المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن: - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

منهما، ونشر التوحيد والحق والعدل فيهما، ودخول الأمم فى دين الله أفواجا مختارين اهتداء بهم، وعنايتهم بتعلم العربية بالتبع لعنايتهم بالدين، حتى فتحوا- هم وتلاميذهم- نصف كرة الأرض فى زهاء نصف قرن، وكانوا مضرب المثل فى الرحمة والعدل «1» ، وموضع الحيرة لعلماء الاجتماع وقواد الحرب «2». وأنى يبلغ الشعب الذى وصف ربه فى كتابه بالشعب المتمرد الصلب الرقبة «3» درجة الذين وصفهم رب العالمين بقوله تعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [الفتح: 29].

فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذى نشأ وشبّ على الشدة والقسوة فى الجاهلية حتى قيل: إنه وأد بنتا له، صار بالإسلام من أرحم الرحماء بالناس، حتى أنه يطبخ الطعام هو وزوجته ليلا لامرأة فقيرة فى المخاض وبعلها حاضر لا يساعدهما، ولم يكن يعلم أنه أمير المؤمنين.

لا جرم أن سبب هذا كلّه تأثير القرآن بهذا الأسلوب الذى نراه فى المصحف، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يجاهد به الكافرين كما أمره الله بقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52]، ثم كان به يربى المؤمنين ويزكيهم. كما قال الله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، وبهدايته والتأسى بمبلغه صلى الله عليه وسلم ربوا الأمم وهذّبوها، وقلّما يقرأه أحد كما كانوا يقرءون، إلا ويهتدى به كما كانوا يهتدون على تفاوت فى الاستعداد النفسى واللغوى واختلاف الزمان لا يخفى.

‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

وكيف لا يكون المؤمنون بالقرآن ارحم النّاس وقد امتن الله عليهم فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]؟، وقد قلنا فى الكلام على الرحمة من هذه المزايا الأربع للقرآن من تفسير المنار (جز 11) ما نصه:

(1) قال الفيلسوف الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه «حضارة العرب والإسلام» : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.

(2)

فى مقدمتهم نابليون بونابرت أشهر قواد الحرب فى العالم وهو الذى قال: «إن العرب فتحوا نصف العالم فى نصف قرن، وصرح بأنه يدين بالإسلام كما تراه فى علاوات كتاب «حاضر العالم الإسلامى» للأمير شكيب (ص 24 جزء أول طبعة ثانية).

(3)

راجع آخر الفصل 31 من سفر التثنية وغيره.

ص: 105

(الرابعة الرحمة للمؤمنين): وهى ما تثمره لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم من رحمة ربهم الخاصة، وهى صفة كمال من آثارها: إغاثة الملهوف، وبذل المعروف، وكف الظلم، ومنع التعدّى والبغى، وغير ذلك من أعمال الخير والبر، ومقاومة الشر، وقد وصف الله المؤمنين بقوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، وبقوله: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.

وهذه الصفات الأربع مرتّبة على سنّة الفطرة البشرية، فالموعظة هى التعاليم التى تشعر النفس بنقصها وخطر أمراضها الاعتقادية والخلقية، وتزعجها إلى مداواتها وطلب الشفاء منها، والشفاء تخلية، يتبعها طلب التحلية، بالصحة الكاملة، والعافية التامة، وهو الهدى، ومن ثمراته: هذه الرحمة التى لا توجد على كمالها إلا فى المؤمنين المهتدين، ولا يحرمها إلا الكافرون الماديون. حتى قال بعضهم: إنها ضعف فى القلب. ويجعل صاحبه كالمضطر إلى الإحسان والعطف، وما هذا القول إلا من فساد الفطرة وقسوة القلب، وفلسفة الكفر، فلقد كان أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، أرحم الناس وأشدهم عطفا وهو سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين. الذى وصفه ربه بما وصف به نفسه من قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، وقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكذلك كان أصحابه رضى الله عنهم حتى كان من يوصف بالشدة والقسوة كعمر بن الخطاب رضى الله عنه صار من أرحم الناس وسيرته فى ذلك معروفة كما أشرنا إليه آنفا.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقى» . رواه أبو داود والترمذى، واللفظ له عن أبى هريرة رضى الله عنه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع وهو فى الصلاة بكاء طفل تجوز فى صلاته- أى اختصرها وخفّفها- رحمة به وبأمه، وروى ابن اسحاق أن بلالا رضى الله عنه مر بصفية وبابنة عم لها على قتلى قومهما اليهود بعد انتهاء غزوة خيبر فصكّت ابنة عمها وجهها وحثت عليه التراب وهى تصيح وتبكى، فقال صلى الله عليه وسلم له:«أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما» . وجاء أعرابى إليه صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون أولادكم وما نقبلهم فقال له صلى الله عليه وسلم: «أو أملك لك «1» أن نزع الله الرحمة من قلبك؟».

رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى الله عنها والمراد إنى لا أملك أن أشعرك بما لا تشعر به، لأنّ الله نزع الرحمة من قلبك، فأجعلك رحيما. بل كان صلى الله عليه وسلم شديد الرحمة

(1) قوله: «أو أملك» همزته للاستفهام الإنكارى، والواو مفتوحة وما بعدها معطوف على محذوف تقديره أتكون هكذا وأملك له من الله شيئا غيره؟ وقوله:«أن نزع» بفتح همزة أن وتقدير لام التعليل أو باء السببية قبلها بأى بأن نزع الرحمة من قلبك.

ص: 106

بالبهائم والطير والحشرات، وطالما أوصى بها ولا سيما صغارها وأمهاتها، وجاءه مرة رجل وعليه كساء فى يده شىء قد التف عليه فقال: يا رسول الله إنّنى لما رأيتك أقبلت فمررت بغيضة شجرة فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فى كسائى، فجاءت أمّهنّ فاستدارت على رأسى، وكشفت لها عنهن فوقعت عليهن فلففتها معهن بكسائى، فهن أولاء معى. قال:«ضعهن» . قال: ففعلت فأبت أمهن إلا لزومهن. فقال صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها؟» . قالوا: نعم. قال: «والذى بعثنى بالحق الله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن حيث أخذتهن وأمهن معا» . فرجع بهن. رواه أبو داود من حديث عامر الرامى رضى الله عنه وروى مالك والبخارى ومسلم وأبو داود من حديث أبى هريرة مرفوعا حديثين خلاصتهما أن الله غفر لرجل ولامرأة بغى «أى مومس» لأن كلا منهما رأى كلبا قد اشتد العطش به فرحمه وأخرج له الماء من البئر بخفه فسقاه قالوا له: يا رسول الله إن لنا فى البهائم أجرا؟ فقال: «فى كلّ كبد رطبة أجر» . ورواه أحمد عن عبد الله بن عمرو

سراقة بن مالك بلفظ: «وفى كل ذات كبد حرّى أجر» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء» . رواه الترمذى وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه، ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق أستاذنا الشيخ محمد أبى المحاسن القاوقجى، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» - وفى رواية-: «ولو يعلم الكافر بكلّ الذى عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة؛ ولو يعلم المؤمن بكلّ ما عند الله من العذاب لم يأمن من النار» . رواه البخارى ومسلم والترمذى أ. هـ.

هذا ولو كان القرآن بأسلوب الكتب العلمية والقوانين الوضعية لما كان له ذلك التأثير الذى غير ما بأنفس العرب فغيروا به أمم العجم، فكانوا كلهم كما وصفهم الله عز وجل بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، ولم يكن عند العرب شىء من العلم بسياسة الأمم وإدارتها إلا هذا القرآن، والأسوة الحسنة

ص: 107

بمبلغه ومنقذه الأول عليه الصلاة والسلام، ولن يعود للمسلمين مجدهم وعزهم إلا إذا عادوا إلى هدايته وتجديد ثورته، ولعنة الله على من يصدونهم عنه. زاعمين استغناءهم عن العمل به وبسنة مبينه- بكتب مشايخهم الجافة الخاوية من كل ما يحيى الإيمان، ويعلى الهمم ويزكى الأنفس، ويبعث على الجهاد بالأنفس والأموال.

أما وحق القرآن علينا، والله لم ينزل غيره إلينا، إنه لا يغنينا عن تدبره والاهتداء به ولا عن فهم سورة واحدة من سوره. جميع ما فى الأرض من الكتب المنزلة، ولا من الكتب المصنفة، وما فتن الشيطان هذه الأمة بشيء كما فتنهم بصدهم عن تهذيب أنفسهم وتزكيتها بالقرآن والسنة المبينة له، وعن دعوة جميع أهل الملل به إليه، وقد بينا لك الفرق بين تأثيره وتأثير التوراة، وهاك إجمال لما فعله فى الأمة العربية ثم فى العالم.

ص: 108