الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه
(الوجه الأول): إن أكثر المقدمات التى أخذوا منها هذه النتيجة هى آراء متخيّلة، أو دعاوى باطلة، لا قضايا تاريخية ثابتة، كما بيناه عند ذكرها، وإذا بطلت المقدمات بطل لزوم النتيجة لها.
مثال ذلك: زعمهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم سمع من نصارى الشام خبر غلب الفرس وظهورهم على الروم؛ ليوهموا النّاس أنّ ما جاء فى أول سورة الروم من الإنباء بالمسألة، وبأن الروم سيغلبون الفرس بعد ذلك؛ هو مستمد مما سمعه صلى الله عليه وسلم من نصارى الشام، وهذا مردود بدلائل التاريخ والعقل؛ فأما التاريخ فإنه يحدثنا بأن ظهور الفرس على الروم كان فى سنة 610 م وذلك بعد رحلة محمد الأخيرة إلى الشام بأربع عشر سنة وقبل بدء الوحى بسنة. ثم إن التاريخ أنبأنا أنّ دولة الروم كانت مختلة معتلّة فى ذلك العهد بحيث لم يكن أحد يرجو أن تعود لها الكرّة والغلب على الفرس، حتى أن أهل مكة أنفسهم هربوا بالخبر، وراهن أبو بكر أحدهم على ذلك وأجازه النبى صلى الله عليه وسلم فربح الرهان «1» ، وأما العقل فإنه يحكم بأن مثل محمد فى سمو إدراكه المتفق عليه لا يمكن أن يجزم بأن الغلب سيعود للروم على الفرس فى مدة بضع سنين، لا من قبل الرأى ولا من الوحى النفسى المستمد من الأخبار غير الموثوق بها، وقد صحّ أن انتصار الروم وقع سنة 622 م، وكان وحى التبليغ للنبى صلى الله عليه وسلم سنة 614 م، فإذا فرضنا أنّ سورة الروم نزلت فى هذه السنة يكون النصر قد حصل بعد ثمانى سنين، وإن كان فى السنة الثانية تكون المدة سبع سنين، وهو المعتمد فى التفسير، والبضع يطلق على ما بين الثلاث والتسع.
والحكمة فى التعبير عن هذا النبأ بقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 2 - 4]، ولم يقل بعد سبع أو ثمان
(1) فى القصة روايات من طرق، فيها خلاف فيما قدروا فيه البضع وهو فى الأصل من 3 - 9 فقيل خمس وقيل ست، ولام النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تحديده، وقد أبهمه الله تعالى، وفى بعضها أنهم أخطئوا الأجل الأول فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يمادوهم فى الأجل ويزايدوهم فى الرهن ففعلوا ورضى المشركون. وكان الذى تولى قمارهم ابن خلف فأظهر الله الروم على الفرس عند انتهائه على رأس السبع من قمارهم الأول.
مثلا، هى إفادة أن الغلب يكون فى الحرب الممتدة فى هذه المدة، وأنباء الوحى والعبر لا تكون بأسلوب التاريخ يحدد الوقائع بالسنين، وليس فى وعود القرآن الكثيرة للمسلمين بالنصر وغيره من أنباء الغيب ذكر السنين ولا الشهور، فهذه الآية فريدة فى بابها.
ومثال آخر: ما زعموا من مروره صلى الله عليه وسلم فى رحلته إلى الشام بأرض مدين وحديثه مع أهلها، الذى أرادوا به أن يجعلوه أصلا لما جاء فى القرآن من أخبارها والخبر باطل كما أشرنا إليه عند نقلنا إياه فى المقدمات، ولو صحّ لما كان من المعقول أن يعتمد محمد على ما سمعه فى الطريق من أناس مجهولين لا يوثق بمعرفتهم ولا يصدقهم فيجعله أصلا للوحى الذى جاءه فى قصة موسى وقصة شعيب عليهما السلام.
(الوجه الثانى): لو كان النبىّ صلى الله عليه وسلم تلقى عن علماء النصارى فى الشام شيئا أو عاشرهم لنقل ذلك أتباعه الذين لم يتركوا شيئا علم عنه أو قيل فيه- ولو لم يثبت- إلا ودونوه ووكلوا أمر صحته أو عدمها إلى إسناده وما علم من سيرة رواته.
(الوجه الثالث): لو وقع ما ذكر لاتخذه أعداؤه من كبار المشركين شبهة يحتجون بها على أنّ ما يدعيه من الوحى قد تعلّمه فى الشام من النصارى، فإنهم كانوا يوردون عليه ما هو أضعف وأسخف من هذه الشبهة، وهو أنه كان فى مكة قين (حداد) روميّ يصنع السيوف وغيرها، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته فاتهموه بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103].
(الوجه الرابع): نصوص القرآن صريحة فى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل وقصصهم قبل الوحى، وهم متفقون معنا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكذب على أحد فضلا عن الكذب على الله عز وجل، كما اعترف بذلك أعدى أعدائه أبو جهل، كما أنهم متفقون معنا على قوة إيمانه بالله عز وجل ويقينه بكل ما أوحاه إليه.
ومن الشواهد على ذلك: قوله تعالى عقب قصة موسى فى مدين وما بعدها من سورة القصص: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الآيتان: 44، 45]، وقوله بعد قصة نوح من سورة هود: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ
نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [الآية: 49]، ونحوه فى أواخر سورة يوسف بعد قصته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [الآية: 102].
ومن الشواهد التى لم يكن يعرفها أحد من أهل الكتاب قوله تعالى بعد قصة زكريا وولادة مريم وكفالته لها، فيتوهم أنه مأخوذ عنهم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].
الأقلام: جمع قلم تطلق على الأزلام والأقداح التى كانوا يلقونها لضرب القرعة لإزالة الخلاف فيما يتنازعون فيه، وعلى أقلام الكتابة، وتكون القرعة بأوراق تخلط بها كما هو المعهود فى عصرنا، والمعنى أنهم اختصموا وتنازعوا فى كفالة مريم وتربيتها عناية بأمرها فأصابت القرعة زكريا عليه وعليها السلام، كما قال تعالى فى أول قصتها.
(الوجه الخامس): أنه لم يرد فى الأخبار الصحيحة والمرفوعة «1» أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه بعض علماء اليهود والنصارى قبل بعثته، ولو روى عنه شىء من ذلك لدوّنه المحدثون لأنهم ما تركوا شيئا بلغهم عنه إلا ودوّنوه، كما رووا مثله عن أمية بن أبى الصلت، بل صرح القرآن المجيد بأنه لم يكن يرجو هذا ولا يؤمله، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86]، أى لكن ألقى إليك رحمة من ربك بك وبالناس كلهم لا كسب لك فيه بعلم ولا عمل، ولا رجاء، ولا أمل، فهذا تأكيد وتكميل الشاهد الأول من الوجه الرابع.
(الوجه السادس): أن حديث بدء الوحى الذى أثبته الشيخان فى الصحيحين، وغيرهما من المحدثين صريح فى أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الملك أول مرة ولم تجد زوجته خديجة بنت خويلد العاقلة المفكرة وسيلة يطمئن بها على نفسه، وتطمئن هى عليه إلا استفتاء أعلم العرب بهذا الشأن وهو ابن عمها ورقة بن نوفل الذى كان تنصر، وقرأ كتب اليهود والنصارى.
(الوجه السابع): لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه، وكان قد تم استعداده له باختلائه وتعبده فى الغار، وما صوروا به حاله فيه من الفكر المضطرب، والوجدان الملتهب، والقلب المتقلب، حتى إذا كمل استعداده. تجلّى له رجاؤه واعتقاده، بما تم به مراده، لظهر عقب ذلك كل ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثّابة، وفكرته الوقّادة، فى سورة
(1) الحديث المرفوع فى اصطلاح المحدثين ما صرح الصحابى بأنه من قول النبى صلى الله عليه وسلم.
أو سور من أبلغ سور القرآن، فى بيان أصول الإيمان، وتوحيد الديان، واجتثاث شجرة الشرك وعبادة الأوثان، وتشريع الأحبار والرهبان، واتخاذ الولد للرحمن، وإنذار رءوس الكفر والطغيان، ما سيلقون فى الدنيا من الخزى والنكال، وفى الآخرة من عذاب النار كسور المفصل ولا سيما (ق والقرآن المجيد)، والذاريات، والطور، والنجم والقمر، ثم الحاقة والنبأ، أو فى سورة أو أكثر من السور الوسطى التى تقرعهم بالحجج، وتأخذهم بالعبر، وتضرب لهم المثل، بسنن الله فى الرسل، كسور الأنبياء والحج والمؤمنون.
ولكنه ظل ثلاث سنين لم يتل فيها على الناس سورة ولم يدعهم إلى شىء ولا تحدث إلى أهل بيته ولا أصدقائه بمسألة من مسائل الإصلاح الدينى الذى توجهت إليه بزعمهم نفسه، ولا من ذم خرافات الشرك الذى ضاق به ذرعه. إذ لو تحدث بذلك لنقلوه عنه، وناهيك بألصق الناس به، خديجة وعلىّ وزيد بن حارثة فى بيته وأبى بكر الصديق الذى عاشره طول عمره- فهذا السكوت وحده فى فترة الوحى برهان قاطع على بطلان ما صوروا به استعداده للوحى الذاتى الذى زعموه، واستمداده لعلومه من التلقى الذى اختلقوه والاختبار الذى توهموه.
(الوجه الثامن): أن ما نقل من ترتيب نزول الوحى بعد هذه الفترة الطويلة جاء موافقا لما كان يتجدّد من الوقائع والحوادث الطارئة، دون ما زعموا من الأمور السابقة، فقد نزل ما بعد صدر سورة المدثر ردا على قول الوليد بن المغيرة المخزومى الذى قاله فى القرآن؛ فقد أراده أبو جهل أن يقول فيه قولا يبلغ قومه أنه منكر له، وأنه كاره له، بعد أن علم أنه تحرى استماعه من محمّد صلى الله عليه وسلم وأعجب به، قال له الوليد: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر، لا برجزه ولا بقصيدة منى، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله «1» ، وإنه ليعلو وما يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: دعنى حتى أفكر، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره من غيره، فنزلت الآيات: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً
[المدثر: 11، 12 إلى 30]. رواه الحاكم عن ابن عباس بإسناد صحيح على شرط البخارى.
وقد نزلت سورة اقرأ فسورة ن والقلم، فسورة المزمل قبل سورة المدثر، ونزل بعدها أكثر من ثلاثين سورة من قصار المفصل وأوساطه ليس فيها شىء مما زعموا أنه تلقاه أو شاهده
(1) وفى رواية: وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.
فى الأسفار، ولا مما وصفوا من أفكاره فى الغار، فليراجع ترتيب نزول السور فى كتاب الإتقان من شاء.
(الوجه التاسع): إن هذه المعلومات المحمدية التى تصورها هؤلاء المحللون لمسألة الوحى قليلة المواد ضيقة النطاق عن أن تكون مصدرا لوحى القرآن.
وإن القرآن لأعلى وأوسع وأكمل من كل ما كان يعرفه مثل بحيرا، ونسطور، وكل نصارى الشام ونصارى الأرض ويهودها. دع الأعراب الذين كان يمرّ بهم النبى صلى الله عليه وسلم بالطريق إلى الشام أو حضرهم.
وأن القرآن نزل مصدقا لكتب أهل الكتاب من حيث كونها فى الأصل من وحى الله إلى موسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم، ونزل أيضا مهيمنا عليها؛ أى: رقيبا وحاكما كما نصت عليه الآية (48) من سورة المائدة ومما حكم به على أهلها من اليهود والنصارى أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب «1» ، أى: لا كله ونسوا حظا آخر منه وأنهم حرفوا كلمه عن مواضعه «2» ، وبين كثيرا من المسائل الكبرى مما خالفوا واختلفوا فيه من العقائد والأحكام والأخبار «3» ، ومثل هذه الأحكام العليا عليهم، لا يمكن أن تكون مستمدة من أفراد من الرهبان أو غير الرهبان، أفاضوها على محمد فى رحلته التجارية إلى الشام. سواء أكان عند بعضهم بقية من التوحيد الموسوي والعيسوي الذى كان يقول به آريوس وأتباعه أم لا؟
وسواء أكان لدى بعضهم بقية من الأناجيل التى حكمت الكنيسة الرسمية بعد قانونيتها (أبو كريف) كإنجيل طفولة المسيح وإنجيل برنابا أم لا؟ فمحمد لم يعقد فى الشام ولا فى مكة مجمعا مسيحيا كمجامع الكنيسة للترجيح بين الأناجيل والمذاهب المسيحية ويحكم بصحة بعضها دون بعض.
إنّ وقوع مثل هذا منه فى تلك الرحلة مما يعلم واضعو هذه الأخبار ببداهة العقل مع عدم النقل أنه محال عادة، وعلى فرض وقوعه يقال: كيف يمكن أن يحكم بين تلك الأناجيل وتلك المذاهب برأيه فى تلك الخلسة التجارية للنظر فيها ويأمن على حكمه الخطأ؟
وقد صحّ عنه أنه قال لأصحابه فى شأن أهل الكتاب: «لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم «4» »،
(1) النساء: 44 - 51.
(2)
المائدة: 13 - 14.
(3)
آل عمران: 75، النساء: 46، المائدة: 13، 14.
(4)
رواه البخارى بهذا اللفظ، وأحمد والبزار من حديث جابر بلفظ:«لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعى» وسببه أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فعلم النبى صلى الله عليه وسلم فغضب وقاله.
يعنى فيما سكت عنه القرآن لئلا يكون ما كذبوهم فيه مما حفظوا أو يكون ما صدقوهم به مما نسوا حقيقته أو حرفوا أو بدلوا.
(الوجه العاشر): أن ما فى القرآن ما هو مخالف للعهدين العتيق والجديد، وهو مما لا يعلم إلى الآن أن أحدا من اليهود والنصارى قال به، كمخالفة سفر الخروج فيمن تبنت موسى، ففيه أنها ابنة فرعون وفى القرآن أنا امرأته، وفيما فيه من عزو صنع العجل الذى عبده بنو إسرائيل إلى هارون عليه السلام بعزوه إياه إلى السامرى وإثباته لإنكار هارون عليهم فيه، وغير ذلك.
بل ما جاء به محمد أكبر وأعظم من كل ما فى الكتب الإلهية ما صحّ منها وما لم يصح كما سنبينه.
رويدكم أيها المفتاتون «1» الذين يقولون ما لا يعلمون، إنّ وحى القرآن أعلى مما تزعمون، وأكبر مما تتصورون وتصورون، وإنّ محمدا أقل علما كسبيا مما تدعون وأكمل استعدادا لتلقى كلام الله عن الروح القدس مما تستكبرون.
وإذا كان وحى القرآن أعلى وأكمل من جميع ما حفظ عن أنبياء الله ورسله، لأنه الخاتم لهم، المكمّل لشرائعهم الخاصة الموقوتة، فأجدر به أن يكون أكمل مما وضعه (سولون) الفيلسوف اليونانى الذى شبه محمدا بأحد ملاحد عصرنا فى مصرنا، مع بعد الشبه بين أمى نشأ بين الأميين، وفيلسوف نشأ فى أمة حكمة، وتشريع ودولة وسياسة، ودخل فى كل أمور الأمة والدولة كسولون هذا «2» .
(1) يقال افتات فلان إذا سبق بفعل شىء واستبد له ولم يؤمر فيه من هو أحق منه بالأمر فيه لأنه أعلم به وأجدر بتحقيقه، ويقال: فلان لا يفتات عليه، أى لا يتداخل أحد فى أموره بدون أمره وإذنه. وأصله الهمز. فيقال: افتات عليه أيضا.
(2)
سولون: أحد فلاسفة اليونان السبعة فى القرن السابع قبل المسيح ووالدته؛ من أبناء بستاروتس آخر ملوك أثينا، وكان من رجال المال ورجال الحرب، وتولى فى بلاده بعض الأعمال الإدارية
والعسكرية وقيادة الجيش. وقد انتخب فى سنة 945 ق. م (أرخونا) أى رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها كلهم؛ وقلدوه سلطة مطلقة لتغيير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذى وضعه (زراكوت) من قبله، فوضع لهم نظاما جديدا قررت الحكومة والأمة اتخاذه دستورا متبعا عشر سنين. فسولون كان فى قانونه منقحا ومجددا لقانون أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة نشأ فيها، فكان متعلما وفيلسوفا وحاكما وقائدا ورئيسا.
أفيقاس عليه محمد صلى الله عليه وسلم الأمى الذى لم يقرأ سطرا ولم ير كتابا، ولا تولى عملا إداريا ولا سياسيا؟ ثم إن ما جاء به لم يكن قانونا موضعيا منقحا لقوانين أخرى قبله، بل كان إصلاحا لجميع البشر فى عقائدهم وآدابهم وأحكامهم وسياستهم وحروبهم الخ؟ انظر أيها القارئ إلى شبهات ملاحدة المسلمين على دينهم ونبيهم الذى هو مناط شرفهم وفخرهم على الأمم!!