الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن ما جرى للفقير الهندى مخالف لسنّة الحياة العامة فى الناس، فإذا ثبت أنه وقع بطريقة كسبية من طريق رياضة هؤلاء الصوفية لأبدانهم وأنفسهم بما تبقى به الحياة كامنة فى أجسادهم مثل هذه المدة الطويلة مع انتفاء أسبابها العامة فى أحوال الناس الاعتيادية من دورة الدم والنفس وغير ذلك، فلا وجه لاتخاذ أحد من العقلاء إنكار كل ما يخالف السّنن العامة قاعدة عامة، ولا سيما فعل الخالق عز وجل لها وهو خالق كلّ شىء بقدرته، وواضع نظام السّنن والأسباب بمشيئته، وأكثر منكرى الخوارق يؤمنون به، وإنما ينكرون وقوع شىء مخالف لسننه بأنه مناف لحكمته، ومن ذا الذى أحاط بحكمه أو بسننه علما؟
وإنما الذى يقضى به العقل أن لا نصدق بوقوع شىء على خلاف السّنن الثابتة المطردة فى نظام الأسباب العامة إلا إذا ثبت ثبوتا قطعيا لا يحتمل التأويل، وهذا هو المعتمد عند المحقّقين من المسلمين وعلماء المادة وعلماء النفس وغيرهم، وقد ثبت فى هذا العصر من خواص الكهرباء وغيرها ما لو قيل لعقلاء الناس وحكمائهم قبل ثبوته بالفعل إنه من الممكنات، لحكموا على مدعى مكانه بالجنون لا بتصديق الخرافات كما قلنا من قبل «1» .
المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية
المعجزات كلّها من الله تعالى لا من كسب الأنبياء كما نطق به القرآن الكريم، ولكنها بحسب مظهرها قسمان: قسم لا يعرف له سنة إلهية يجرى عليها فهو يشبه الأحكام الاستثنائية فى قوانين الحكومات، وأما ما يكون بإرادة سنية من الملوك لمصلحة خاصة- ولله المثل الأعلى- وقسم يقع بسنة إلهية وروحانية لا مادية.
أما المأثور من آيات الله التى أيد بها موسى (ع. م) وأثبتها القرآن له كالآيات التسع بمصر فهى من القسم الأول، ولم يكن شىء منها بكسب له حقيقى ولا صورى، وكذلك الآيات الأخرى التى ظهرت فى أثناء خروجه ببنى إسرائيل ومدة التيه، بل كل ذلك كان بفعل الله بدون سبب كسبى لموسى (ع. م) إلا ما يأمره الله تعالى به من ضرب البحر أو الحجر بعصاه التى هى آيته الكبرى. ولم ينقل عن أحد من الأنبياء آية كهذه الآيات فضلا عمّن دونهم، ولا هى مما يحتمل أن يكون بسبب من الأسباب الروحية التى
تكون لأحد من الناس بالرياضة وتوجيه الإرادة أو خواص المادة وقواها.
وأما المسيح (ع. م) فالآيات التى أيده الله تعالى بها- على كونها خارقة للعادات
(1) إن الصحف قد نقلت إلينا فى هذا العام من عجائب صوفية الهند أيضا ما هو أعجب مما تقدم.
الكسبية وعلى خلاف السنن المعروفة للناس- قد يظهر فيها أنها كلها أو جلها حدث على سنة الله فى عالم الأرواح كما كان خلقه كذلك، فقد حملت أمه به بنفخة من روح الله عز وجل فيها (وهو الملك جبريل عليه السلام كانت سبب علوقها به بفعلها فى الرحم ما يفعل مسيح الرجل بقدرة الله عز وجل، فلا غرو إن كانت مظاهر آياته أعظم من مظاهر سائر الروحانيين من الأنبياء والأولياء كالكشف وشفاء بعض المرضى وغير ذلك من التأثير فى المادة الذى اشتهر عن كثير منهم، والفرق بينه وبين الروحانيين من صوفية الهنود والمسلمين أن روحانيته عليه السلام أقوى وأكمل، وأقدس وأفضل، وإنها لم تكن بعمل كسبى منه. بل من أصل خلق الله عز وجل إياه بآية منه كما قال الله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91]، وقال:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50]، فآيتهما هى الحمل به وخلقه بنفخ الروح الإلهى. لا بسبب التلقيح البشرى، ولا بما قيل من احتمال وجود مادتى الذكورة والأنوثة فى رحمها كوجودها فى بعض الأحياء الدنيا.
وأعظم آياته الروحانية التى أثبتها له التنزيل ولم ينقلها مؤلفو الأناجيل الأربعة وروى أنها منصوصة فى إنجيل الطفولة الذى نبذته المجامع الكنسية قبل البعثة المحمدية ففقد من العالم) هى أنه كان يأخذ قطعة من الطين فيجعلها بهيئة طير فينفخ فيه (أى من روحه) فيكون طيرا بإذن الله تعالى ومشيئته، والمروى أنه كان يطير قليلا ويقع ميتا، ودون هذا إحياء الميت الصحيح الجسم القريب العهد بالحياة فإن توجيه سيال روحه القوى إلى جثة الميت مع توجيه قلبه إلى الله عز وجل ودعائه كاد يكون سببا روحانيا لإعادة روحه إليه بإذن الله ومشيئته، كما يمس النور ذبال السراج المنطفئ فتشتعل، أو كما يتصل السلك الحامل للكهربائية الإيجابية بالسلك الحامل للكهربائية السلبية بعد انقطاعها فيتألق النور منهما، وما ينقل عن صوفية الهنود إعادة الحياة إلى ميت مؤقتا فهو إن صحّ مكسوب بالرياضة، وقد ثبت عن بعض أطباء هذا العصر إعادة الحياة الحيوانية إلى فاقدها عقب فقدها بعملية جراحية أو بمعالجة للقلب.
ومن دون هذا وذاك شفاء بعض الأمراض ولا سيما العصبية سواء أكان سببها مس الشيطان وتلبسه بالمجنون كما فى الأناجيل أم غيره، فإن الشيطان روح خبيث لا يستطيع البقاء مع توجيه الروح الطاهر الذى هو شعلة من روح القدس جبريل عليه السلام واتصاله بمن تلبس به، وقد وقع مثل هذا لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الروحانيين حتى أن
تلميذه العلامة المحقق ابن القيم ذكر أنه أرسله أو رجلا آخر إلى مصروع وخاطب الجنى الذى فيه بقوله: الشيخ يأمرك أن تخرج، فخرج وشفى الرجل فى الحال، وما من مرض عصى أو غيره إلا وهو ضعف فى الحياة حقيق بأن يزول باتصال هذا الروح بالمصاب به وبما دونه من تأثير النفس.
ومن دون هذا وذاك المكاشفات المعبر عنها فيما حكاه تعالى عنه «1» بقوله: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49]، وقد أنبأ غيره من أنبياء بنى إسرائيل وغيرهم، وكذا غيرهم من الروحانيين ولا سيما صالحى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما هو أعظم من هذا من الأمور المستقبلة ولكنها درجات متفاوتة فى القوة والضعف، وطول المدة وقصرها، والثقة بالمرئى وعدمها، وإدراك الحاضر الموجود، والغائب المفقود، وما كان فى الأزمنة الماضية، وما يأتى فى الأزمنة المستقبلة، فأعلاها خاص بالأنبياء إذا لم يوجد ولن يوجد بشر يعلم بالكشف ما وقع منذ القرون الأولى كأخبار القرآن من الرسل الأولين مع أقوامهم، أو ما يقع بعد سنين فى المستقبل كإخباره عن عودة الكرة للروم على الفرس، وإخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الأمصار واتباع الأمم لأمته، ثم بتداعيهم عليها كما يتداعى الآكلون إلى قصعة الطعام، وقد أخبر بعض أصحابه بأعيانهم بما يقع من ذلك فى زمنهم كسقوط ملك كسرى، وسنعقد فصلا خاصا بأخبار الغيب فى القرآن والحديث فى الجزء التالى كما وعدنا فى فاتحة هذه الطبعة، ومن المكاشفات الثابتة فى هذا العصر ما يسمّونه قراءة الأفكار، وقد شاهدنا من فعله، ومنها مراسلة الأفكار كما تقدّم.
فتبين بهذا وذاك أن آيات الله تعالى المشهور لموسى (ع. م) بمحض قدرته تعالى دون سننه الظاهرة فى قواه الروحية، وأنّ آياته لعيسى (ع. م) بخلاف ذلك، والنوع الأول أدل على قدرة الله تعالى ومشيئته واختياره فى أفعاله فى نظر البشر لبعدها عن نظام الأسباب والمسببات التى تجرى عليها أفعالهم
(1) وقد سبقه إلى مثل هذا يوسف (ع. م) بما يحكى الله من قوله لصاحبه فى السجن: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [يوسف: 37].