المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

(الوجه الأول): إن أكثر المقدمات التى أخذوا منها هذه النتيجة هى آراء متخيّلة، أو دعاوى باطلة، لا قضايا تاريخية ثابتة، كما بيناه عند ذكرها، وإذا بطلت المقدمات بطل لزوم النتيجة لها.

مثال ذلك: زعمهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم سمع من نصارى الشام خبر غلب الفرس وظهورهم على الروم؛ ليوهموا النّاس أنّ ما جاء فى أول سورة الروم من الإنباء بالمسألة، وبأن الروم سيغلبون الفرس بعد ذلك؛ هو مستمد مما سمعه صلى الله عليه وسلم من نصارى الشام، وهذا مردود بدلائل التاريخ والعقل؛ فأما التاريخ فإنه يحدثنا بأن ظهور الفرس على الروم كان فى سنة 610 م وذلك بعد رحلة محمد الأخيرة إلى الشام بأربع عشر سنة وقبل بدء الوحى بسنة. ثم إن التاريخ أنبأنا أنّ دولة الروم كانت مختلة معتلّة فى ذلك العهد بحيث لم يكن أحد يرجو أن تعود لها الكرّة والغلب على الفرس، حتى أن أهل مكة أنفسهم هربوا بالخبر، وراهن أبو بكر أحدهم على ذلك وأجازه النبى صلى الله عليه وسلم فربح الرهان «1» ، وأما العقل فإنه يحكم بأن مثل محمد فى سمو إدراكه المتفق عليه لا يمكن أن يجزم بأن الغلب سيعود للروم على الفرس فى مدة بضع سنين، لا من قبل الرأى ولا من الوحى النفسى المستمد من الأخبار غير الموثوق بها، وقد صحّ أن انتصار الروم وقع سنة 622 م، وكان وحى التبليغ للنبى صلى الله عليه وسلم سنة 614 م، فإذا فرضنا أنّ سورة الروم نزلت فى هذه السنة يكون النصر قد حصل بعد ثمانى سنين، وإن كان فى السنة الثانية تكون المدة سبع سنين، وهو المعتمد فى التفسير، والبضع يطلق على ما بين الثلاث والتسع.

والحكمة فى التعبير عن هذا النبأ بقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 2 - 4]، ولم يقل بعد سبع أو ثمان

(1) فى القصة روايات من طرق، فيها خلاف فيما قدروا فيه البضع وهو فى الأصل من 3 - 9 فقيل خمس وقيل ست، ولام النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تحديده، وقد أبهمه الله تعالى، وفى بعضها أنهم أخطئوا الأجل الأول فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يمادوهم فى الأجل ويزايدوهم فى الرهن ففعلوا ورضى المشركون. وكان الذى تولى قمارهم ابن خلف فأظهر الله الروم على الفرس عند انتهائه على رأس السبع من قمارهم الأول.

ص: 83

مثلا، هى إفادة أن الغلب يكون فى الحرب الممتدة فى هذه المدة، وأنباء الوحى والعبر لا تكون بأسلوب التاريخ يحدد الوقائع بالسنين، وليس فى وعود القرآن الكثيرة للمسلمين بالنصر وغيره من أنباء الغيب ذكر السنين ولا الشهور، فهذه الآية فريدة فى بابها.

ومثال آخر: ما زعموا من مروره صلى الله عليه وسلم فى رحلته إلى الشام بأرض مدين وحديثه مع أهلها، الذى أرادوا به أن يجعلوه أصلا لما جاء فى القرآن من أخبارها والخبر باطل كما أشرنا إليه عند نقلنا إياه فى المقدمات، ولو صحّ لما كان من المعقول أن يعتمد محمد على ما سمعه فى الطريق من أناس مجهولين لا يوثق بمعرفتهم ولا يصدقهم فيجعله أصلا للوحى الذى جاءه فى قصة موسى وقصة شعيب عليهما السلام.

(الوجه الثانى): لو كان النبىّ صلى الله عليه وسلم تلقى عن علماء النصارى فى الشام شيئا أو عاشرهم لنقل ذلك أتباعه الذين لم يتركوا شيئا علم عنه أو قيل فيه- ولو لم يثبت- إلا ودونوه ووكلوا أمر صحته أو عدمها إلى إسناده وما علم من سيرة رواته.

(الوجه الثالث): لو وقع ما ذكر لاتخذه أعداؤه من كبار المشركين شبهة يحتجون بها على أنّ ما يدعيه من الوحى قد تعلّمه فى الشام من النصارى، فإنهم كانوا يوردون عليه ما هو أضعف وأسخف من هذه الشبهة، وهو أنه كان فى مكة قين (حداد) روميّ يصنع السيوف وغيرها، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته فاتهموه بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103].

(الوجه الرابع): نصوص القرآن صريحة فى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل وقصصهم قبل الوحى، وهم متفقون معنا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكذب على أحد فضلا عن الكذب على الله عز وجل، كما اعترف بذلك أعدى أعدائه أبو جهل، كما أنهم متفقون معنا على قوة إيمانه بالله عز وجل ويقينه بكل ما أوحاه إليه.

ومن الشواهد على ذلك: قوله تعالى عقب قصة موسى فى مدين وما بعدها من سورة القصص: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الآيتان: 44، 45]، وقوله بعد قصة نوح من سورة هود: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

ص: 84

نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [الآية: 49]، ونحوه فى أواخر سورة يوسف بعد قصته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [الآية: 102].

ومن الشواهد التى لم يكن يعرفها أحد من أهل الكتاب قوله تعالى بعد قصة زكريا وولادة مريم وكفالته لها، فيتوهم أنه مأخوذ عنهم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].

الأقلام: جمع قلم تطلق على الأزلام والأقداح التى كانوا يلقونها لضرب القرعة لإزالة الخلاف فيما يتنازعون فيه، وعلى أقلام الكتابة، وتكون القرعة بأوراق تخلط بها كما هو المعهود فى عصرنا، والمعنى أنهم اختصموا وتنازعوا فى كفالة مريم وتربيتها عناية بأمرها فأصابت القرعة زكريا عليه وعليها السلام، كما قال تعالى فى أول قصتها.

(الوجه الخامس): أنه لم يرد فى الأخبار الصحيحة والمرفوعة «1» أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه بعض علماء اليهود والنصارى قبل بعثته، ولو روى عنه شىء من ذلك لدوّنه المحدثون لأنهم ما تركوا شيئا بلغهم عنه إلا ودوّنوه، كما رووا مثله عن أمية بن أبى الصلت، بل صرح القرآن المجيد بأنه لم يكن يرجو هذا ولا يؤمله، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86]، أى لكن ألقى إليك رحمة من ربك بك وبالناس كلهم لا كسب لك فيه بعلم ولا عمل، ولا رجاء، ولا أمل، فهذا تأكيد وتكميل الشاهد الأول من الوجه الرابع.

(الوجه السادس): أن حديث بدء الوحى الذى أثبته الشيخان فى الصحيحين، وغيرهما من المحدثين صريح فى أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الملك أول مرة ولم تجد زوجته خديجة بنت خويلد العاقلة المفكرة وسيلة يطمئن بها على نفسه، وتطمئن هى عليه إلا استفتاء أعلم العرب بهذا الشأن وهو ابن عمها ورقة بن نوفل الذى كان تنصر، وقرأ كتب اليهود والنصارى.

(الوجه السابع): لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه، وكان قد تم استعداده له باختلائه وتعبده فى الغار، وما صوروا به حاله فيه من الفكر المضطرب، والوجدان الملتهب، والقلب المتقلب، حتى إذا كمل استعداده. تجلّى له رجاؤه واعتقاده، بما تم به مراده، لظهر عقب ذلك كل ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثّابة، وفكرته الوقّادة، فى سورة

(1) الحديث المرفوع فى اصطلاح المحدثين ما صرح الصحابى بأنه من قول النبى صلى الله عليه وسلم.

ص: 85

أو سور من أبلغ سور القرآن، فى بيان أصول الإيمان، وتوحيد الديان، واجتثاث شجرة الشرك وعبادة الأوثان، وتشريع الأحبار والرهبان، واتخاذ الولد للرحمن، وإنذار رءوس الكفر والطغيان، ما سيلقون فى الدنيا من الخزى والنكال، وفى الآخرة من عذاب النار كسور المفصل ولا سيما (ق والقرآن المجيد)، والذاريات، والطور، والنجم والقمر، ثم الحاقة والنبأ، أو فى سورة أو أكثر من السور الوسطى التى تقرعهم بالحجج، وتأخذهم بالعبر، وتضرب لهم المثل، بسنن الله فى الرسل، كسور الأنبياء والحج والمؤمنون.

ولكنه ظل ثلاث سنين لم يتل فيها على الناس سورة ولم يدعهم إلى شىء ولا تحدث إلى أهل بيته ولا أصدقائه بمسألة من مسائل الإصلاح الدينى الذى توجهت إليه بزعمهم نفسه، ولا من ذم خرافات الشرك الذى ضاق به ذرعه. إذ لو تحدث بذلك لنقلوه عنه، وناهيك بألصق الناس به، خديجة وعلىّ وزيد بن حارثة فى بيته وأبى بكر الصديق الذى عاشره طول عمره- فهذا السكوت وحده فى فترة الوحى برهان قاطع على بطلان ما صوروا به استعداده للوحى الذاتى الذى زعموه، واستمداده لعلومه من التلقى الذى اختلقوه والاختبار الذى توهموه.

(الوجه الثامن): أن ما نقل من ترتيب نزول الوحى بعد هذه الفترة الطويلة جاء موافقا لما كان يتجدّد من الوقائع والحوادث الطارئة، دون ما زعموا من الأمور السابقة، فقد نزل ما بعد صدر سورة المدثر ردا على قول الوليد بن المغيرة المخزومى الذى قاله فى القرآن؛ فقد أراده أبو جهل أن يقول فيه قولا يبلغ قومه أنه منكر له، وأنه كاره له، بعد أن علم أنه تحرى استماعه من محمّد صلى الله عليه وسلم وأعجب به، قال له الوليد: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر، لا برجزه ولا بقصيدة منى، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله «1» ، وإنه ليعلو وما يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: دعنى حتى أفكر، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره من غيره، فنزلت الآيات: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)

وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً

[المدثر: 11، 12 إلى 30]. رواه الحاكم عن ابن عباس بإسناد صحيح على شرط البخارى.

وقد نزلت سورة اقرأ فسورة ن والقلم، فسورة المزمل قبل سورة المدثر، ونزل بعدها أكثر من ثلاثين سورة من قصار المفصل وأوساطه ليس فيها شىء مما زعموا أنه تلقاه أو شاهده

(1) وفى رواية: وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.

ص: 86

فى الأسفار، ولا مما وصفوا من أفكاره فى الغار، فليراجع ترتيب نزول السور فى كتاب الإتقان من شاء.

(الوجه التاسع): إن هذه المعلومات المحمدية التى تصورها هؤلاء المحللون لمسألة الوحى قليلة المواد ضيقة النطاق عن أن تكون مصدرا لوحى القرآن.

وإن القرآن لأعلى وأوسع وأكمل من كل ما كان يعرفه مثل بحيرا، ونسطور، وكل نصارى الشام ونصارى الأرض ويهودها. دع الأعراب الذين كان يمرّ بهم النبى صلى الله عليه وسلم بالطريق إلى الشام أو حضرهم.

وأن القرآن نزل مصدقا لكتب أهل الكتاب من حيث كونها فى الأصل من وحى الله إلى موسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم، ونزل أيضا مهيمنا عليها؛ أى: رقيبا وحاكما كما نصت عليه الآية (48) من سورة المائدة ومما حكم به على أهلها من اليهود والنصارى أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب «1» ، أى: لا كله ونسوا حظا آخر منه وأنهم حرفوا كلمه عن مواضعه «2» ، وبين كثيرا من المسائل الكبرى مما خالفوا واختلفوا فيه من العقائد والأحكام والأخبار «3» ، ومثل هذه الأحكام العليا عليهم، لا يمكن أن تكون مستمدة من أفراد من الرهبان أو غير الرهبان، أفاضوها على محمد فى رحلته التجارية إلى الشام. سواء أكان عند بعضهم بقية من التوحيد الموسوي والعيسوي الذى كان يقول به آريوس وأتباعه أم لا؟

وسواء أكان لدى بعضهم بقية من الأناجيل التى حكمت الكنيسة الرسمية بعد قانونيتها (أبو كريف) كإنجيل طفولة المسيح وإنجيل برنابا أم لا؟ فمحمد لم يعقد فى الشام ولا فى مكة مجمعا مسيحيا كمجامع الكنيسة للترجيح بين الأناجيل والمذاهب المسيحية ويحكم بصحة بعضها دون بعض.

إنّ وقوع مثل هذا منه فى تلك الرحلة مما يعلم واضعو هذه الأخبار ببداهة العقل مع عدم النقل أنه محال عادة، وعلى فرض وقوعه يقال: كيف يمكن أن يحكم بين تلك الأناجيل وتلك المذاهب برأيه فى تلك الخلسة التجارية للنظر فيها ويأمن على حكمه الخطأ؟

وقد صحّ عنه أنه قال لأصحابه فى شأن أهل الكتاب: «لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم «4» »،

(1) النساء: 44 - 51.

(2)

المائدة: 13 - 14.

(3)

آل عمران: 75، النساء: 46، المائدة: 13، 14.

(4)

رواه البخارى بهذا اللفظ، وأحمد والبزار من حديث جابر بلفظ:«لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعى» وسببه أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فعلم النبى صلى الله عليه وسلم فغضب وقاله.

ص: 87

يعنى فيما سكت عنه القرآن لئلا يكون ما كذبوهم فيه مما حفظوا أو يكون ما صدقوهم به مما نسوا حقيقته أو حرفوا أو بدلوا.

(الوجه العاشر): أن ما فى القرآن ما هو مخالف للعهدين العتيق والجديد، وهو مما لا يعلم إلى الآن أن أحدا من اليهود والنصارى قال به، كمخالفة سفر الخروج فيمن تبنت موسى، ففيه أنها ابنة فرعون وفى القرآن أنا امرأته، وفيما فيه من عزو صنع العجل الذى عبده بنو إسرائيل إلى هارون عليه السلام بعزوه إياه إلى السامرى وإثباته لإنكار هارون عليهم فيه، وغير ذلك.

بل ما جاء به محمد أكبر وأعظم من كل ما فى الكتب الإلهية ما صحّ منها وما لم يصح كما سنبينه.

رويدكم أيها المفتاتون «1» الذين يقولون ما لا يعلمون، إنّ وحى القرآن أعلى مما تزعمون، وأكبر مما تتصورون وتصورون، وإنّ محمدا أقل علما كسبيا مما تدعون وأكمل استعدادا لتلقى كلام الله عن الروح القدس مما تستكبرون.

وإذا كان وحى القرآن أعلى وأكمل من جميع ما حفظ عن أنبياء الله ورسله، لأنه الخاتم لهم، المكمّل لشرائعهم الخاصة الموقوتة، فأجدر به أن يكون أكمل مما وضعه (سولون) الفيلسوف اليونانى الذى شبه محمدا بأحد ملاحد عصرنا فى مصرنا، مع بعد الشبه بين أمى نشأ بين الأميين، وفيلسوف نشأ فى أمة حكمة، وتشريع ودولة وسياسة، ودخل فى كل أمور الأمة والدولة كسولون هذا «2» .

(1) يقال افتات فلان إذا سبق بفعل شىء واستبد له ولم يؤمر فيه من هو أحق منه بالأمر فيه لأنه أعلم به وأجدر بتحقيقه، ويقال: فلان لا يفتات عليه، أى لا يتداخل أحد فى أموره بدون أمره وإذنه. وأصله الهمز. فيقال: افتات عليه أيضا.

(2)

سولون: أحد فلاسفة اليونان السبعة فى القرن السابع قبل المسيح ووالدته؛ من أبناء بستاروتس آخر ملوك أثينا، وكان من رجال المال ورجال الحرب، وتولى فى بلاده بعض الأعمال الإدارية

والعسكرية وقيادة الجيش. وقد انتخب فى سنة 945 ق. م (أرخونا) أى رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها كلهم؛ وقلدوه سلطة مطلقة لتغيير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذى وضعه (زراكوت) من قبله، فوضع لهم نظاما جديدا قررت الحكومة والأمة اتخاذه دستورا متبعا عشر سنين. فسولون كان فى قانونه منقحا ومجددا لقانون أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة نشأ فيها، فكان متعلما وفيلسوفا وحاكما وقائدا ورئيسا.

أفيقاس عليه محمد صلى الله عليه وسلم الأمى الذى لم يقرأ سطرا ولم ير كتابا، ولا تولى عملا إداريا ولا سياسيا؟ ثم إن ما جاء به لم يكن قانونا موضعيا منقحا لقوانين أخرى قبله، بل كان إصلاحا لجميع البشر فى عقائدهم وآدابهم وأحكامهم وسياستهم وحروبهم الخ؟ انظر أيها القارئ إلى شبهات ملاحدة المسلمين على دينهم ونبيهم الذى هو مناط شرفهم وفخرهم على الأمم!!

ص: 88