الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهما، ونشر التوحيد والحق والعدل فيهما، ودخول الأمم فى دين الله أفواجا مختارين اهتداء بهم، وعنايتهم بتعلم العربية بالتبع لعنايتهم بالدين، حتى فتحوا- هم وتلاميذهم- نصف كرة الأرض فى زهاء نصف قرن، وكانوا مضرب المثل فى الرحمة والعدل «1» ، وموضع الحيرة لعلماء الاجتماع وقواد الحرب «2». وأنى يبلغ الشعب الذى وصف ربه فى كتابه بالشعب المتمرد الصلب الرقبة «3» درجة الذين وصفهم رب العالمين بقوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [الفتح: 29].
فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذى نشأ وشبّ على الشدة والقسوة فى الجاهلية حتى قيل: إنه وأد بنتا له، صار بالإسلام من أرحم الرحماء بالناس، حتى أنه يطبخ الطعام هو وزوجته ليلا لامرأة فقيرة فى المخاض وبعلها حاضر لا يساعدهما، ولم يكن يعلم أنه أمير المؤمنين.
لا جرم أن سبب هذا كلّه تأثير القرآن بهذا الأسلوب الذى نراه فى المصحف، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يجاهد به الكافرين كما أمره الله بقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52]، ثم كان به يربى المؤمنين ويزكيهم. كما قال الله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، وبهدايته والتأسى بمبلغه صلى الله عليه وسلم ربوا الأمم وهذّبوها، وقلّما يقرأه أحد كما كانوا يقرءون، إلا ويهتدى به كما كانوا يهتدون على تفاوت فى الاستعداد النفسى واللغوى واختلاف الزمان لا يخفى.
المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:
وكيف لا يكون المؤمنون بالقرآن ارحم النّاس وقد امتن الله عليهم فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]؟، وقد قلنا فى الكلام على الرحمة من هذه المزايا الأربع للقرآن من تفسير المنار (جز 11) ما نصه:
(1) قال الفيلسوف الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه «حضارة العرب والإسلام» : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
(2)
فى مقدمتهم نابليون بونابرت أشهر قواد الحرب فى العالم وهو الذى قال: «إن العرب فتحوا نصف العالم فى نصف قرن، وصرح بأنه يدين بالإسلام كما تراه فى علاوات كتاب «حاضر العالم الإسلامى» للأمير شكيب (ص 24 جزء أول طبعة ثانية).
(3)
راجع آخر الفصل 31 من سفر التثنية وغيره.
(الرابعة الرحمة للمؤمنين): وهى ما تثمره لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم من رحمة ربهم الخاصة، وهى صفة كمال من آثارها: إغاثة الملهوف، وبذل المعروف، وكف الظلم، ومنع التعدّى والبغى، وغير ذلك من أعمال الخير والبر، ومقاومة الشر، وقد وصف الله المؤمنين بقوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، وبقوله: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.
وهذه الصفات الأربع مرتّبة على سنّة الفطرة البشرية، فالموعظة هى التعاليم التى تشعر النفس بنقصها وخطر أمراضها الاعتقادية والخلقية، وتزعجها إلى مداواتها وطلب الشفاء منها، والشفاء تخلية، يتبعها طلب التحلية، بالصحة الكاملة، والعافية التامة، وهو الهدى، ومن ثمراته: هذه الرحمة التى لا توجد على كمالها إلا فى المؤمنين المهتدين، ولا يحرمها إلا الكافرون الماديون. حتى قال بعضهم: إنها ضعف فى القلب. ويجعل صاحبه كالمضطر إلى الإحسان والعطف، وما هذا القول إلا من فساد الفطرة وقسوة القلب، وفلسفة الكفر، فلقد كان أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، أرحم الناس وأشدهم عطفا وهو سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين. الذى وصفه ربه بما وصف به نفسه من قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، وقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكذلك كان أصحابه رضى الله عنهم حتى كان من يوصف بالشدة والقسوة كعمر بن الخطاب رضى الله عنه صار من أرحم الناس وسيرته فى ذلك معروفة كما أشرنا إليه آنفا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقى» . رواه أبو داود والترمذى، واللفظ له عن أبى هريرة رضى الله عنه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع وهو فى الصلاة بكاء طفل تجوز فى صلاته- أى اختصرها وخفّفها- رحمة به وبأمه، وروى ابن اسحاق أن بلالا رضى الله عنه مر بصفية وبابنة عم لها على قتلى قومهما اليهود بعد انتهاء غزوة خيبر فصكّت ابنة عمها وجهها وحثت عليه التراب وهى تصيح وتبكى، فقال صلى الله عليه وسلم له:«أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما» . وجاء أعرابى إليه صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون أولادكم وما نقبلهم فقال له صلى الله عليه وسلم: «أو أملك لك «1» أن نزع الله الرحمة من قلبك؟».
رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى الله عنها والمراد إنى لا أملك أن أشعرك بما لا تشعر به، لأنّ الله نزع الرحمة من قلبك، فأجعلك رحيما. بل كان صلى الله عليه وسلم شديد الرحمة
(1) قوله: «أو أملك» همزته للاستفهام الإنكارى، والواو مفتوحة وما بعدها معطوف على محذوف تقديره أتكون هكذا وأملك له من الله شيئا غيره؟ وقوله:«أن نزع» بفتح همزة أن وتقدير لام التعليل أو باء السببية قبلها بأى بأن نزع الرحمة من قلبك.
بالبهائم والطير والحشرات، وطالما أوصى بها ولا سيما صغارها وأمهاتها، وجاءه مرة رجل وعليه كساء فى يده شىء قد التف عليه فقال: يا رسول الله إنّنى لما رأيتك أقبلت فمررت بغيضة شجرة فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فى كسائى، فجاءت أمّهنّ فاستدارت على رأسى، وكشفت لها عنهن فوقعت عليهن فلففتها معهن بكسائى، فهن أولاء معى. قال:«ضعهن» . قال: ففعلت فأبت أمهن إلا لزومهن. فقال صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها؟» . قالوا: نعم. قال: «والذى بعثنى بالحق الله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن حيث أخذتهن وأمهن معا» . فرجع بهن. رواه أبو داود من حديث عامر الرامى رضى الله عنه وروى مالك والبخارى ومسلم وأبو داود من حديث أبى هريرة مرفوعا حديثين خلاصتهما أن الله غفر لرجل ولامرأة بغى «أى مومس» لأن كلا منهما رأى كلبا قد اشتد العطش به فرحمه وأخرج له الماء من البئر بخفه فسقاه قالوا له: يا رسول الله إن لنا فى البهائم أجرا؟ فقال: «فى كلّ كبد رطبة أجر» . ورواه أحمد عن عبد الله بن عمرو
سراقة بن مالك بلفظ: «وفى كل ذات كبد حرّى أجر» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء» . رواه الترمذى وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه، ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق أستاذنا الشيخ محمد أبى المحاسن القاوقجى، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» - وفى رواية-: «ولو يعلم الكافر بكلّ الذى عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة؛ ولو يعلم المؤمن بكلّ ما عند الله من العذاب لم يأمن من النار» . رواه البخارى ومسلم والترمذى أ. هـ.
…
هذا ولو كان القرآن بأسلوب الكتب العلمية والقوانين الوضعية لما كان له ذلك التأثير الذى غير ما بأنفس العرب فغيروا به أمم العجم، فكانوا كلهم كما وصفهم الله عز وجل بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، ولم يكن عند العرب شىء من العلم بسياسة الأمم وإدارتها إلا هذا القرآن، والأسوة الحسنة
بمبلغه ومنقذه الأول عليه الصلاة والسلام، ولن يعود للمسلمين مجدهم وعزهم إلا إذا عادوا إلى هدايته وتجديد ثورته، ولعنة الله على من يصدونهم عنه. زاعمين استغناءهم عن العمل به وبسنة مبينه- بكتب مشايخهم الجافة الخاوية من كل ما يحيى الإيمان، ويعلى الهمم ويزكى الأنفس، ويبعث على الجهاد بالأنفس والأموال.
أما وحق القرآن علينا، والله لم ينزل غيره إلينا، إنه لا يغنينا عن تدبره والاهتداء به ولا عن فهم سورة واحدة من سوره. جميع ما فى الأرض من الكتب المنزلة، ولا من الكتب المصنفة، وما فتن الشيطان هذه الأمة بشيء كما فتنهم بصدهم عن تهذيب أنفسهم وتزكيتها بالقرآن والسنة المبينة له، وعن دعوة جميع أهل الملل به إليه، وقد بينا لك الفرق بين تأثيره وتأثير التوراة، وهاك إجمال لما فعله فى الأمة العربية ثم فى العالم.