الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية
تهود أناس من العرب، وتنصّر منهم أناس آخرون من قبل الإسلام بقرون، وكان كل منهم يمدح دينه ويدعو إليه بالطبع. فلم يعاد الجمهور أحدا منهم أو يحتقره لدينه بل كان لزعماء اليهود المستعربين وشعراء النصارى من العرب عندهم مكانتهم اللائقة بهم كأمثالهم من المشركين، ولم يكن لليهودية ولا للنصرانية أدنى صولة فى مكة، ولا خافها رؤساء قريش على زعامتهم الدينية ولا الدنيوية، فلما قام فيهم محمد ابن عبد الله يتلو عليهم القرآن باسم الله زلزلت الأرض بهم زلزالها، وثاروا عليه ثورتهم الصغرى، ثم ثارت الأمة به ومعه ثورتها الكبرى، وهى التى بدلت الأرض، والقلوب غير القلوب، والعقول غير العقول وقلبت نظام الاجتماع العام.
وقد كان فعل القرآن فى أنفس العرب وإحداثه تلك الثورة الكبرى فيهم على نوعين أولهما ما أحدثه من الزلزال فى المشركين، وثانيهما تزكيته للمؤمنين ونزعه كل ما كان بأنفسهم من غل وجهل وظلم وفساد. حتى أعقب ما أعقب من الإصلاح فى العالم كله؛ وأمهد لبيان ذلك بكلمة فى حالهم فى عصر ظهور الإسلام.
بينا مرارا أن الله تعالى قد أعد الأمة العربية- ولا سيما قريش ومن حولها- لما أراده من الإصلاح العام للبشر بكونهم كانوا أقرب الأمم إلى سلامة الفطرة، وأرقاهم لغة فى التعبير والتأثير، وأقواهم استقلالا فى العقل والإرادة. لعدم وجود ملوك مستبدين فيهم يضعفون إرادتهم ويفسدون بأسهم، ويذلون أنفسهم بالقوة القاهرة، ولا رؤساء دين أولى سلطان روحى يسيطرون على عقولهم وقلوبهم، ويتحكمون فى عقائدهم وأفكارهم، ويسخرونهم لشهواتهم، وكانت جميع الأمم ذات الحضارة والملل مستعبدة مستذلة لزعماء هاتين الرئاستين، حاش العرب.
فلما بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الداعى إلى الحق وإلى صراط مستقيم، كانوا على أتم الاستعداد الفطرى لقبول دعوته، ولكن رؤساء قريش كانوا على مقربة من ملوك شعوب العجم؛ فى التمتع بالثروة الواسعة، والعظمة الكاذبة، والشهوات الفاتنة، والسرف فى الترف، وعلى حظ مما كان عليه رؤساء الأديان فيها من المكانة الدينية بسدانتهم لبيت الله الحرام. الذى أودع الله تعظيمه فى القلوب من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،
فرأوا أن هذا الدين الحر يوشك أن يسلبهم الانفراد بهذه العظمة الموروثة، وقد يفضل عليهم بعض الفقراء والموالى، وأنه يحكم عليهم وعلى من يفاخرون بهم من آبائهم بالكفر والجهل والظلم والفسوق، ويشبههم بسائمة الأنعام، فوجهوا كل قواهم ونفوذهم إلى صد محمد عن دعوته ولو بتمليكه عليهم وجعله أغنى رجل فيهم، ولكن تعذر إقناعه بالرجوع عنها بالترغيب، حتى التمويل والتمليك. فقد أجاب عمه أبا طالب لمّا عرض عليه ما أرادوه من ذلك بتلك الكلمة العليا:«يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى شمالى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» .
حينئذ أجمعوا أمرهم على صده عن تبليغها بالقوة والحيلولة بينه وبين جماهير الناس فى الأسواق والمجامع والبيت الحرام، وبصد الناس عنه أن يأتوه ويستمعوا له، وباضطهاد من اتبعه بالدعوة الفردية إلا أن يكون له من يحميه منهم لقرابة أو جوار أو ذمة، فهؤلاء الرؤساء المترفون والمسرفون المتكبرون، كانوا أعلم الناس بصدق محمد وفيهم نزل قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33]، فقد كابروا الحق بغيا واستكبارا للحرص على رياستهم وشهواتهم، وكانوا أجدر العرب بقبول دعوة القرآن لأنهم أدق الناس لها فهما، وأوسعهم بإعجازها علما، ولكنهم عتوا عنها عتوا: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] كفرعون وقارون وهامان فى آيات موسى.