الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم
إنّ أركان الدين الأساسية التى بعث الله تعالى بها جميع رسله، وناط بها سعادة البشر هى الثلاثة المبينة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، وهاك الكلام على كل واحد منها بالإيجاز، لأن المراد هنا بيان أن ما جاء به القرآن منها هو أتمّ وأكمل من المعروف فى سائر الأديان، وفيه صلاح لما أفسد أهل الملل من دين الأنبياء، مما طرأ على كتبهم من الضياع والتحريف، وما ابتدعوا فيه من الأهواء والتقاليد، وليس المراد بيانها فى ذاتها بالتفصيل الذى يتوقف عليه العمل، حتى إذا ثبت ما يقصده من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكون هذا القرآن كلام الله عز وجل أوحاه إليه، علم منه أنه يجب على المؤمن به أن يتعلم جميع ما فرضه عليه.
وهذه الأركان الثلاثة تدل عليها آثار الملل القديمة البائدة كالمصريين والكلدانيين، وبقايا كتب أممها الباقية كالهنود والمجوس والصينيين، وغرضنا فى هذا الكتاب أن نبين لجميع الشعوب المتدينة أن ما هم عليه من الدين ليس هو عين ما أوحاه الله إلى رسله الذين ظهروا فى أسلافهم، ولا هو بالمصلح لهم فى أنفسهم وأعمالهم، وإنّ الإسلام هو الدين الحقّ الثابت عقلا ونقلا، والمبين لكل ما يحتاجون إليه من الهداية، وبهذا الاعتبار جعلناها مقصدا واحدا لا ثلاثة، وجعلنا المقصد التالى له فى موضوع الرسل والرسالة.
الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى
إنّ الركن الأوّل الأعظم من هذه الأركان- وهو الإيمان بالله تعالى- قد ضلّ فيه جميع الأقوام والأمم. حتى أقربهم عهدا بهداية الرسل، فاليهود على حفظهم لأصل عقيدة التوحيد، قد غلب عليهم التشبيه، وغاب عنهم أن يجمعوا بين النصوص المتشابهة فى صفات الله وبين عقيدة التنزيه. فقد جعلوا الله كالإنسان بتعب ويندم على ما فعل، كخلقه
الإنسان؛ لأنه لم يكن يعلم أنه سيكون مثله أو مثل الآلهة «1» ، وزعموا أنه كان يظهر فى شكل الإنسان حتى إنه صارع إسرائيل، ولم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه «2» ، وعبدوا بعلا وغيره من الأصنام.
والنصارى جدّدوا من عهد قسطنطين الوثنيات القديمة، واتخذوا المسيح ربا وإلها وعبدوا القديسين وصورهم، حتى صارت كنائس النصارى كهياكل الوثنية الأولى مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة. على أنّ عقيدة التثليث والصّلب والفداء التى جعلوها أساس الدين- بل الدين كله- هى عقيدة الهنود فى كرشنة وثالوثة فى جملتها وتفصيلها وهى مدعومة بفلسفة خيالية غير معقولة، وبنظام يقوم بتنفيذه الملوك والقياصرة، وتبذل فى سبيله القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويربى عليه الأحداث من الصغر تربية وجدانية خيالية لا تقبل حجّة ولا برهانا، فغمر الشرك بالله هذه الأرض بطوفانه وطغت الوثنية على أهلها.
هدم القرآن معاقل هذه الوثنية وحصونها المشيدة فى الأفكار والقلوب، وما كان ليتم هذا بإقامة برهان عقلى أو عدة براهين على توحيد الله عز وجل؛ بل لا بد فيه من دحض الشبهات، وتفصيل الحجج العقلية والعلمية والمواعظ الخطابية بالعبارات المختلفة وضرب الأمثال. لذلك كان أكثر المسائل تكرارا فى القرآن مسألة توحيد الله عز وجل فى ألوهيته بعبادته وحده، واعتقاد أنّ كلّ ما سواه من الموجودات سواء فى كونهم ملكا وعبيدا له، لا يملكون من دونه نفعا ولا ضرا لأحد، ولا لأنفسهم إلا فيما سخره من الأسباب المشتركة بين الخلق.
وأمّا تكرار توحيد الربوبية، وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير والتشريع الدينى فليس لإقناع المعطلين والمشركين بربوبيته تعالى فقط. بل أكثره لإقامة الحجة به على بطلان شرك العبادة بدعاء غير الله تعالى لأجل التقرب إليه بأولئك الأولياء وابتغاء شفاعتهم عنده.
فشر الشرك وأوغله فى إفساد عقائد المؤمنين بالله من ضعفاء العقول. وحملهم على التدين بالأوهام والخرافات المخالفة لما أثبتته التجارب من سنن الله فى المخلوقات «3» ؛ إنما هو توجه
(1) فى سفر التكوين (3: 22 وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا بالخير والشر) وفيه (6: 6 فحزن الرب) وفى ترجمة أخرى (فندم أنه عمل الإنسان وتأسف فى قلبه).
(2)
راجع آخر الفصل 32 من سفر التكوين.
(3)
اشتدت وطأة البرد فى شتاء هذا العام (1352 هـ- 1933 م) وجاءت الأنباء من الشرق والغرب بكثرة الثلوج فى أقطارهما الشمالية وبعض المعتدلة، فعلل بعض المسلمين سلامة مصر منها بوجود أهل البيت فيها؛ يعنى القبور المشيدة لأسماء بعضهم؛ فبينت لمن سمعت منهم ذلك خطأهم من الناحية الشرعية ومن
العبد إلى غير الله تعالى فيما يشعر بالحاجة إليه من كشف ضرّ وجلب نفع من غير طريق الأسباب. فقد ذكر الدعاء فى القرآن أكثر من سبعين مرة. بل زهاء سبعين بعد سبعين مرة، لأنه روح العبادة ومخها. بل هو العبادة التى هى دين الفطرة كلّه، وما عداه من العبادات فوضعى تشريعى من تعليم الوحى فهو يغذيها وينقيها من شوائب الآراء، وينفى عنها تقاليد الأهواء.
بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى وحده، وبعضها نهى عن دعاء غيره مطلقا، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد، ومنها أمثال تصور كل منهما بالصور اللائقة المؤثرة، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب، وأن كل من يدعى من دونه تعالى فهو عبد له، وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء
يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشرك الذين يدعونهم من دون الله أو مع الله ويتبرءون منهم، وأمثال ذلك مما يطول شرحه، بل يضيق المقام عن تلخيصه.
وثم أنواع أخرى من آيات الإيمان بالله تعالى تغذى التوحيد، وتصعد بأهله درجات متفاوتة فى السّمو بمعرفته تعالى والتأله والتوله فى حبه، من التنزيه والتقديس والتسبيح له وذكر أسمائه الحسنى ممزوجة ببيان الأحكام الشرعية المختلفة حتى أحكام الطهارة والنساء والإرث والأموال، وبحكمه فى الخلق والتدبير لأمور العالم، وسننه فى طباع البشر وفى شئونهم الاجتماعية، ووضع كل اسم منها فى الموضع المناسب له من علم وحكمة وقدرة ومشيئة وحلم وعفو ومغفرة ورحمة وحب ورضا وما يقابل ذلك، ومن الأمر بالتوكل عليه والخوف منه لإجلاله أو لعدله، والرجاء فى رحمته وفضله؛ وناهيك بما سرد منها سردا لجذب الأرواح العالية إلى كماله المطلق وفنائها فى شهوده عن شهودها بله أهواءها وشهواتها كما تراه فى فاتحة سورة الحديد: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 1 - 3] إلخ.
ناحية سنن الله تعالى فى أسباب الحر والبرد والمطر والثلوج، وكون وجود القبور أو أهلها لا شأن له فى ذلك. وحدث فى هذا الشتاء زلزال عظيم فى الهند هدم به بعض البلاد. ما عدا المعابد الوثنية فى بعضها فاعتقد أهلها أن سبب بقائها عناية الله بحفظها لرضاه عن عبادتهم فيها. وإنما سببه قوة بنائها فإن أكثر معابد الأمم قوية البناء تمر عليها القرون وتفنى سائر الأبنية وهى باقية.
وفى آخر سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 - 24].
فهذه الأسماء الإلهية هى ينابيع الحياة الروحية فى القلوب، ومشرق أنوار المعارف الإلهية على العقول؛ ومنها استمدّ الأولياء العارفون والأئمة الربانيون تلك الحكم السامية، والكتب العالية فى معرفته تعالى وأسرار خلقه، والأدعية والقصائد فى حبّه ومناجاته. بعد أن تربوا بكثرة ذكره وتلاوة كتابه.
وهذا هو الغرض الأوّل من أمر القرآن المؤمنين بذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ليكون الله تعالى غالبا على أمرهم، كما قال فى وصف يوسف عليه السلام: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: 21]، فيمقتون الباطل والشر، ويكون كل حظّهم من الحياة الحق والخير، لما يثمره الذكر لهم من صلاة الله عليهم وملائكته ليخرجهم من الظلمات إلى النور كما قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 41 - 43].
بهذا التكرار الذى جعله أسلوب القرآن المعجز مقبولا غير مملول، طهّر الله عقول العرب وقلوبهم من رجس الشرك وخرافات الوثنية، وزكّاها بالأخلاق العالية والفضائل السامية.
وكذا غير العرب ممن آمن بالله وأتقن لغة كتابه، وصار يرتله فى عبادته ويتدبر آياته، حتى إذا دب فى الشعوب الإسلامية دبيب الجهل بلغة القرآن، وقل تدبره الذى فرضه الله عليهم، واعتمد المسلمون فى فهم عقيدتهم على الكتب الكلامية المصنفة، وفى أعمال عباداتهم على كتب الفقه الجافة، وفى تزكية أنفسهم على الأوراد البشرية المؤلفة، ضعف التوحيد فى قلوب الكثيرين، وشابته شوائب الشرك الأصغر ثم الأكبر، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع «1» اعتقادا وعملا، وتأولا وجدلا. فصار أدعياء العلم يتأولون تلك الآيات الكثيرة فى التوحيد بشبهاتهم وأهوائهم وتقاليدهم المبتدعة. وهجروا القرآن هجرا غير جميل، وعاقبهم الله بما أوعدهم كما هو مشاهد ومعلوم.
(1) أى مصدقا لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» . قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» . رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
على أن بعض المتكلمين قد تأوّلوا صفات الله تعالى بنظرياتهم الجدلية، وبعض الصوفية قد بالغوا فى التوحيد وفهم الصفات أو حملها على الأذواق والوجدانات الروحية، حتى أنكر بعضهم تأثير الأسباب فى مسبباتها، وانتهى بهم ذلك إلى بدعة الجبر التى أفسدت على أهلها كل شىء، وقال بعضهم بوحدة الوجود، بيد أن الأولين منهم كانوا يقولون بما يهديهم إليه النظر العقلى أو رياضة النفس وما تثمره من الشعور الوجدانى مع الاعتماد فى فهم النصوص على صميم اللغة والمأثور عن السلف ثم خلف من بعدهم خلف من المقلدين لا حظ لهم من القرآن ولا من البرهان ولا من الوجدان، وإنما يتبعون أهواء العوام ويتأوّلون لهم بكلام أمثالهم من المصنفين الجاهلين، ولو فقهوا أقصر سورة فى التوحيد والتنزيه كما يجب- وهى سورة الإخلاص- لما وجد الشرك إلى أنفسهم سبيلا.
إن عقيدة التوحيد القرآنى هى أعلى المعارف التى ترقى الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا له من الكمال الروحى والعقلى والمدنى. وقد صرح كثير من علماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم له وانهزام النصرانية من أمامه.
قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذى زكى أنفسهم، وأعلى هممهم، وكملهم بعزة النفس، وشدة البأس، وإقامة الحق
والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم، وإعتاقها من رق الكهنة والأحبار والرهبان والبوذات والموبذانات الروحى والعقلى، وتحريرهم من ظلم الملوك واستبدادهم وإقامة وإحياء العلوم والفنون الميتة وترقيتها فيهم، وقد تم لهم من كل ذلك ما لم يقع مثله ولا ما يقاربه لأمة من أمم الأرض. حتى قال الدكتور «غوستاف لوبون» المؤرخ الاجتماعى الشهير فى كتابه (تطور الأمم) إن ملكة الفنون لا يتم تكوينها لأمة من الأمم الناهضة إلا فى ثلاثة أجيال:
أوّلها جيل التقليد، وثانيها جيل الخضرمة، وثالثها جيل الاستقلال والاختصاص، قال: إلا العرب وحدهم فقد استحكمت لهم ملكة الفنون فى الجيل الأول الذى بدءوا فيه بمزاولتها.
وأقول: إنّ سبب ذلك تربية القرآن لهم على استقلال العقل والفكر واحتقار التقليد الأصم الأعمى، وتوطيد أنفسهم على إمامة البشر وقيادتها فى أمور الدين والدنيا معا، وقد خفى كل هذا على أسلافهم بعد ذهاب الخلافة الإسلامية، وزوال النهضة العربية وتحول السلطان إلى الأعاجم الذين لم يكن لهم من الإسلام إلا الظواهر التقليدية المنفصلة عن هداية القرآن.