المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى - الوحي المحمدي

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌على سبيل التقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:

- ‌الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:

- ‌الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:

- ‌(أولها): جهل بلاغة القرآن

- ‌(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

- ‌(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

- ‌(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

- ‌نتيجة هذه المقدمات:

- ‌بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام

- ‌فاتحة الطبعة الثانية

- ‌دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة

- ‌دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:

- ‌رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:

- ‌الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

- ‌تعريف الوحى لغة وشرعا:

- ‌النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

- ‌تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى

- ‌بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

- ‌وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى:

- ‌امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

- ‌صد الكنيسة عن الإسلام

- ‌الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

- ‌العجائب وما للمسيح منها

- ‌بحث في عجائب المسيح عليه السلام:

- ‌آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

- ‌تأثير العجائب فى الأفراد والأمم:

- ‌ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها:

- ‌درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

- ‌شبهة على الوحى

- ‌جواب المنار

- ‌تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

- ‌المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

- ‌المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل

- ‌المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

- ‌المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

- ‌المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش

- ‌المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

- ‌المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية

- ‌المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

- ‌المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

- ‌المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

- ‌نتيجة تلك المقدمات العشر

- ‌باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

- ‌القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

- ‌الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

- ‌آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

- ‌الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

- ‌أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى:

- ‌الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

- ‌اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

- ‌المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن:

- ‌فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

- ‌فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

- ‌فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

- ‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

- ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

- ‌الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

- ‌البعث الإنسانى جسمانى روحانى

- ‌الركن الثالث للدين: العمل الصالح

- ‌سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

- ‌سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

- ‌ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

- ‌شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

- ‌المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

- ‌1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم:

- ‌2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين:

- ‌3 - مسألة الشفاعة:

- ‌4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم:

- ‌بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

- ‌آيات الله تعالى فى خلقه نوعان:

- ‌سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب:

- ‌الغيب قسمان حقيقى وإضافى:

- ‌الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

- ‌الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

- ‌علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون:

- ‌المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

- ‌أعجوبة من خوارق الهنود

- ‌المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

- ‌عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

- ‌ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

- ‌لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

- ‌الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة

- ‌الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين:

- ‌المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

- ‌1 - الإسلام دين الفطرة:

- ‌2 - الإسلام دين العقل والفكر:

- ‌3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه:

- ‌الحكمة والفقه

- ‌4 - الإسلام دين الحجة والبرهان:

- ‌5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:

- ‌6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:

- ‌دحض شبهة، وإقامة حجة

- ‌7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة:

- ‌المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

- ‌الأصل الأول

- ‌الأصل الثانى:

- ‌الأصل الثالث:

- ‌الأصل الرابع:

- ‌الأصل الخامس:

- ‌الأصل السادس:

- ‌الأصل السابع:

- ‌الأصل الثامن:

- ‌المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

- ‌الأولى

- ‌الثانية

- ‌الثالثة

- ‌ الرابع

- ‌الخامسة

- ‌السادسة

- ‌السابعة

- ‌الثامنة

- ‌التاسعة

- ‌العاشرة

- ‌المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

- ‌القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى

- ‌أصول التشريع فى الإسلام

- ‌قواعد الاجتهاد من النصوص

- ‌العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم

- ‌حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه:

- ‌قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

- ‌المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

- ‌تمهيد:

- ‌القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر

- ‌القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

- ‌القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

- ‌القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

- ‌القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

- ‌القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

- ‌القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

- ‌المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

- ‌أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان:

- ‌أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

- ‌القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان

- ‌القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

- ‌القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

- ‌القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها

- ‌القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

- ‌القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها

- ‌القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

- ‌حكمة الجزية وسببها وما تسقط به:

- ‌المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

- ‌المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

- ‌هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

- ‌الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان

- ‌الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

- ‌النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل

- ‌النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

- ‌النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود

- ‌النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته)

- ‌علاوة فى عتق غير المسلم

- ‌الوصية بالمماليك

- ‌نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام

- ‌علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

- ‌الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين:

- ‌معجزات القرآن الطبيعية والفلكية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

‌المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم

إنّ أركان الدين الأساسية التى بعث الله تعالى بها جميع رسله، وناط بها سعادة البشر هى الثلاثة المبينة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، وهاك الكلام على كل واحد منها بالإيجاز، لأن المراد هنا بيان أن ما جاء به القرآن منها هو أتمّ وأكمل من المعروف فى سائر الأديان، وفيه صلاح لما أفسد أهل الملل من دين الأنبياء، مما طرأ على كتبهم من الضياع والتحريف، وما ابتدعوا فيه من الأهواء والتقاليد، وليس المراد بيانها فى ذاتها بالتفصيل الذى يتوقف عليه العمل، حتى إذا ثبت ما يقصده من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكون هذا القرآن كلام الله عز وجل أوحاه إليه، علم منه أنه يجب على المؤمن به أن يتعلم جميع ما فرضه عليه.

وهذه الأركان الثلاثة تدل عليها آثار الملل القديمة البائدة كالمصريين والكلدانيين، وبقايا كتب أممها الباقية كالهنود والمجوس والصينيين، وغرضنا فى هذا الكتاب أن نبين لجميع الشعوب المتدينة أن ما هم عليه من الدين ليس هو عين ما أوحاه الله إلى رسله الذين ظهروا فى أسلافهم، ولا هو بالمصلح لهم فى أنفسهم وأعمالهم، وإنّ الإسلام هو الدين الحقّ الثابت عقلا ونقلا، والمبين لكل ما يحتاجون إليه من الهداية، وبهذا الاعتبار جعلناها مقصدا واحدا لا ثلاثة، وجعلنا المقصد التالى له فى موضوع الرسل والرسالة.

‌الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى

إنّ الركن الأوّل الأعظم من هذه الأركان- وهو الإيمان بالله تعالى- قد ضلّ فيه جميع الأقوام والأمم. حتى أقربهم عهدا بهداية الرسل، فاليهود على حفظهم لأصل عقيدة التوحيد، قد غلب عليهم التشبيه، وغاب عنهم أن يجمعوا بين النصوص المتشابهة فى صفات الله وبين عقيدة التنزيه. فقد جعلوا الله كالإنسان بتعب ويندم على ما فعل، كخلقه

ص: 121

الإنسان؛ لأنه لم يكن يعلم أنه سيكون مثله أو مثل الآلهة «1» ، وزعموا أنه كان يظهر فى شكل الإنسان حتى إنه صارع إسرائيل، ولم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه «2» ، وعبدوا بعلا وغيره من الأصنام.

والنصارى جدّدوا من عهد قسطنطين الوثنيات القديمة، واتخذوا المسيح ربا وإلها وعبدوا القديسين وصورهم، حتى صارت كنائس النصارى كهياكل الوثنية الأولى مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة. على أنّ عقيدة التثليث والصّلب والفداء التى جعلوها أساس الدين- بل الدين كله- هى عقيدة الهنود فى كرشنة وثالوثة فى جملتها وتفصيلها وهى مدعومة بفلسفة خيالية غير معقولة، وبنظام يقوم بتنفيذه الملوك والقياصرة، وتبذل فى سبيله القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويربى عليه الأحداث من الصغر تربية وجدانية خيالية لا تقبل حجّة ولا برهانا، فغمر الشرك بالله هذه الأرض بطوفانه وطغت الوثنية على أهلها.

هدم القرآن معاقل هذه الوثنية وحصونها المشيدة فى الأفكار والقلوب، وما كان ليتم هذا بإقامة برهان عقلى أو عدة براهين على توحيد الله عز وجل؛ بل لا بد فيه من دحض الشبهات، وتفصيل الحجج العقلية والعلمية والمواعظ الخطابية بالعبارات المختلفة وضرب الأمثال. لذلك كان أكثر المسائل تكرارا فى القرآن مسألة توحيد الله عز وجل فى ألوهيته بعبادته وحده، واعتقاد أنّ كلّ ما سواه من الموجودات سواء فى كونهم ملكا وعبيدا له، لا يملكون من دونه نفعا ولا ضرا لأحد، ولا لأنفسهم إلا فيما سخره من الأسباب المشتركة بين الخلق.

وأمّا تكرار توحيد الربوبية، وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير والتشريع الدينى فليس لإقناع المعطلين والمشركين بربوبيته تعالى فقط. بل أكثره لإقامة الحجة به على بطلان شرك العبادة بدعاء غير الله تعالى لأجل التقرب إليه بأولئك الأولياء وابتغاء شفاعتهم عنده.

فشر الشرك وأوغله فى إفساد عقائد المؤمنين بالله من ضعفاء العقول. وحملهم على التدين بالأوهام والخرافات المخالفة لما أثبتته التجارب من سنن الله فى المخلوقات «3» ؛ إنما هو توجه

(1) فى سفر التكوين (3: 22 وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا بالخير والشر) وفيه (6: 6 فحزن الرب) وفى ترجمة أخرى (فندم أنه عمل الإنسان وتأسف فى قلبه).

(2)

راجع آخر الفصل 32 من سفر التكوين.

(3)

اشتدت وطأة البرد فى شتاء هذا العام (1352 هـ- 1933 م) وجاءت الأنباء من الشرق والغرب بكثرة الثلوج فى أقطارهما الشمالية وبعض المعتدلة، فعلل بعض المسلمين سلامة مصر منها بوجود أهل البيت فيها؛ يعنى القبور المشيدة لأسماء بعضهم؛ فبينت لمن سمعت منهم ذلك خطأهم من الناحية الشرعية ومن

ص: 122

العبد إلى غير الله تعالى فيما يشعر بالحاجة إليه من كشف ضرّ وجلب نفع من غير طريق الأسباب. فقد ذكر الدعاء فى القرآن أكثر من سبعين مرة. بل زهاء سبعين بعد سبعين مرة، لأنه روح العبادة ومخها. بل هو العبادة التى هى دين الفطرة كلّه، وما عداه من العبادات فوضعى تشريعى من تعليم الوحى فهو يغذيها وينقيها من شوائب الآراء، وينفى عنها تقاليد الأهواء.

بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى وحده، وبعضها نهى عن دعاء غيره مطلقا، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد، ومنها أمثال تصور كل منهما بالصور اللائقة المؤثرة، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب، وأن كل من يدعى من دونه تعالى فهو عبد له، وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء

يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشرك الذين يدعونهم من دون الله أو مع الله ويتبرءون منهم، وأمثال ذلك مما يطول شرحه، بل يضيق المقام عن تلخيصه.

وثم أنواع أخرى من آيات الإيمان بالله تعالى تغذى التوحيد، وتصعد بأهله درجات متفاوتة فى السّمو بمعرفته تعالى والتأله والتوله فى حبه، من التنزيه والتقديس والتسبيح له وذكر أسمائه الحسنى ممزوجة ببيان الأحكام الشرعية المختلفة حتى أحكام الطهارة والنساء والإرث والأموال، وبحكمه فى الخلق والتدبير لأمور العالم، وسننه فى طباع البشر وفى شئونهم الاجتماعية، ووضع كل اسم منها فى الموضع المناسب له من علم وحكمة وقدرة ومشيئة وحلم وعفو ومغفرة ورحمة وحب ورضا وما يقابل ذلك، ومن الأمر بالتوكل عليه والخوف منه لإجلاله أو لعدله، والرجاء فى رحمته وفضله؛ وناهيك بما سرد منها سردا لجذب الأرواح العالية إلى كماله المطلق وفنائها فى شهوده عن شهودها بله أهواءها وشهواتها كما تراه فى فاتحة سورة الحديد: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 1 - 3] إلخ.

ناحية سنن الله تعالى فى أسباب الحر والبرد والمطر والثلوج، وكون وجود القبور أو أهلها لا شأن له فى ذلك. وحدث فى هذا الشتاء زلزال عظيم فى الهند هدم به بعض البلاد. ما عدا المعابد الوثنية فى بعضها فاعتقد أهلها أن سبب بقائها عناية الله بحفظها لرضاه عن عبادتهم فيها. وإنما سببه قوة بنائها فإن أكثر معابد الأمم قوية البناء تمر عليها القرون وتفنى سائر الأبنية وهى باقية.

ص: 123

وفى آخر سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 - 24].

فهذه الأسماء الإلهية هى ينابيع الحياة الروحية فى القلوب، ومشرق أنوار المعارف الإلهية على العقول؛ ومنها استمدّ الأولياء العارفون والأئمة الربانيون تلك الحكم السامية، والكتب العالية فى معرفته تعالى وأسرار خلقه، والأدعية والقصائد فى حبّه ومناجاته. بعد أن تربوا بكثرة ذكره وتلاوة كتابه.

وهذا هو الغرض الأوّل من أمر القرآن المؤمنين بذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ليكون الله تعالى غالبا على أمرهم، كما قال فى وصف يوسف عليه السلام: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: 21]، فيمقتون الباطل والشر، ويكون كل حظّهم من الحياة الحق والخير، لما يثمره الذكر لهم من صلاة الله عليهم وملائكته ليخرجهم من الظلمات إلى النور كما قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 41 - 43].

بهذا التكرار الذى جعله أسلوب القرآن المعجز مقبولا غير مملول، طهّر الله عقول العرب وقلوبهم من رجس الشرك وخرافات الوثنية، وزكّاها بالأخلاق العالية والفضائل السامية.

وكذا غير العرب ممن آمن بالله وأتقن لغة كتابه، وصار يرتله فى عبادته ويتدبر آياته، حتى إذا دب فى الشعوب الإسلامية دبيب الجهل بلغة القرآن، وقل تدبره الذى فرضه الله عليهم، واعتمد المسلمون فى فهم عقيدتهم على الكتب الكلامية المصنفة، وفى أعمال عباداتهم على كتب الفقه الجافة، وفى تزكية أنفسهم على الأوراد البشرية المؤلفة، ضعف التوحيد فى قلوب الكثيرين، وشابته شوائب الشرك الأصغر ثم الأكبر، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع «1» اعتقادا وعملا، وتأولا وجدلا. فصار أدعياء العلم يتأولون تلك الآيات الكثيرة فى التوحيد بشبهاتهم وأهوائهم وتقاليدهم المبتدعة. وهجروا القرآن هجرا غير جميل، وعاقبهم الله بما أوعدهم كما هو مشاهد ومعلوم.

(1) أى مصدقا لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» . قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» . رواه البخارى ومسلم وغيرهما.

ص: 124

على أن بعض المتكلمين قد تأوّلوا صفات الله تعالى بنظرياتهم الجدلية، وبعض الصوفية قد بالغوا فى التوحيد وفهم الصفات أو حملها على الأذواق والوجدانات الروحية، حتى أنكر بعضهم تأثير الأسباب فى مسبباتها، وانتهى بهم ذلك إلى بدعة الجبر التى أفسدت على أهلها كل شىء، وقال بعضهم بوحدة الوجود، بيد أن الأولين منهم كانوا يقولون بما يهديهم إليه النظر العقلى أو رياضة النفس وما تثمره من الشعور الوجدانى مع الاعتماد فى فهم النصوص على صميم اللغة والمأثور عن السلف ثم خلف من بعدهم خلف من المقلدين لا حظ لهم من القرآن ولا من البرهان ولا من الوجدان، وإنما يتبعون أهواء العوام ويتأوّلون لهم بكلام أمثالهم من المصنفين الجاهلين، ولو فقهوا أقصر سورة فى التوحيد والتنزيه كما يجب- وهى سورة الإخلاص- لما وجد الشرك إلى أنفسهم سبيلا.

إن عقيدة التوحيد القرآنى هى أعلى المعارف التى ترقى الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا له من الكمال الروحى والعقلى والمدنى. وقد صرح كثير من علماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم له وانهزام النصرانية من أمامه.

قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذى زكى أنفسهم، وأعلى هممهم، وكملهم بعزة النفس، وشدة البأس، وإقامة الحق

والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم، وإعتاقها من رق الكهنة والأحبار والرهبان والبوذات والموبذانات الروحى والعقلى، وتحريرهم من ظلم الملوك واستبدادهم وإقامة وإحياء العلوم والفنون الميتة وترقيتها فيهم، وقد تم لهم من كل ذلك ما لم يقع مثله ولا ما يقاربه لأمة من أمم الأرض. حتى قال الدكتور «غوستاف لوبون» المؤرخ الاجتماعى الشهير فى كتابه (تطور الأمم) إن ملكة الفنون لا يتم تكوينها لأمة من الأمم الناهضة إلا فى ثلاثة أجيال:

أوّلها جيل التقليد، وثانيها جيل الخضرمة، وثالثها جيل الاستقلال والاختصاص، قال: إلا العرب وحدهم فقد استحكمت لهم ملكة الفنون فى الجيل الأول الذى بدءوا فيه بمزاولتها.

وأقول: إنّ سبب ذلك تربية القرآن لهم على استقلال العقل والفكر واحتقار التقليد الأصم الأعمى، وتوطيد أنفسهم على إمامة البشر وقيادتها فى أمور الدين والدنيا معا، وقد خفى كل هذا على أسلافهم بعد ذهاب الخلافة الإسلامية، وزوال النهضة العربية وتحول السلطان إلى الأعاجم الذين لم يكن لهم من الإسلام إلا الظواهر التقليدية المنفصلة عن هداية القرآن.

ص: 125