الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتنالون به الثواب، هذا وإنى أعلم من فئة مسلمة ما أعلمه من نفسى ولكنّهم يتحفظون فى الكتمان، ويسألون الكتب خشية سؤال الإنسان، ولكننى لا أجد فى السؤال عارا، وكل عقل يخطئ ويصيب، يزل ويستقيم.
(أحد قرائكم)
جواب المنار
لقد سرنا من السائل أنه على تمكن الشبهة من نفسه لم يذعن لها تمام الإذعان فيسترسل فى تعدى حدود الدين إلى فضاء الأهواء والشبهات التى تفسد الأرواح والأجسام، بل أطاع شعور الدين الفطرى، ولجأ إلى البحث فى الكتب، ثم السؤال ممن يظن فيهم العلم، بما يكشف الشّبهة، ويقيم الحجّة، وإن كثيرا من الناس لينصرفوا عن طلب الحق عند أول قزعة من الشبهة تلوح فى فضاء أذهانهم، لأنّهم شبّوا على حبّ التمتع والانغماس فى اللذة، ويرون الدين صادا لهم عن الانهماك والاسترسال فيها، فهم يحاولون إماتة شعوره الفطرى، كما أمات النشوء فى الجهل برهانه الكسبى.
أرى السائل نظر من رسالة التوحيد فى المقدمات ووعاها، ولكنه لم يدقق النظر فى المقاصد والنتائج، لذلك نراه مسلما المقدمات دون النتيجة مع اللزوم بينهما، فإذا هو عاد إلى مبحث (حاجة البشر إلى الرسالة) وتدبره وهو مؤمن بالله، وأنه أقام الكون على أساس الحكمة البالغة والنظام الكامل، فإننى أرجو له أن يقتنع، ثم إننى آنست منه أنه لم يقرأ مبحث (وقوع الوحى والرسالة) أو لعله قرأه ولم يتدبره، فإنه لم يذكر البرهان على نفس الرسالة ويبنى الشبهة عليه، وإنما بناها على جزء من أجزاء المقدمات، وهى القول فى بعض صفات الرسل عليهم السلام، وإننى أكشف له شبهته أولا فأبين أنها لم تصب موضعها، ثم أعود إلى رأى فى الموضوع.
إنّ (جان دارك) التى اشتبه عليه أمرها بوحى الأنبياء لم تقدم بدعوة إلى دين أو مذهب تدعى أن فيه سعادة البشر فى الحياة وبعد الموت كما هو شأن جميع المرسلين، ولم تأت بآية كونية ولا علمية لا يعهد مثلها من كسب البشر تتحدى بها الناس ليؤمنوا بها، وإنما كانت فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين، وحركته مزعجات السياسة فتحرك، فنفر،
فصادف مساعدة من الحكومة، واستعدادا من الأمة للخروج من الذلّ الذى كانت فيه، وكان التحمس الذى حركته سببا للحملة الصادقة على العدو وخذلاته. وما أسهل حماسة أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات وبما هو أضعف منها، فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته المشهورة عند الأهرام.
وأذكّر السائل الفطن بأنّه لم يوافق الصواب فى إبعاد الفتاة عن السياسة ومذاهبها فقد جاء فى ترجمتها من دائرة المعارف العربية (للبستانى) ما نصه:
«كانت متعودة الشغل خارج البيت كرعى المواشى وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت، وكان الناس فى جوار دومرى (أى بلدها) متمسكين بالخرافات ويميلون إلى حزب أورليان فى الانقسامات التى مزقت مملكة فرنسا، وكانت «جان دارك» تشترك فى الهياج السياسى والحماسة الدينية، وكانت كثيرة التخيل والورع، تحب أن تتأمل فى قصص العذراء وعلى الأكثر فى نبوة كانت شائعة فى ذلك الوقت، وهى أن إحدى العذارى ستخلص فرنسا من أعدائها، ولما كان عمرها 13 سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعية وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها ورؤى كانت تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خيل لها أنها قد دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها، ثم وقع البرغنيور تعديا على القرية التى ولدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خيل لها».
ثم ذكر بعد ذاك توسله إلى الحكام وتعيينها قائدة لجيش ملكها، وهجومها بعشرة آلاف جندى ضباطهم ملكيون على عسكر الإنكليز الذين كانوا يحاصرون أورليان، وأنها دفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار فى مدة أسبوع، وذلك سنة 1429، ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت أخيلتها الحماسية، ولذلك هوجمت فى السنة التالية 1430 فانكسرت وجرحت وأسرت.
فمن ملخص القصة، يعلم أن ما كان منها إنما هو تهيج عصبى سببه التألم من تلك الحالة السياسية التى كان يتألم منها من نشأت بينهم مع معونة التحمس الدينى والاعتقادات بالخرافات الدينية التى كانت ذائعة فى زمنها، وهذا شىء عادى معروف السبب، وهو من قبيل الذين يقومون باسم المهدى المنتظر كمحمد أحمد السودانى، والباب الإيرانى (وكذا البهاء والقاديانى)، بل الشبهة فى قصتها أبعد من الشبهة فى قصة هذين الرجلين، وإن كانت أسباب النهضة متقاربة، فإنّ هذين كانا كأمثالهما يدعوان إلى
شىء (ملفق) يزعمان أنه إصلاح للبشر فى الجملة.
أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، والمعروفة السبب، التى لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعى، إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التى هى مشتركة بين الإنسان والحيوان الأعجم التى لا حجّة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها. التى اشتعلت بنفخة، وطفئت بنفخة؟.
أين هى من دعوة الأنبياء التى بيّن الأستاذ الإمام إنها حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشرى، طلبها هذا النوع بلسان استعداده فوهبها له المدبر الحكيم (الذى أعطى كلّ شىء خلقه ثمّ هدى) فسار الإنسان بذلك إلى كماله، فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية النامية، بل أرقى وأعلى؟ وأين دليلها من أدلة النبوّة؟ وأين أثرها من أثر النبوة؟.
إن الأمم التى ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحى إنما ارتقت بطبيعة ذلك التعليم وتأثيره. وإن فرنسا لم ترتق بإرشاد (جان دارك) وتعليمها، وإنما مثلها مثل قائد انتصر فى واقعة فاصلة بشجاعته، وبأسباب أخرى ليست من صنعه، واستولت أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها، وحكمه حكمائها، وصنع صناعها، ولم يكن القائد يعرف من ذلك شيئا ولم يرشد إليه، فلا يقال إن ذلك القائد هو الذى أصلح تلك البلاد، وعمّرها ومدّنها، وإن عدّ سببا بعيدا فهو شبيه بالسبب الطبيعى، كهبوب ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة.
أين حال تلك الفتاة التى كانت كبارقة خفت (أى ظهرت وأو مضت) ثم خفيت وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، ومن حال شمس النبوّة المحمدية التى أشرقت فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها متألق السناء؛ أمى يتيم قضى سن الصبا وشرخ الشباب هادئا ساكنا لا يعرف عنه علم ولا تخيل، ولا وهم دينى ولا شعر ولا خطابة، ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كلّه صيحة؛ إنكم على ضلال مبين، فاتبعون أهدكم الصّراط المستقيم، فأصلح وهو الأمى أديان البشر؛ عقائدها وآدابها وشرائعها، وقلب نظام الأرض فدخلت بتعليمه فى طور جديد؟.
لا جرم أنّ الفرق بين الحالين عظيم، إذا أنعم النظر فيه العاقل الحكيم، ولا سعة فى جواب سؤال كهذا لتقرير الدليل على النبوة بالتفصيل، وإنما أحيل السائل على التأمل فى بقية بحث النبوة فى رسالة التوحيد، ومراجعة ما كتبناه أيضا من الأمالى الدينية فى المنار، ولا سيّما الدرس الذى عنوانه (الآيات البيّنات، على صدق النّبوات) وإن كان يصدق على