الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم
إنّ الأمور التى تأتى فى الظاهر على غير السنن المعروفة. أو الخارقة للعادات المألوفة، منقولة عن جميع الأمم فى جميع العصور نقلا متواترا فى جنسه دون جميع أنواع أو أفراد وقائعه، وليست كلّها خوارق حقيقية، فإن منها ما له من أسباب مجهولة للجمهور، وإن منها لما هو صناعى يستفاد بتعليم خاص، وإن منها لما هو من خصائص قوى النفس فى توجيهها إلى مطالبها، وفى تأثير أقوياء الإرادة فى ضعفائها، ويدخل فى هذين المكاشفة فى بعض الأمور والتنويم المغناطيسى، وشفاء بعض المرضى ولا سيما المصابين بالأمراض العصبية التى يؤثر فيها الاعتقاد والوهم، ومنها بعض أنواع العمى والفالج، فإن من الناس من يفقد بصره بمرض يطرأ على أعصاب عينيه وهما صحيحان تلمعان فى وجهه، أو يغشاهما بياض عارض مع بقاء طبقاتهما صحيحة، وليس منه الكمه والعمى الذى يقع بطمس العينين وغئورهما كالذى أبرأه المسيح عليه السلام بإذن الله تعالى.
ومنه انخداع البصر بالتخييل الذى يحذقه المشعوذون، ومنه ما فعله سحرة فرعون المبين بقوله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66].
ومنه انخداع السمع كالذى يفعله الذين يدّعون استخدام الجن إذ يتكلمون ليلا بأصوات غريبة غير أصواتهم المعتادة فيظن مصدّقهم أنّ ذلك صوت الجنى، وقد يتكلمون نهارا من بطونهم من غير أن يحركوا شفاههم «1» ، فلا ينبغى أن يوثق بشيء من أخبارهم ولا من نقلهم، ومن الدلائل على كذب المنتحلين لهذه الغرائب إنهم جعلوها وسيلة لمعايشهم الدنيئة، وأنهم لو كانوا صادقين فيها لتنافس الملوك وكبار علماء الكون فى صحبتهم والانتفاع بهم.
وقد بينّا هذه الأنواع من الخوارق الصورية فى بحث السحر من تفسير سورة الأعراف «2» ، وفى المقالات التى عقدناها للكرامات وأنواعها وتعليلها فى المجلد الثانى من المنار، وأتممناها فى المجلد السادس منه.
(1) قد حدث فى هذه السنة افتضاح دجالة اتخذت دعوى استخدام الجن صناعة لها فرفعت عليها قضايا وقد قرأنا فى بعض الجرائد عند تقديم هذه الكراسة لجمعها للطبعة الثانية أن حيلتها الصناعية بالكلام الذى يسمع صوته من جوفها وتوهم به المخدوعين أنه كلام الجنى قد عرفت فى أثناء التحقيق.
(2)
راجع ص 45 - 60 ج 9 من تفسير المنار.
إنّ عوام الشعوب الذين يجهلون تواريخ الأمم، وما وجد عند كل منها من هذه الغرائب، ومما كشفه العلماء من حيل فيها وعلل، يغترون بما عندهم منها، ويخضعون للدجالين والمحتالين الذين ينتحلونها، ويمكنونهم من أموالهم فيسلبونها، ويأتمنونهم على أعراضهم فينتهكونها، ولا سيما إذا كانوا يأتون ما يأتون منها، على أنه من كرامات الأولياء وعجائب القديسين، ويقل تصديق هذا أو الانقياد لأهله حيث ينتشر تعليم التواريخ وما عند جميع الأمم من ذلك، على أنه لا يزال كثيرا فى جميع بلاد أوروبا وأمريكا، ولعله دون ما فى بلاد الشرق ولا سيما القرى وهمج الزنوج وغيرهم.
بيد أن آيات الله الحقيقية التى نسميها المعجزات هى فوق هذه الأعمال الصناعية الغريبة لا كسب لأحد من البشر ولا صنع لهم فيها، وأن ما أيد به رسله منها لم يكن يكسبهم ولا عملهم ولا تأثيرهم، حتى ما يكون بدؤه بحركة إرادية يأمرهم الله تعالى بها، ألم يهد لك كيف خاف موسى عليه السلام حين تحولت عصاه حية تسعى، فولّى مدبرا ولم يعقب «1» لشدة خوفه منها، حتى هدأ الله روعه وأمن خوفه؟ أو لم تقرأ قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17]؟، أو لم تفهم ما أمره الله تعالى أن يجيب به مقترحى الآيات عليه من قومه بقوله: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93]؟، وقوله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الأنعام: 109] وما فى معناهما؟!.
(1) يعقب: بتشديد القاف أى لم يلتفت ولم يرجع.