركة، مع علمهم أن ترقى بعض اللغات بترقى أهلها فى العلوم والفنون والسياسة والقوة والعصبية يستحيل معه أن يرغبوا عنها إلى غيرها، ولم يسع أحد منهم لجمعهم على دين واحد، وأنّ القرآن الذى شرع توحيد الدين مع شرعه ولغته لجميع البشر.

قد علمنا أن حكمة الله تعالى فى خلق الإنسان تأبى أن يكون الناس كلهم أمة واحدة تدين بدين واحد قال الله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] وإنما دعاهم إلى هذه الرحمة ليقل الشقاء الذى يثيره الخلاف فيهم: هذا الخلاف الذى جعل أعظم شعوب الأرض وأرقاهم فى العمران يبذلون فى هذا العهد أكثر ما تستغله شعوبهم من ثروة العالم فى سبيل الحروب التى تنذر عمرانهم الخراب والدمار.

فإذا كان مقتضى طبع البشر أن لا يتفقوا كلهم على شىء واحد من لغة ولا دين ولا غيرهما من الأمور التى تختلف فيها الآراء، فهذا لا يمنع دعوتهم كلهم إلى الحق والخير، ولا بد أن يستجيب خيارهم على قاعدة غلب الحق على الباطل.

وقد استشكل هذا بعض العلماء من حيث المخاطب بتنفيذه، فقلت لهم: إن المخاطب بتعميم لغة الإسلام، هم أولو الأمر المخاطبون بتعميم دعوة الإسلام وإقامة شرع الإسلام، وقد جرى على ذلك الصحابة والخلفاء من بعدهم كما تقدم.

دعا الإسلام البشر كلهم إلى دين واحد يتضمن توحيد اللغة وغيرهما من مقومات الأمم فكانوا يدخلون فيه أفواجا، حتى امتدّ فى قرن واحد ما بين المحيط الغربى إلى أقصى الهند أو الصين، ولولا ما طرأ عليه من الابتداع، وعلى حكوماته من الظلم والاستبداد، وعلى شعوبه من الجهل والفساد، والتفرق بالاختلاف. لدخل فيه أكثر البشر، ولصارت لغته لغة لكل من دخل فى حظيرته من الأمم فمن غرائزهم اختيار الأفضل إذا عرفوه، بل علمنا القرآن أن هذه سنة عامة. فى الاجتماع البشرى، بل فى كل تنازع بين الحق والباطل، والنافع والضار، والصالح والفاسد، إنما يكون الغلب للأفضل والثبات والبقاء للأمثل، فراجع الآيات فى دمغ الحق للباطل، ثم اعتبر فيه بهذا المثل الماثل: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد: 17].

ص: 192

قال أحد كبار العلماء الألمان فى الآستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنه ينبغى لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبى سفيان فى ميدان كذا من عاصمتنا (برلين). قيل له لماذا؟ قال: لأنه هو الذى حوّل نظام الحكم الإسلامى عن قاعدته الديمقراطية على عصبية الغلب، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كلّه، وإذن لكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عربا مسلمين.

قد أعجبت هذا الألمانى عصبيته القومية، وخيلاؤه الأوروبيّة، التى عتلت قومه وجيرانهم إلى جحيم الحرب الأخيرة عتلا «1» فأخسرت أوروبا عشرين مليونا من الرجال، وألوف الملايين من الأموال، وباء فيها قومه بالخزى والنكال، وسيطرة الاستذلال، وإنما كان كره أن يكونوا قد اهتدوا بالإسلام، بما صرفت بصره وعصبيّته الألمانية، عن رؤية المصلحة الإنسانية الجامعة، ولو نظر فيها فأبصرها لعلم أنّ الأفضل والأمثل والأكمل للبشر توحيد شعوبهم بحيث يتفاضلون بعلوم أفرادهم وأعمالهم، لا بأنسابهم وأوطانهم ولغاتهم المفرقة بينهم، وهو قد علم من قبل أن هذه الجامعة الإنسانية لا سبيل إليها إلا بهداية الإسلام فلا تنال إلا به، ولو اهتدت به أوروبا اليوم لزالت أضغانها، ووجهت علومها وفنونها إلى إسعاد البشر وعمارة الأرض كلها، فإنّ إصرار الإفرنج على الكبرياء بجلدتهم البيضاء واحتقارهم للسود والحمر والسمر والصفر وهضمهم لحقوقهم، واستباحتهم لظلمهم. لمن أكبر العار على حضارتهم، وإن استثناءهم للأصفر اليابانى أخيرا من هذا الاحتقار، لما يلطخهم بعار فوق عار، وإن حضارة الإسلام الإنسانية الجامعة لتعلو عليها ألوف من الأميال لا الأمتار.

فهل يعقل أن يكون تقرير هذه الأصول التى توحّد الأمم والشعوب وتؤلف بينها بما يجمع كلمتهم عليها بالوازع النفسى لا بالقهر العسكرى من رأى أو إلهام نبع من نفس محمد الأمى فى سن الكهولة ففاق بها جميع الأنبياء والحكماء؟ أم الأقرب إلى العقل أن تكون بوحى من الله تعالى أفاضه عليه صلى الله عليه وسلم؟ «2» .

(1) عتله إلى الشيء أو المكان جره بقهر ودفعه إليه بعنف.

(2)

قولنا إن هذا أقرب إلى العقل مفهومه أن مقابله وهو أنه من رأى محمد صلى الله عليه وسلم ممكن أيضا وإن فاق به جميع الأنبياء والحكماء وهو من باب التساهل وإرخاء العنان ولا يمكن أن يقال مثله فى كل مقصد من هذه المقاصد العشرة، فما بالك بها كلها، وهل يعقل أن تكون آراء حدثت لأمى فى سن الكهولة فقررها ونفذها؟ كلا.

ص: 193