الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثامن:
وحدة اللغة، ووجهها: أنه لا يمكن أن يتم الاتحاد والإخاء بين الناس وصيرورة الشعوب الكثيرة أمة واحدة إلا بوحدة اللغة «1» وما زال الحكماء الباحثون فى مصالح البشر العامة يتمنّون لو يكون لهم لغة واحدة مشتركة، يتعاونون بها على التعارف والتآلف، ومناهج التعليم والآداب، والاشتراك فى العلوم والفنون والمعاملات الدنيوية، وهذه الأمنية قد حققها الإسلام بجعل لغة الدين والتشريع والحكم لغة جميع المؤمنين به والخاضعين لشريعته. إذ يكون المؤمنون مسوقين باعتقادهم ووجدانهم إلى معرفة لغة كتاب الله وسنة رسوله لفهمهما والتعبد بهما، والاتحاد بأخوتهم فيهما، وهما مناط سيادتهم، وسعادتهم فى الدنيا والآخرة، ولذلك كرّر فى القرآن بيان كونه كتابا عربيا، وحكما عربيا، وكرر الأمر بتدبره والتفقه فيه، والاتعاظ والتأديب به، وأما غير المؤمنين فيتعلمون لغة الشرع الذى يخضعون لحكمه، والحكومة التى يتبعونها لمصالحهم الدنيوية كما هى عادة البشر فى ذلك، وكذلك كان الأمر فى الفتوحات الإسلامية العربية كلها.
وقد فصّلت فى المنار والتفسير مسألة وجوب تعلم اللغة العربية فى دين الإسلام وكونه مجمعا عليه بين المسلمين كما قرره الإمام الشافعى رضى الله عنه فى رسالته، وهو الذى جرى عليه العمل فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ثم خلفاء الأمويين والعباسيين إلى أن كثر الأعاجم، وقلّ العلم، وغلب الجهل، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه الله فى العبادات من القرآن والأذكار «2» .
الشواهد من السنّة على وحدة الجنس واللغة: كان النبى صلى الله عليه وسلم ينكر على المسلمين كل نوع من أنواع التفرقة الذى ينافى وحدتهم وجعلهم أمة واحدة كالجسد الواحد كما شبههم بقوله: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» . رواه الإمام أحمد من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه، وكان يخص بمقته وإنكاره التفرق فى الجنس النسبى أو اللغة. أما الأول فمشهور ومنه أن أبا ذر رضى الله عنه وهو من السابقين الأولين المتقين تغاضب مع بلال الحبشى مولى أبى بكر رضى الله عنه وتسابا فقال
(1) المراد أنه لا يمكن هذا مع حرية الدين التى قررها الإسلام إلا باللغة.
(2)
راجع ذلك فى ص 310 من الجزء التاسع تفسير المنار.
أبو ذر: يا ابن السوداء، فشكاه بلال إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال لأبى ذر:«أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية» . رواه البخارى فى مواضع، ومسلم بدون ذكر اسم بلال، ولفظ البخارى فى كتاب الأدب عن أبى ذر: كان بينى وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرنى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال لى: «أساببت فلانا؟» . قلت: نعم. قال: «أفنلت من أمه؟» . قلت:
نعم. قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . قلت: على ساعتى هذه من كبر السن؟ قال: «نعم هم إخوانكم» . إلخ الحديث .. وسيأتى فى الوصية بالرقيق، وروى أن أبا ذر تاب توبة نصوحا حتى أمر بلالا أن يطأ على وجهه.
وأما الثانى فيجمعه مع الأول ما رواه الحافظ بن عساكر بسنده إلى مالك عن الزهيرى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسى وصهيب الرومى وبلال الحبشى فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا؟ (يعنى- هذا المنافق- بالرجل النبى صلى الله عليه وسلم وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه، فما بال الذى يدعو الفارسى والرومى إلى نصره؟)، فقام إليه معاذ بن جبل رضى الله عنه فأخذ بتلبيبته «1» ؛ ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام النبى صلى الله عليه وسلم مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودى: إن الصلاة جامعة «2» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«يا أيها النّاس إنّ الربّ واحد، والأبّ واحد، وإنّ الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنّما هى اللّسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربىّ» . فقام معاذ فقال: فما تأمرنى بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النّار» ، فكان قيس ممن ارتد فى الردة فقتل.
أرأيت لو ظل المسلمون على هذه التربية المحمدية أكان وقع بينهم من الشقاق والحروب باختلاف الجنس واللغة كل ما وقع وأدى بهم إلى هذا الضعف العام؟ أرأيت لو حافظوا على هذه الأخوة الإسلامية أكانت حدثت فيهم تلك الشعوبية المجوسية الأولى، وهذه العصبية التركية الأخرى؟ كلا إنهم لو حافظوا عليهما لعمموا أخواتها، ولأصلحوا بها شعوب الأرض كلّها.
يعترض بعض أولى النظر القصير، والبصر الكليل على توحيد اللغة فى الشعوب المختلفة بأنه خلاف طبيعة البشر، ويرد عليهم بأنّ توحيد الدين أبعد من توحيد الله عن
(1) اللبب بفتحتين موضع النحر، وتلبيه ما على لببه ونحره من الثياب أى قبض عليه وجذبه بها.
(2)
هذه الجملة يدعى بها إلى صلاة العيدين وكل اجتماع عام فى المسجد بلفظ «الصلاة جامعة» ولفظ الصلاة فيها منصوب بتقدير احضروا الصلاة، أو الزموها.
طبيعة البشر إن أريد بالبشر جميع أفرادهم، وأن الحكماء ما زالوا يسعون لجمع البشر على لغة واحدة مشتركة، مع علمهم أن ترقى بعض اللغات بترقى أهلها فى العلوم والفنون والسياسة والقوة والعصبية يستحيل معه أن يرغبوا عنها إلى غيرها، ولم يسع أحد منهم لجمعهم على دين واحد، وأنّ القرآن الذى شرع توحيد الدين مع شرعه ولغته لجميع البشر.
قد علمنا أن حكمة الله تعالى فى خلق الإنسان تأبى أن يكون الناس كلهم أمة واحدة تدين بدين واحد قال الله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] وإنما دعاهم إلى هذه الرحمة ليقل الشقاء الذى يثيره الخلاف فيهم: هذا الخلاف الذى جعل أعظم شعوب الأرض وأرقاهم فى العمران يبذلون فى هذا العهد أكثر ما تستغله شعوبهم من ثروة العالم فى سبيل الحروب التى تنذر عمرانهم الخراب والدمار.
فإذا كان مقتضى طبع البشر أن لا يتفقوا كلهم على شىء واحد من لغة ولا دين ولا غيرهما من الأمور التى تختلف فيها الآراء، فهذا لا يمنع دعوتهم كلهم إلى الحق والخير، ولا بد أن يستجيب خيارهم على قاعدة غلب الحق على الباطل.
وقد استشكل هذا بعض العلماء من حيث المخاطب بتنفيذه، فقلت لهم: إن المخاطب بتعميم لغة الإسلام، هم أولو الأمر المخاطبون بتعميم دعوة الإسلام وإقامة شرع الإسلام، وقد جرى على ذلك الصحابة والخلفاء من بعدهم كما تقدم.
دعا الإسلام البشر كلهم إلى دين واحد يتضمن توحيد اللغة وغيرهما من مقومات الأمم فكانوا يدخلون فيه أفواجا، حتى امتدّ فى قرن واحد ما بين المحيط الغربى إلى أقصى الهند أو الصين، ولولا ما طرأ عليه من الابتداع، وعلى حكوماته من الظلم والاستبداد، وعلى شعوبه من الجهل والفساد، والتفرق بالاختلاف. لدخل فيه أكثر البشر، ولصارت لغته لغة لكل من دخل فى حظيرته من الأمم فمن غرائزهم اختيار الأفضل إذا عرفوه، بل علمنا القرآن أن هذه سنة عامة. فى الاجتماع البشرى، بل فى كل تنازع بين الحق والباطل، والنافع والضار، والصالح والفاسد، إنما يكون الغلب للأفضل والثبات والبقاء للأمثل، فراجع الآيات فى دمغ الحق للباطل، ثم اعتبر فيه بهذا المثل الماثل: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد: 17].
قال أحد كبار العلماء الألمان فى الآستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنه ينبغى لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبى سفيان فى ميدان كذا من عاصمتنا (برلين). قيل له لماذا؟ قال: لأنه هو الذى حوّل نظام الحكم الإسلامى عن قاعدته الديمقراطية على عصبية الغلب، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كلّه، وإذن لكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عربا مسلمين.
قد أعجبت هذا الألمانى عصبيته القومية، وخيلاؤه الأوروبيّة، التى عتلت قومه وجيرانهم إلى جحيم الحرب الأخيرة عتلا «1» فأخسرت أوروبا عشرين مليونا من الرجال، وألوف الملايين من الأموال، وباء فيها قومه بالخزى والنكال، وسيطرة الاستذلال، وإنما كان كره أن يكونوا قد اهتدوا بالإسلام، بما صرفت بصره وعصبيّته الألمانية، عن رؤية المصلحة الإنسانية الجامعة، ولو نظر فيها فأبصرها لعلم أنّ الأفضل والأمثل والأكمل للبشر توحيد شعوبهم بحيث يتفاضلون بعلوم أفرادهم وأعمالهم، لا بأنسابهم وأوطانهم ولغاتهم المفرقة بينهم، وهو قد علم من قبل أن هذه الجامعة الإنسانية لا سبيل إليها إلا بهداية الإسلام فلا تنال إلا به، ولو اهتدت به أوروبا اليوم لزالت أضغانها، ووجهت علومها وفنونها إلى إسعاد البشر وعمارة الأرض كلها، فإنّ إصرار الإفرنج على الكبرياء بجلدتهم البيضاء واحتقارهم للسود والحمر والسمر والصفر وهضمهم لحقوقهم، واستباحتهم لظلمهم. لمن أكبر العار على حضارتهم، وإن استثناءهم للأصفر اليابانى أخيرا من هذا الاحتقار، لما يلطخهم بعار فوق عار، وإن حضارة الإسلام الإنسانية الجامعة لتعلو عليها ألوف من الأميال لا الأمتار.
فهل يعقل أن يكون تقرير هذه الأصول التى توحّد الأمم والشعوب وتؤلف بينها بما يجمع كلمتهم عليها بالوازع النفسى لا بالقهر العسكرى من رأى أو إلهام نبع من نفس محمد الأمى فى سن الكهولة ففاق بها جميع الأنبياء والحكماء؟ أم الأقرب إلى العقل أن تكون بوحى من الله تعالى أفاضه عليه صلى الله عليه وسلم؟ «2» .
(1) عتله إلى الشيء أو المكان جره بقهر ودفعه إليه بعنف.
(2)
قولنا إن هذا أقرب إلى العقل مفهومه أن مقابله وهو أنه من رأى محمد صلى الله عليه وسلم ممكن أيضا وإن فاق به جميع الأنبياء والحكماء وهو من باب التساهل وإرخاء العنان ولا يمكن أن يقال مثله فى كل مقصد من هذه المقاصد العشرة، فما بالك بها كلها، وهل يعقل أن تكون آراء حدثت لأمى فى سن الكهولة فقررها ونفذها؟ كلا.